محمد الزلباني: “اتجمعوا العشّاق في سجن القلعة”… ماذا دوّن أشهر مفكّري مصر عن ذكرياتهم هنا؟

0

في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، اتخذ وزير الداخلية المصري الأسبق أحمد رشدي قراراً بتحويل سجن القلعة العتيق إلى متحف للشرطة، ليصبح مزاراً سياحياً، يدلف إليه المتجولون في قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة القديمة.

يضم سجن القلعة بين أركانه 42 زنزانة، على الجهتين الشرقية والغربية، مُضافاً إليها ثماني غرف للتعذيب، أكثرها شهرة “غرفة الفرن/الشواية”، بحسب الهيئة العامة للاستعلامات المصرية التي أشارت إلى أن هذا الاسم “يرجع لتجهيزها أوائل ستينيات القرن الماضي بنظام غازي يجعل جدرانها ساخنة باشتعال مواسير مخصوصة، وفي ذلك الوقت كان يتم إدخال المعتقلين، وإشعال المواسير، ومع الوقت تؤثر حرارة الجدران على أجسادهم في وسيلة لإجبارهم على الاعتراف، أو الإدلاء بأوصاف وأسماء زملائهم”.

ووفقًا للهيئة العامة للاستعلامات (بوابة حكومية مصرية)، كان سجن القلعة هو مستقر الناجين من مذبحة المماليك الشهيرة، التي نفذها محمد علي باشا، على بعد عشرات الأمتار فقط من القلعة، وبعد رحيل محمد علي بسنوات، تحوّل السجن بأوامر من الخديوي إسماعيل إلى سجن للأجانب، بعد أن نقل مقرّ الحكم من القلعة إلى قصر عابدين عام 1874، ثم تحوّل السجن بعد ذلك إلى استقبال المساجين المصريين بعد زيادة قدرته الاستيعابية وعدد الزنازين بأوامر الخديوي توفيق ابن إسماعيل عام 1897.

مرت قرابة مئة عام على السجن العتيق، وصولاً لعهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ووزير داخليته أحمد رشدي، الذي حوله إلى متحف، ظناً منه أنه بذلك قد محى مئات السنين من التعذيب داخل زنازين السجن الحصين؛ لكن هناك من كانت ذكرياتهم في تلك العتمة لا تُمحى، فدوّنوها في مذكراتهم، علّ الكتابة تداوي جراحاً لا تندمل!

عبد الرحمن الأبنودي… القلعة سجن الأحزان العادية!

في ستينيات القرن الماضي، كانت الحملة الأمنية على التيار اليساري في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على أشدها، ورغم ذيوع صيت شاعر العامية المصرية الشهير عبد الرحمن الأبنودي، فقد طالته قبضة الأمن لاحتكاكه بالحركات الشيوعية آنذاك.

ويروي الكاتب الصحفي الراحل صلاح عيسى، ما جرى له وللأبنودي في تلك الفترة، في حوار أجراه مع الكاتب أيمن الحكيم، بقوله: “يوم 4 أكتوبر 1966 جرى اعتقال الجميع، وكان أغلبهم من المثقفين والمبدعين (…) وأخذونا إلى سجن القلعة، حيث تعرضنا لعمليات من التعذيب والتنكيل لانتزاع الاعترافات منا، وقضينا نحو ٣٥ يوماً في زنازين انفرادية لا يعرف أي منا ما يجرى لبقية المعتقلين”.

تلك الفترة التي بالكاد تتجاوز الشهر، لم تمرّ مرور الكرام عند الأبنودي، الذي دوّن من وحيها قصيدته الشهيرة “أحزان عادية“، التي يقول فيها: “واتذكرت سنة ما اتبنت القلعة/ وكنت أنا أول مسجون/ وكان الظابط ده أول سجان/ يوم ما ركلني نفس الركلة/ يوم ما صفعني نفس الصفعة/ نفس طريقه الركل/ وآخر الليل جانى بدم صحابي في الأكل”.

أحمد فؤاد نجم… شاعر تكدير الأمن العام

يُعدّ “الفاجومي” من أشهر زائري سجن القلعة على فترات غير مُتباعدة، لا يقطعها إلا الرحيل إلى سجن آخر، فمن طرة، إلى الواحات، إلى الفيوم، والتهمة واحدة: أشعاره تحضّ على تهديد السِّلم المجتمعي!

تجارب نجم في السجون أفرزت قصائد شتى، لا سيما وأنه من القلائل الذين دخلوا السجن لأول مرة بتهمة أخلاقية، وخرجوا منها ثواراً ليعودوا إلى السجون مجدداً بتهمة مزاولة نشاطات تحررية!

ويحكي المؤرخ الصحفي صلاح عيسى في كتابه “شاعر تكدير الأمن العام… الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم ــ مذكرات ووثائق”، أن الفاجومي دخل القلعة أول مرة في الحادي عشر من فبراير عام 1966 بتهمة الاشتراك مع زميل له في تزوير استمارات حكومية، بأسماء وهمية، ليحصلا بمقتضاها على بضائع يبيعانها ويحصلان على ثمنها، فحُكِمَ عليه آنذاك بالسجن ثلاث سنوات.

بعد عام واحد تقريباً، كان نجم قد رافق الشيوعيين المحبوسين معه في سجن القلعة، ومن خلال كُتُبهم استيقظت بداخله القريحة الشعرية، وشرع في قرضِ أبياته على أسماع من حوله، وخرج أول دواوينه من بين جدران الزنزانة بعنوان “من الحياة والسجن”.

ولما كثرت زيارات نجم الإجبارية لسجن القلعة، بعد انخراطه في السياسة، دخل سجن القلعة مُجدداً “في خريف عام 1971، بسبب شعره الذي دافع به عن حق الطلبة في التعبير عن رأيهم، وعن حق الفلسطينيين في استرداد وطنهم، وكان ذلك ما أعلنه في قصيدته الثالثة (أنا رُحت القلعة / سجن القلعة / وشُفت ياسين/حواليه العسكر والزنازين/والشوم/ والبوم/ وكلاب الروم/يا خسارة يا أزهار البساتين/عيّطي يا بهية على القوانين)”، وفقاً لما أورده صلاح عيسى في كتابه “شاعر تكدير الأمن العام”.

زين العابدين فؤاد… اتجمعوا العشاق في سجن القلعة!

علاقة المغني والملحن الشيخ إمام بالشاعر أحمد فؤاد نجم، وارتباط اسميهما كفريق غنائي ثوري، كاد أن ينسف محاولات شعراء آخرين كتبوا أغانيَ لإمام، بعدما اعتقد كثيرون أن أي أغنية له تُنسب بطبيعة الحال لنجم رفيق الرحلة، مما كاد أن يتسبب في ظلم بيّن للشاعر المصري زين العابدين فؤاد، صاحب أغنية “اتجمعوا العشاق في سجن القلعة”.

يحكي زين العابدين في تصريحات صحفية: “كتبت القصيدة عام 1972 وكنت حينها في سجن القلعة، أنا والشاعر أحمد فؤاد نجم، وكان الشيخ إمام خارج السجن، وكانت من أول القصائد التي كتبتها، بهدف أن تُغنى ولم أستطع تهريبها من سجن القلعة، فانتظرت حتى دخلنا سجن الاستئناف بباب الخلق، وتم تهريبها وسربت إلى الشيخ إمام ليغنيها”.

ويشير زين العابدين أنه “من الأسباب التي ساهمت في انتشار الأغنية باسم نجم هو أن أغاني الشيخ إمام هُرِّبت ونشرها ناشر لبناني، وفُرِّغت وكُتِبَ على الغلاف أنها غناء الشيخ إمام وكلمات نجم، بالرغم من أن الديوان كان به العديد من الشعراء الآخرين”!

لكن في السنوات الأخيرة، وخاصة عام 2012 أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب طباعة ديوان قديم لزين العابدين فؤاد تحت عنوان “مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟”، وهي جملة من داخل القصيدة ذاتها، التي يقول فيها: “اتجمعوا العشاق في سجن القلعة/ اتجمعوا العشاق في باب الخلق/والشمس غنوة من الزنازن طالعة/ ومصر غنوة مفرعة في الحلق/اتجمعوا العشاق بالزنزانة/ مهما يطول السجن مهما القهر/ مهما يزيد الفجر بالسجانة/ مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟!”.

السادات والزنزانة رقم 54

واحدة من المفارقات السياسية في مصر، أن الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، الذي عانى معارضوه من ويلات سجن القلعة في عهده، لاقى هو الآخر نفس المصير قبلهم بسنوات، عندما اتُّهِم في مقتل أمين عثمان باشا، وزير المالية، في يناير عام 1946.

ويقول السادات عن سجن القلعة، في مذكراته “البحث عن الذات”: “كانت الساعة الخامسة والنصف مساء، عندما وجدت نفسي داخل الزنزانة 54. تلفتُّ حولي، كل شيء يختلف تماماً عن سجن الأجانب، فلا سرير، ولا مائدة صغيرة ولا كرسي ولا نور، ولا أي شيء على الإطلاق، فقط أرضية الحجرة المصنوعة من الأسفلت وفوق جزء منها (برش) من الليف الخشن، بالكاد يكفي لكي يتمدد عليه الإنسان لينام متلحفاً ببطانية قذرة إلى أبعد حدود القذارة”.

ويُضيف السادات: “في أثناء الفسحة سمحوا لنا باللقاء والكلام، وتكلّمنا. كل كلامنا تقريباً كان يدور حول ما نعانيه في هذا السجن اللعين، وخاصة دورات المياه التي كان يستحيل على أي آدمي أن يقضي بها حاجته”.

صلاح عيسى… متى يأتي الزمن الذي يدخل القتلة فيه السجون؟

زُجّ بالكاتب الصحفي صلاح عيسى في سجن القلعة في ستينيات القرن الماضي، وقت أن كان التيار اليساري مغضوباً عليه من قبل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لكن المفارقة الأهم في تلك الرحلات، كانت في زيارته الثانية للقلعة ربيع 1968، عندما فوجئ باللواء حمزة البسيوني، مدير السجن الحربي السابق، سجيناً معه، بعدما كانت فرائص رجال المعارضة ترتعد بمجرد ذكر اسمه!

يقول صلاح عيسى، في مقال له بعنوان “تفاحة حزة البسيوني”: “كانت تهمتي هي المشاركة في مظاهرات طلاب الجامعة التي خرجت تحتج على هزيمة 1967 وتطالب بالكشف عن المسؤولين عنها (…)، أما تهمته فكانت الاشتباه في ضلوعه في مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر للاستيلاء على قيادة القوات المسلحة”.

المفارقة الأعجب، أنه قبل الزجّ بسجان صلاح عيسى السابق حمزة البسيوني، كان الكاتب الصحفي البارع، قد تمنى حدوث الأمر ذاته، وهو ساهر في زنزانته قبلها ربما بسنوات، فيقول في كتابه “تباريح جريح… شرّ البلية ما يُضحك وأوجع الضحكات ما ينتهي بالدموع”: “ازدحم رأسي بشريط من صور الذين رأيتهم يموتون في السجون. تذكرت السياط والعصي والشتائم والبذاءات (…) قلت لنفسي: متى يأتي الزمن الذي يدخل القتلة فيه السجون”!

محمود السعدني… الساخر من سجن القلعة وكلّ الطغاة

ليس هناك أعجب مما دوّنه الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني عن ذكرياته في السجون، إذ كانت لا تخلو سطوره من مواقف كوميدية في أوقات تجلب الدموع في الغالب!

فيقول السعدني، المعروف في الوسط الصحفي المصري بـ”الولد الشقي” في كتابه “الطريق إلى زَمِش”: “توقفت بنا السيارة أمام سجن القلعة، وهو سجن قديم بناه المماليك، ليسجنوا داخله العصاة الذين يخرجون عن طاعة السلطان، والذين يدخلون ضده معركة، فإذا نجحوا في خلعه جلسوا مكانه، وإذا فشلوا أقاموا في سجن القلعة”.

ويضيف الولد الشقي: “نزلنا من السيارات وطلبوا منا أن نجلس القرفصاء على الأرض، وقلت لأحمد رشدي صالح (كاتب مصري متخصص في التراث الشعبي): الآن أدركت سرّ تمثال الكاتب الجالس القرفصاء عند قدماء المصريين، يبدو أنه كان هو الآخر من نزلاء سجن القلعة. ضحك رشدي صالح بفتور، وقال للعبد لله: هو ده وقته!”.

ورغم السخرية التي يتمتع بها السعدني، فإن سجن القلعة قد أخذ كثيراً من حَسّه الدعابي، ففي الكتاب ذاته، يؤكد أن “الفرحة عمّت جميع المعتقلين في سجن القلعة عندما سرَت شائعة بأننا سنُنقل جميعاً إلى معتقل الفيوم، وسرّ الفرحة أن سجن القلعة سجن كئيب، وهو من مخلفات العصور الوسطى، وليس فيه حوش للفسحة، ولكن مجرد ممرّ للانتقال بين الزنازين، لا تشاهد فيه إلا حيطان وزفت، وأبواب خشبية مُطعمة بالحديد”.

(رصيف 22)