ما أن فرغت من قراءة» خربة الشيخ أحمد» حتى سجّلت لكاتبها تسجيلاً صوتياً، لم يكن نقدياً، بل كان من جنسِ فعل السرد، السرد الذي خلّف في حلقي غصّةً أشبَهُ بحبة تحت الجفن، مؤرقة ومستفّزة، وذهبتُ في التباس بينَ البكاء والابتسام الخفيف، بين حزن من خسارتي لنموذجي الذي اخترته في مفصل الرويّ، وانتصار يصنعهُ الراوي له، ويصنعهُ هو للراوي، في تماهٍ حي بين الاثنين كصانعي دهشةٍ، وبينهما في فراقهما ليقول كلّ منهما جملتهُ الأثيرة أو حدثهُ المُشكل!
عدتُ آنها إلى حوارات جمعتنا الشيخ حسن وأنا عن الرواية، ما إذا كانت ابنة شرعية للمدينة، وإذا كان دخول «الريفيين» عليها انتهاكاً لها، وتعدياً على» أهل الكار» كان ظاهر السؤال عامّاً، فضفاضاً، وسهلا الخوض فيه، غيرَ أنّ باطنهُ كانَ يتصيّدُ في القرار لا في السطح، في المحايثة لا في الواضح، في الشائك المعقّد لا في السهلِ المفتّح، ولهذا ذهبنا إلى الشخصية الإشكالية والحدث المركّب، الشرطين اللذين يمكن لهما العيش في بيئة بكرٍ، مفتوحة على الشفوي، وشبه مغلقة على الكتابة، وكان بما رأينا أنّ كتابةً تتصدىّ لهذه الفجوج الواسعة وغير المنتهكةِ، يتطلّب مراناً ومهارةً لتأتيا بنكهة الريح المقبلة من الغرب، ولسعة السموم من الشرق، لغةٌ قادرةٌ على ترجمة زوابع الغبار الخريفية، والجنيّات سكناها، لغةٌ تعبر بقارئ محايد إلى تمثّل منطقة ليست منطقته، ومنطقاً ليس منطقه.
أقرأ الشيخ حسن ليس في» خربة الشيخ أحمد» وإنّما أقرأة في حسّه المبكر بأسئلته، ودرايته في اكتناز أدواتهِ ومفردتهِ التي حملتهُ إلى حقلهِ الجديد شكلاً، والقديم من قبل في مناوشاتهِ الشعرية، وإذ هو أسّسَ إلى حدّ كبير لمقولتهِ الروائية فهو لم يكن ليتنكّر لمنجزٍ سبقهُ كانَ يضع المكان وشخصية ما في مجموعِ علاقات تتعارك وتتعايش، غير أنّها لم تخلص بالقدر الذي أخلصت له» خربة الشيخ أحمد» وثيقة الانتماء إلى الشاوي نفسياً ومكانياً، طبعاً خارج مفهوم الاستلاب الذي يصنّف الناس، وفق أعلى وأدنى، فحول ومخصيين، متعلمين وأميين، أناس بكرافيته وآخرين بحطة الرأس والعباءة!
اختلافٌ في المعالجة واختلافٌ في الموضوع
عيسى الشيخ حسن في «خربة الشيخ أحمد» يحاججُ عن أهمية المكان في صناعة حكاية، وعن الشخصية العادية في المروي والحكائي، ليكون شخصيةً ملتبسة، يمكن من خلالها تمرير الأسئلة القلقة، التي تتطلبُ ضبطاً مكيناً، تقولهُ» الربعة» لكنها لا تضعهً في سياقهِ المعرفي لإغراقها في شفويتها، وعدم انتظامها وفق محددات السرد، المافوق حكائية، وعليه فياسين بطل الخربة هو ياسينات تتقاطع معه، سواء من ضياع النسب بين البيولوجي والتعايشي، أو عبر التقاطع الطبيعي بينَ جهات عديدة كأمكنة توازعت السرد، وكذلك توازعت شخصية البطل المنتمي إلى طبيعات أسروية عدّة، ومحاولاته الحثيثة ليكون» هو» النموذج» وهنا فقارئ «خربة الشيخ أحمد» سيتلمّس قصدية الراوي بأنّه لا يستدر عطف قارئه في الحزن الذي يشيعه، بل يدفعه ليبكي معه، لأنّ جزءاً منه سينتمي إليها أقصد الحكاية وفي الوقت نفسه لن يبقَى في تنبّهٍ لاكتشاف القصدي والمشغول عليه، بل سيتعرّف سؤالهُ المعرفي خلا الموضوع والحكاية، متجاوزاً إلى قراءة رواية مكتوبة كما لو أنّها جملة واحدة، والبحث في مراميها يقودُ إلى عملٍ مختلفٍ، حقّق المعرفة والمتعة. لعلّه امتثالٌ لشرط الإبداع بما حدده إليوت في صنعة الشعر.
تأسيس لحكاية القرى
عيسى الشيخ حسن في «خربة الشيخ أحمد» يرتد بك إلى البارحة، لتكون معه اليوم، يرصد الأشخاص بأمزجتهم ودواخلهم، ويجبرك لتعيش في ذواتهم وحيواتهم، وترسم لروحك خطّا عاطفياً، تشكّل من الغبار الذي تتركه السيارات القليلة خلفها، من القطار الوحيد الذي يتلوى كأفعى في البراري بين القامشلي ودمشق، مرورا بدير الزور فحلب. الشيخ حسن راوٍ جالسَ الشيوخ الذين تحدّث عنهم، فنطقَ بلسانهم، وجالسَ فورةَ الشباب فكان أحدهم، تصرّف مثلهم، واستوعب طاقتهم، ولم يكتف بأن يكتب عنهم من داخل دائرتهم، حتى اختار نقطة رصدٍ، من خلالها تلصّص على المخفي والمسكوت عنه في سلوكهم خارج كاميرا المحظور والعيب والحياء.
«لما كان ظرفنا مليان»
الشيخ حسن قال روايته، قال روايتنا، كاشف ذلك الحنين إلى الرغبة في إعادةِ إنتاج حياة موازية، حضرت في الحكايات، وغابت في الكتابة، وصار الحاضر منها بحكم سطوة التقنية عالماً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، وهو بهذا أراد خلق قصة ليست أسطورية، لكنها في الممكن المتوفر ولقارئ يجهل المكان، ستبدو ملحمية بأدواتِ الشوايا والبدو، الذين عاينوا حياة اليوم ملبساً ومأكلاً وتعلماً، وحفظوا في قرارة أنفسهم تلك الروح الشفافة، تلك العلاقة الطيبة بين روحهم ومنطوقهم.
كأنّ العنوان الذي يدلّ على قرية في ريف ما «خربة الشيخ أحمد» بدا قليلاً على رويّ ثري، عامل اللغة كحامل سردي مهم، وتجاوزه بالحبكة على مستويي الحكي والجملة إلى الدهشة والسحر، فجاءت الأجزاء مستهلّة بما هو مغرقٌ في محليته، ومفتّحُ في المتن، وما العنوان الثانوي الارتكازي «لما كان ظرفنا مليان» إلّا دراية أخرى للتدليل على ماضٍ يُحّن إليهِ من حيث خط التشويق والانتماء إليه أصالةً، وكذلك دلالةٌ أخرى على منهجةِ حكاية تخصّ هذا المكان لا سواه!
عيسى الشيخ في» خربة الشيخ أحمد/ لما كان ظرفنا مليان» روايته الصادرة عن دار موزاييك، يكتسب قارئأ ينتمي إلى محله، ويكتسب أكثر قارئاً يريد اكتشاف عالم غير عالمه، ويكتسب في النهاية قارئ رواية جيداً، سيقرأها طويلاً بوصفها رواية تستكمل شروط الرواية، وتنتمي إلى الأعمال التي تقرأ أكثر من مرة!
*القدس العربي