منذ أن نُشرت رواية “مزرعة الحيوان” لأول مرة في عام 1945 وحتى الآن، أي بعد أربعة وسبعين عاماً، لا تزال موضوع نقاش ساخن وتساؤل عما إذا ظلت تتمتع بالحضور القوي والتأثير اللذين كانا لها قبل سبعة عقود، وعما إذا كانت لها صلة بمشاغل الجيل الراهن.
وحقيقة أنها لا تزال جزءاً من منهاج تعليم الأدب الإنكليزي في البلدان الناطقة بالإنكليزية، والكتابة عنها ومحاولات تفسيرها مجدداً في أكثر من صحيفة وكتاب حتى اليوم، ما يؤيّد رأي من يرى أنها تجاوزت سياقها الزمني والمكاني، وأصبحت معانيها متعددة بتعدد السياقات التي تُقرأ فيها، ويؤكد لمن يقرأها في أي زمن أنها رواية معاصرة لزمنه.
ليس سرّاً بالطبع أن حدث الثورة الروسية هو أساس هذه الرواية، ولكن استخدام الحيوانات كمجاز رمزي يوفر منظوراً مختلفاً لهذا الحدث التاريخي. وخاصة أن هذا الاستخدام تم باقتدار جعل الرواية حكاية مكتفية بذاتها، لا يحتاج معها القارئ إلى معرفة مسبقة بالأساس الذي تقوم عليه، ولا حتى إلى فهم ما تلمح إليه من شخصيات واقعية. وفي الوقت ذاته، يمكنه أن يستمتع بها كحكاية رمزية بسيطة ومؤثرة وتنويرية كما هي في جوهرها، حكاية تُظهر البشر كما هم في أفضل وأسوأ أحوالهم في آن واحد معاً. إنها تسلط الضوء على الكوامن الشيطانية في كل إنسان، على الغيرة والجشع والبلادة، والقسوة التي هي وليدة الخوف. وتنجح في إظهار أن الحلم الجميل، الذي مثلته الشيوعية نظرياً هنا، يمكن أن يتحوّل بسهولة إلى كابوس استبدادٍ مراراً وتكراراً.
تروي هذه الحكاية بروز وسقوط ثورة حيوانات على المُزارع السيد جونز. ويرسم الخطاب الافتتاحي الذي يلقيه ميجر، الخنزير العجوز، رؤيا للثورة، ويصف مستقبلاً واعداً. ومع توالي فصول الحكاية، نجد السيد جونز والمزارعين الآخرين، يشنّون الحرب على هذه الثورة.
ويرافق هذا صراع داخلي على السلطة والهيمنة يبدأ معه أساس هذا المجتمع القائم على أن “كل الحيوانات سواسية” بالانهيار. في بداية الثورة تبدو أفكارها مبرَّرة، ولكن توالي الأحداث يؤدي إلى إدراك كم هو فاسد هذا المجتمع الجديد. وتستكشف الحكاية مفهوم هذا الفساد إلى أبعد مدى. صحيح أن ها هنا تصويراً رمزياً لمختلف الجماعات وعموم الناس في روسيا خلال الثورة، ولكن الجوع إلى السلطة والثروة وتحكم القلة ما زال ممثلا على نطاق واسع في عالم اليوم.
تستخدم الحكاية الهجاء الساخر استخداماً إبداعياً. ومع أن هناك روايات عديدة تستخدم الحيوانات كشخصيات تقول عبرها ما تود توصيله، إلا أنه من النادر أن تفعل هذا بالاقتدار الذي تفعله “مزرعة الحيوان”. هنا لكل شخصية حدودها ودورها ومهارتها الملائمة لكل حيوان تمثله. وتضيف هذه التقانة، وهي تفعل فعلها في وضع عقبات أمام كل حيوان ليتغلب عليها، المزيد من العمق إلى الحبكة والصراع الماثلين في الحكاية.
بهذه التقانة وبسبب طابع الحكاية الرمزي، يرى عدد ممن كتبوا عنها في السنوات الأخيرة أنها تجاوزت سياقها الأصلي واكتسبت معاني وتأويلات جديدة، بدءاً من الفصول المدرسية التي يجري فيها تزويد الطلبة بمعلومات خاطئة ومعاكسة لمقاصد كاتبها، ووصولاً إلى الحلبة السياسية حيث اتسع مجال استخدامها، وأقام بعض الكتاب تماثلاً بينها وبين عددٍ منتقى من القضايا، مثل ذلك الذي وجد تماثلاً بين وصف المفكر الاقتصادي الليبرالي الفرنسي توما بيكيتي لازدياد انعدام المساواة في الأنظمة الرأسمالية وتركز الثروة في يد قلة من الرأسماليين مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وبين محو شعار “الناس سواسية” وتركز السلطة والثروة في يد حفنة الخنازير في حكاية “مزرعة الحيوان”.
إلى هذه المرونة التي تتمتع بها هذه الرواية، يشير كاتب آخر إلى أن الكثير من الحركات السياسية بمختلف توجهاتها استخدمتها على امتداد العقود السبعة الماضية. ويحضرنا هنا أشهر استخدام لها في وسائط الدعاية الغربية خلال الحرب الباردة ضد النظم الاشتراكية، وهو استخدام يناقض مقاصد الكاتب، كما سنرى بعد قليل. وهناك استخدام المحافظين الأميركيين الجدد المزدوج لها؛ كسلاح ضد الاتحاد السوفييتي تارة، وكسلاح ضد النزعة الليبرالية الأميركية تارة أخرى، مع تجاهل لما يقوله جورج أورويل نفسه عن روايته والكثير المعروف عن فكره السياسي.
وبعد كل هذا هناك اتجاه ثالث هو اتجاه اليسار المعاصر الذي يناصر النزعة الاشتراكية الديمقراطية. ويبدو تأويل هذا الاتجاه للرواية أكثر قرباً لما قد تكون مقاصد الكاتب الحقيقية، لأنه يلتفت إلى كلماته. فهذا الكاتب، وباعتراف الجميع، كان ينتقد بقسوة زملاءه الاشتراكيين البريطانيين إلى درجة تشبيههم، وهم “يحتشدون حول رائحة كلمة (التقدمية)”، بسرب ذباب أزرق “يتجمع حول جثة قطة”. واتصف مساره السياسي بالتعقيد والتناقض. وللخروج من هذا التعدد والتناقض في التأويلات من الأفضل العودة دائماً إلى أقوال الكاتب، وخاصة مع توالي اكتشاف مقالات غير منشورة له في السنوات الأخيرة تلقي الضوء على أعماله الأدبية وعلى دوافعه الحقيقية.
جاء في مقالة صحافية له: “كل سطر من سطور أعمالي الجادة التي كتبت منذ العام 1936 كتب، مباشرة أو بشكل غير مباشر، ضد النزعة الاستبدادية، ومن أجل الاشتراكية الديمقراطية كما أفهمها”.
وتدلل عبارة “كما أفهمها” التنبيهية، بدقة ووضوح على عدم رضاه عن النظريات الاشتراكية السائدة آنذاك، وعلى نظرته إليها كإنسان من خارجها. وفي الاتجاه نفسه نجده يحدد غاية روايته الرمزية الهجائية، “مزرعة الحيوان”، في مقدمة طبعتها الأوكرانية (1947) كما يلي: “.. لم أزر روسيا أبداً، ومعلوماتي عنها لا تتضمن إلا ما يمكن معرفته من قراءة الكتب والصحف. وحتى لو امتلكتُ الإمكانية، لن أرغب في التدخل في قضايا السوفييت المحلية؛ لن أدين ستالين ومساعديه لمجرد أساليبهم الوحشية وغير الديمقراطية. فمن الممكن، حتى مع وجود أفضل النيات لديهم، أنهم لا يمكنهم التصرف على نحو آخر في ظل الظروف السائدة هناك. ولكن من جانب آخر، كان من المهم أهمية قصوى بالنسبة لي أنه يجب أن يرى الناس في أوروبا الغربية النظام السوفييتي على حقيقته التي كان عليها. فمنذ العام 1930 رأيت دليلاً ضئيلاً على أن الاتحاد السوفييتي كان يتقدم نحو أي شيء يمكن أن يدعوه المرءُ اشتراكية”.
وتوضح هذه المقتطفات نقطتين؛ الأولى أن الاستخدام شبه الدعائي لـ”مزرعة الحيوان” كان ضد مقاصد أورويل، والثانية، أنه كتبها وفي ذهنه ولاء للاشتراكية. وهذه النقطة الأخيرة تلقي بشيء من الشك على قول بعض المحللين أن “مزرعة الحيوان” هي إدانة لكل أمل من الآمال المعلقة على الثورة الاشتراكية.
وأي متصفح لما تحفل به وسائط التواصل الاجتماعي من تعليقات خاصة بهذه الرواية في هذه الأيام، الموجز منها والمسهب، يكتشف أن القراء يستخدمونها في سياق اجتماعي جديد، من دون أن يأخذوا في اعتبارهم المعنى الذي فهمت به تاريخياً. ولا يختلف موقف هؤلاء عن موقف الذين استخدموها كدعاية موجهة في أيام الحرب الباردة سواء ضد السوفييت أو ضد المبادئ الاشتراكية، أو ضد الاتجاهات الليبرالية، فلدى كل هؤلاء شيء واحد مشترك، وهو أنهم لا يأخذون في اعتبارهم سياق الرواية الأصلي، ويظهر تنوع التأويلات كم هو سهل تكييف الرواية لهذا الغرض أو ذاك، وإمكانية أن تمثل أي أيديولوجية.
والجدير بالملاحظة هو أن هذه الاتجاهات التي استخدمت الرواية، محافظة وليبرالية واشتراكية، خرجت بتأويلات مختلفة بل ومتناقضة على الرغم من أنها قرأتها في المناخ السياسي ذاته. والسبب هو كما أشرنا منذ البداية، هو شكل الرواية الرمزي الذي يميل عادة إلى أن يكون غامضاً، أو حمّال أوجه، كما يقال عن نص يكشف عن وجوهه المتعددة بمرور الأيام واختلاف السياقات التي يُقرأ فيها.
*المصدر: القدس العربي