تبدأ الروائية لنا عبد الرحمن روايتها الجديدة “تميمة العاشقات” (الدار المصرية اللبنانية)، بهذه السطور الدالة للكاتب غونتر غراس: “لا تمض إلى الغابة/ ففي الغابة غابة/ ومن يمض إلى الغابة/ لا يُسأل عنه فى الغابة”. ولنا أن نتساءل: لماذا هذه السطور تحديداً؟ وما دلالة الغابة هنا؟ وهل لها علاقة ببنية الرواية ذاتها؟ أعتقد أن دلالة “الغابة” يشير إلى ذلك البناء السردي الشديد التركيب والتداخل. وقديماً – نسبياً – شبَّه عز الدين إسماعيل الأدب الحديث بالغابة التي يستكشف السائر فيها – بالتأمل العميق – دروبها المجهولة، بينما كان الأدب القديم أشبه بالحديقة الواضحة المعالم والمداخل. وترجع تركيبية هذه الرواية إلى اتساع بنيتها الزمنية حيث تعود – من خلال شخصية “آلارا”- إلى عام 1542 قبل الميلاد حتى تصل إلى عام 1965 من خلال سرد قصة “ميري مجيد”. وهذا ما تدركه “زينة”؛ حين تربط بين دلالة “الغابة” والحركة الحرة داخل الزمن لتسرد حكايات النساء الست المشكلة للمتن الروائي، على نحو ما يبدو في قولها: “لم أتمكن من رؤية سلسلة المصير التي ربطتني بهن ولم يبق أمامي إلا القدوم إلى الغابة والنزول في النفق لرؤية نقوش أعمارهن”.
وبهذه الوضعية فإن “زينة” تمثل الراوي الخارجي، لكن الجديد في “تميمة العاشقات”، هو أن الكاتبة تجعلها أقرب إلى الشخصية الداخلية غير العليمة، بحيث تستمع إلى حكايات النساء المروية على ألسنتهن. وهي بهذا تجمع بين وضعيتي الراوي والمروي عليه فى صورة متتابعة. وعدم معرفتها الكلية هذه تدفعها إلى تتابع الأسئلة التي تتطلب إجابات. فهى تتساءل – مثلاً- عن حياة “آلارا” وكيف أصبحت كاهنة المعبد وكيف حُنط جسدها وكيف سُرق، وعن رحلة “آني”، الغامضة، وعما فعلته “رحمة” بعد رحيلها عن بغداد، والمكان الذي حلَّت فيه “شمس الصباح”. ثم تجمع بين كل هؤلاء وبين “إيزيس” التي تقول: “أنا كل ما كان ويكون وسوف يكون”. وكأن كل امرأة تحمل بعضاً من إيزيس في ما يقترب من صيغة “الكل في واحد” التي تنتمى إلى الحضارة المصرية القديمة.
سبعة خيوط
وبدلاً من تقسيم الرواية إلى فصول معنونة أو مرقمة، تقوم لنا عبد الرحمن بتقسيمها إلى خيوط ينشأ من تجميعها نسيج الرواية. ويبلغ عدد هذه الخيوط سبعة وهو عدد يحمل دلالات روحية وكونية متوارثة. وبالإضافة إلى تعدد الأزمنة نجد تعدداً في المكان والجنسيات والديانات. كما تتسم “الذوات” بانقسامها وتشظيها وصراعاتها الداخلية بين الرغبات الحسية والنزوعات الروحية. وهو ما يتوازى مع بنية الرواية التى تقوم على ثنائية الانفصال والاتصال؛ حيث من الممكن أن تُقرأ كل حكاية بمفردها أو تقرأ في علاقتها بغيرها من الحكايات. ومما يساعد على ذلك تكرار بعض الأسماء ورابطة الدم التي تجعل منهن سلالة واحدة، مع اختلافاتهن الظاهرة. فآلارا تجمع بين الخطيئة والتوبة، أو الشهوة التى مارستها مع “جيما” المراكبي الذي نقلها إلى المعبد لتحتمى بإيزيس هرباً من التضحية بها ليفيض النيل. وبعد وصولها للمعبد ظل “جيما” يخايلها حتى أوقعها في الخطيئة فحملت منه وأنجبت طفلتين. ومسألة الإنجاب سواء كان لطفل أو طفلة يذكرنا بإيزيس وابنها حورس وحتحور وبناتها السبع في التراث المصري القديم. فحين أفاقت “آلارا” من آلام الولادة، كانت صورة إيزيس وهي ترضع ابنها حورس أول ما شاهدته.
العلامات الدالة
وفي هذا الخيط تستخدم الكاتبة فكرة العلامات الدالة، حين تشاهد “آلارا”، طائراً يشبه الهدهد يصدر صوتاً ليس بالتغريد ولا بالنعيق، بل ينطوي على همهمات متوترة. وكان هذا الهدهد العلامة المرسلة لكي تذهب إلى المعبد. وكذلك قرطها المبارك الذي تخلعه لتهديه إلى إيزيس كي ترضى عنها، فتعيده الكاهنة “تايا” إليها قائلة: “إيزيس تأمرك بأن ترتدي قرطك المبارك ولا تخلعيه مدى حياتك”. وكما جمعت “آلارا” في مصر القديمة بين الخطيئة والتوبة، يتكرر الأمر نفسه تقريباً مع “آلارا الحسيني”، ابنة “ميري مجيد”، و”حازم الحسيني”، والتي تشعر أن هناك دماء موغلة في الزمن قد أورثتها نزعتي التمرد والتدين. تقول “زينة” معبرة عن هذه الحالة: “ما الذي تحمله من اسمها إذن ومن حكايته التي سمعتها مراراً؟ أتراها تحمل جينات في خلاياها من تلك الحكاية، من التمرد والتدين والرغبة في الانعتاق؟”.
ولعلها ورثت هذا التمرد من أمها الشبقة التي تقف على النقيض من أمها “آسيا” التي تمتلك قوة روحية تجعلها قادرة على التخاطر عن بعد والتنبؤ. وهكذا نلاحظ أن ثنائية الجسد والروح من أبرز ثنائيات هذه الرواية وسر عذابات هذه الشخصيات، بخاصة تلك التي ترث هذين البعدين، كما في حالة “آلارا الحسيني”. ولا شك أن هذه الثنائية تحكم فكرة التناقض بين شخصيتي “آسيا” و”ميري”، وكان لا بد أن تنشأ عنهما روح “آلارا” المتلظية المنجذبة أحياناً إلى النور الساطع – رمز الروح – والواقعة أحياناً في البئر بوصفه رمزاً للسقوط في وهدة الجسد.
امتزاج الحب والحرب
ويتوازى مع هذه الثنائية الاختلاف الديني الذي يفرق بين “آني” الأرمنية المسيحية و”مراد” الأذري المسلم؛ حتى وصل الأمر إلى ما يشبه امتزاج الحب والحرب. فمنذ الليلة الأولى لآني مع “أندرانيك” ابن عمها الذي تزوجها عنوة ليبعدها عن مراد أحست أن جسدها “أرض معركة أثبت فيها انتصاره بزواجه منها”. فدائماً ما كان يصرخ في علاقتهما الحميمة: “يا عذرائي الجميلة، ذاك الأذري الوغد لم يتمكن من فعل هذا معك، أليس كذلك؟”. لكن الأمور تنقلب بعد أن قاتل الأذريون مع العثمانيين ضد الأرمن، فيموت “أندرانيك”، ويصبح “مراد” سيد العائلة بعد موت أبيه. وقبل رحيل “آني” إلى لبنان تضاجع “مراد” وتنجب منه “آسيا”. وهكذا تتوالد الحكايات من بعضها وتظل تيمة السفر والفراق إحدى تيمات السرد الرئيسية.
لكن لماذا الرجوع إلى كل تلك الحكايات؟ تجيب “زينة” بأنها لا تحاول معرفة تاريخ ذاكرتها فقط، بل ترغب أيضاً في الهرب من “رام”؛ الروبوت الذي أصبح يتحكم في كل سلوكياتها. إنه رمز العصر الحديث الذي يحول الإنسان إلى مجرد شىء فاقد للذاكرة التي تعني استعادتها التمرد على هذا التشيؤ مثلها – أي هذه الذاكرة – مثل الحب الذي يجمع بين العقائد المختلفة. وهو ما رأيناه عند “آني”، ونراه مع “رحمة” التي تطلب من “هوفان” أن يشهر إسلامه ويتزوجها، فيقول لها إن دينه هو “دين الحب”، وإنها حين تتزوجه فسوف تكرر ما فعلته أمه الأزدية المسلمة بزواجها من رجل أرمني مسيحي، وهو معكوس قصة “آني” و”مراد”.
ثنائية الانفصال والاتصال
إن كل ما سبق من تداخل المصائر والمعتقدات يعد تمثيلاً موضوعياً لما أشرنا إليه من ثنائية الانفصال والاتصال التي أشرنا إليها. تقول “شمس الصباح” ملخصة هذه الآلية إن “الحفيدة تحمل بصمة الجدة وذاكرتها ويتكرر هذا جيلاً بعد جيل إلى أن تأتى شابة تكسر الطوق وتتمرد على كل ما كان”. وكأننا أمام متوالية سردية تتكرر على هذا النحو بصور مختلفة. وتمثل الأحلام امتداداً لقدرات “آسيا” السحرية وتواصلها مع ما يتجاوز الواقع. وهذا ما نراه في حلم “رحمة”، حين رأت النسر يخطف غطاء رأسها الأبيض ويمضي، ما يفتح باب التأويل لمثل هذه الأحلام؛ شأنها شأن إشارات الطبيعة والقدرة على قراءتها. فحين ينظر الأب “جرجس” فى منظاره المكبر يرى نجماً يشبه وهجاً منيراً يندفع من الشرق إلى الغرب فيتنهد قائلاً: “إنه يخشى من استيلاء الروس على الإمبراطورية العثمانية، إذ لا بد أن عبور هذا النجم يحمل نبوءة ما”.
ونجد توظيفاً لدلالات الألوان يتجسد في محاولات “آلارا” الرسم لكنها تفاجأ بطغيان اللون الأسود فتواصل الرسم لعلها تصل إلى النقطة الذهبية التي تدرك أنها موجودة في مكان ما في ذاتها أو خارجها. كما نرى تنوعاً واضحاً في الأساليب ما بين الاستفهامي في سياق المنولوغ الداخلي والأسلوب البياني القائم على التشبيه التمثيلي في أكثر من موضع. وهناك ما يعرف ببلاغة الدعاء بأساليبه الطلبية ومزاوجة الكاتبة بين ضميري الغائب والمتكلم. وأخيراً يمكن القول إن “زينة” أشبه بالراوي الكوني الذي يحاول الإحاطة بكل شيء من خلال الانتقالات الزمنية والمكانية والحكائية التي تميَّزت بها هذه الرواية البديعة.
*اندبندنت