محمد الأسعد: “قصيدة النثر العربية”: جماعة “شعر” أم قرنان من التجربة؟

0

مع بداية العصور العربية الحديثة، منذ القرن التاسع عشر وصولاً إلى الزمن الراهن على وجه التقريب، تعرّضَت القصيدة العربية، وسياجُها تقفية وستة عشر بحراً، لهبوب رياح حساسيات شعرية متنوّعة نزعت إلى القفز عن هذا السياج، وتحرير الشعرية من مفهوم “القصيدة” التقليدية، تارةً باجتراح ما سُمّي بالنثر الفني، أو الشعر المنثور، وتارةً باجتراح ما سُمّي بالشعر الحرّ بنمطيه، نمط القصيدة الحرّة من أيّ نوع من أنواع البحور والقوافي، ونمط القصيدة المرتبطة بأوتاد التفاعيل رغم اطّراحها طريقة نظم القصائد ذات الصدور والأعجاز.

هذا تلخيص لمسار توّجته ستينيات القرن الماضي بقفزة عن السياج فريدة وقاطعة مرّة واحدة وإلى الأبد، كما تقول الباحثة اللبنانية هدى جودت فخر الدين؛ أستاذة الأدب العربي في جامعة “بنسلفانيا” الأميركية، في آخر كتاب لها صدر بالإنكليزية (قصيدة النثر العربية: النظرية الشعرية والتطبيق، مطبعة جامعة إدنبرة، 2021).

بالطبع، شهدت عصورٌ أقدم ظهور أمثال هذه النزعات منذ محاولات أبي العلاء المعري في كتابيه “الفصول والغايات” و”الأيك والغصون” وصولاً إلى من وردهما من أوائل من كتبوا إرهاصات قصيدة النثر في بدايات القرن العشرين، أمثال أمين الريحاني وأحمد شوقي وجبران خليل جبران، تحت عنوان “الشعر المنثور” تارة و”النثر الفني” تارة أُخرى. إلّا أنّ الباحثة تجاري شعراء “قصيدة النثر” التي تقول إنّها ظهرت في ستينيات القرن الماضي، بالقول إن لا علاقة لها بهذه الإرهاصات، وإنّها أشبه بنسل شعري جديد، ليس “كشعر أو كتابة أو نص، ولكن كقصيدة بديلة تجبّ القصيدة العربية!”. 

وهذا صحيح في جانب منه، ليس بناءً على تعصُّب غير مبرَّر من هؤلاء لما اعتبروه “كشفاً” خاصّاً بهم فقط لا ترجمة لمصطلح فرنسي، بل لسبب جوهري لم تتطرّق إليه الباحثة، لكن سبق أن أشار إليه الباحث س. موريه في أطروحته المقدَّمة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة “لندن” بين العامين 1962 و1965 (الشعر العربي المعاصر: 1800-1970)، في الفصل التاسع المعنون “النثر وسيطاً لمفهوم جديد للشعر”، حين قال إنّ دعاة “قصيدة النثر” ظهروا بعد جماعة ما كان يُسمّى “الشعر المنثور” بمختلف تنوّعاته، والتي “ظلّت حتى مطلع خمسينيات القرن العشرين منطقية وعقلانية، مع تشديدها على المخيّلة والعاطفة واللجوء إلى الطبيعة، فطرحوا عنهم كل المفاهيم السابقة عن الشعر، ونبذوا الرؤية العقلانية والمنطقية والمثالية والإنسانية السابقة في مواجهة العالم، لصالح رؤية غير عقلانية تعتمد على مخزون اللاوعي تجاه العالم”.

هذه هي “القفزة عن السياج” التي أشارت الباحثة منذ الفصل الأول إلى أنّها حدثت في عام 1960، لكن من دون تعمُّق في بحث مصادرها، وما اعتراها من سوء فهم لما تمّت ترجمته وامتصاصه من مفاهيم ونصوص، باستثناء ما ذكرت عن تسلُّق أشهر بيانَين لأصحاب قصيدة النثر، مقدّمة أنسي الحاج لمجموعته الشعرية “لن” (1960)، ومقالة علي أحمد سعيد (أدونيس) المعنونة “في قصيدة النثر” (مجلة شعر، عدد 14، 1960)، كتابَ الفرنسية سوزان برنار المسمّى “قصيدة النثر من بودلير إلى الزمن الراهن” الصادر بالفرنسية في عام 1958.

والحقيقة أنّ هذا الفصل الأول، وسنعود إليه بإيجاز في ختام هذه المقالة، وموضوعه تنظيرات الحاج وقصائده، ومقالة أدونيس، هو حجر الزاوية في كتابها، إلى درجة أنّها تكرّس الفصل الثالث وحده لما تسمّيها مغامرة أدونيس في قصيدة النثر كتابة وتنظيراً وترجمة ومختارات. في الفصل الثاني تلتفت التفاتة سريعة إلى “انخراط المنظّرين لقصيدة النثر وشعرائها في قراءة “قصدية” لتراث النثر العربي الثري، ومحاولة استخلاص نصوص تمنح قصيدتهم المعاصرة شرعية، فتدرس طرائق إيجاد مواءمة بينها وبين أعمال متصوف مثل “النفّري”، وناثر مُجيد مثل “أبو حيان التوحيدي”. 

وتحاول في هذا الفصل شرح كيف أنَّ جيل شعراء قصيدة النثر أدرجوا في مشروعهم التراث العربي، وترى أنّ هذه الممارسة بطابعها النقدي غيّرت فهمنا لـ”الشعرية” في اللغة العربية، بحيث تجاوز مفهوم الوزن والشكل الجاهز. ولكنها لا تأتي بما يثبت صحة هذا الكلام، بل تُعلِّق ببساطة تغيير مفهوم الشعرية وساماً على صدر أصحاب هذه القفزة، مع تجاهل لجهود شعراء ونقّاد أكثر من قرنين عملوا على تغيير مفهوم “الشعرية” في الثقافة العربية.

وتنعطف في الفصل الرابع إلى محمد الماغوط، فترى أنّ العلاقة بين مشروعه الشعري وقصيدة النثر كحركة شعرية ونقدية ليست علاقة مباشرة، وتدفع بأنّه على الرغم من “فائدة الماغوط في تمهيد الطريق إلى قصيدة النثر اللاحقة، إلّا أنّه لم يكن شاعر قصيدة نثر مكرَّساً” على الضدّ بالطبع من رأي الكثير من الباحثين الذي يرون له دوراً رئيسياً. وتكتفي بمنح هذا الشاعر، الأكثر أهمية بتراثه الشعري من الاثنين اللذين افتتحت بهما كتابها وجعلتهما حجر الزاوية، دور “المساهم من دون قصد في قصيدة النثر… وتوسيع حدود الشعر في اللغة العربية”. 

ومقابل هذا التقزيم لتجربة واحد من أهم شعراء قصيدة النثر العرب في القرن العشرين، أو بالتوازي معه، تأتي في الفصل الخامس بأعجوبة من نوع غريب، فتدرس “الشاعر الفلسطيني محمود درويش ومساهمته في قصيدة النثر، مع أنّه لم يكتب قصيدة نثر أبداً” كما تقول هي! أمّا كونه انخرط في نقاش القضايا المحيطة بها كما ترى، فلا أراه مسوّغاً لهذا النوع من التناول على الإطلاق، لا شعرياً ولا نقدياً.

بعد هذا تضيف الباحثة فصلين، السادس عن تجربة سليم بركات من دون أن تتوقّف عند ما تسمّيه “عمله المهووس باللغة” و”تدخّلات تتجاوز هزّ اللغة إلى صياغة كتابة، أُخرى، في العربية”، فتقيّم هذا الهوس وأثره الثقافي، هذا إن كان له من أثر يتجاوز تحويل اللغة إلى فقاعات صابون ملوّنة ومن دون وجود لقطعة صابون حتى. والفصل السابع، وتتناول فيه تجربة الشاعر وديع سعادة المقيم في أستراليا، وهي تجربة متواضعة بمقياس منجزات شعراء عرب آخرين لم تلتفت إليهم الباحثة، فلسطينيّين وعراقيّين وخليجيّين ومغاربة، أو لم تصل إليهم كما هي العادة الجارية؛ حين يكتفي الباحث العربي بتناول ما يلمع على السطح، ولا يجهد نفسه في البحث والاكتشاف. ألم يصل إلى أسماع الباحثة ذكر الشاعر شوقي أبي شقرا (اللبناني) وعبد الكريم كاصد (العراقي) على سبيل المثال؟ والقائمة ليست بالقصيرة وفيها أصحاب تجارب متميّزة في قصيدة النثر تجاوزت بأزمان ومراحل بدايات القصيدة البدائية في ستينيات القرن الماضي.

وبالعودة إلى مقالة أدونيس ومقدّمة أنسي الحاج، نلمح مجرّد تلميح إلى أنّ سوء فهم تعرّض له مفهوم قصيدة النثر على يديهما حين ترجما وأشاعا أهم “خصائصها” كما يعتقدان، بعد قراءة عجولة لم تمضِ بعيداً إلى أعماق كتاب الفرنسية سوزان برنار. فلكي يوضّح الحاج ماهية قصيدة النثر، استعار كما يقول هو، تحديد برنار لشروط هذه الماهية في ثلاثة حسب ترجمته من مقدّمتها: الإيجاز والإشراق (التوهّج) والمجانية. أمّا أدونيس الذي كان أكثر دقّة منه، فيترجم هذه الشروط إلى: أن تكون القصيدة كلّاً عضوياً مستقلّاً، وبناءً فنياً لا غاية له خارج ذاته، ومجانياً، بمعنى أنّه بناء لا زمني لا يسعى إلى غاية، يعرض نفسه مثل شيء من الأشياء، أو كتلة لا زمن لها أو فيها، وأن تكون موجزة ومكثّفة.

وبالعودة إلى كتاب برنار، نجد أنّ كلّا من الكاتبين أسقط قولها إنّ قصيدة النثر تفترض “وجود الإرادة الواعية للانتظام في قصيدة”، وتجاهلا تأكيدها على أنّ “قصيدة النثر تنطوي على مبدأ هدّام فوضوي لأنّها نجمت عن التمرُّد على أعاريض الشعر، وعلى قوانين اللغة المعتادة أحياناً، لكن كلّ تمرُّد على القوانين القائمة مضطر، إذا أراد تقديم عمل أدبي باق، أن يُحلّ محلّها قوانين أخرى حتى لا تتحول القصيدة إلى ما هو غير عضوي يفتقر إلى الشكل”. ولم يفهما معنى “اللازمنية” في النص الشعري والروائي الذي ظهر في الغرب في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو تقانة تعني تزامن لا توالي الصور التي هي جماع فكرة وعاطفة في لحظة، فتقدّم عناصر القصيدة كما تقدّم العناصر في لوحة تشكيلية، وليس أنّها “لا تسعى إلى غاية”.

يُضاف إلى هذا أنَّ الشرط الذي ترجماه بكلمة “مجانية” كان ملتبساً ولم يفسّره أيّ واحد منهما، بل أخذاه على أنّه يعني ألا تكون للقصيدة “غاية” أو أنها كلام أقرب للهذيان كما تجسّد في مجموعة “لن” لأنسي الحاج. وهذا الفهم الملتبس هو الذي فتح الطريق أمام أغرب ممارسة شعرية عربية ما زالت تطل برأسها هنا وهناك في أكثر من بلد عربي، بعدما أصبحت تعني كما فهماها، ومارساها زمناً، وتبعهما فيها الكثيرون، تجريد “الشعرية” من أيّ غاية محدّدة، فالشاعر لا شأن له لا بالسياسي ولا الاجتماعي ولا الفلسفي… ولا بأيّ شأن يمتّ إليه بصلة ككائن اجتماعي، فهو فرد منعزل ومنفصلٌ عن كلّ أسباب وجوده، هو ذرّة غبار هائمة في الفضاء. 

هذه في الحقيقة هي “قفزة هذين الشاعرين عن السياج”، ولهذا كانا على حقٍّ في التنكر لأيّ رابطة لقصيدتهما (كما ترجما خصائصها)، بكلّ ما سبق في مجال استخدام النثر وسيطاً شعرياً سواء كان “الشعر الحر” أو “النثر الشعري” أو “الشعر المنثور” أو “النثر الفني”، أو حتى “أيك وغصون” المعري.


سيرةُ ناقدة
حصلت هدى فخر الدين، على ماجستير في الأدب الإنكليزي من “الجامعة الأميركية في بيروت” ودكتوراه في الأدب العربي والأدب المقارن من جامعة “إنديانا” في بلومنغتن، وهي حالياً أستاذةٌ للأدب والنقد العربيَّين في جامعة “بنسلفانيا”. صدر لها: “الميتاشعرية في التراث العربي” (2015)، و”زمن صغير تحت شمس نائية” (2019)، إضافةً إلى ترجماتها لمقالاتٍ نقدية حول الشعر العربي ونصوصٍ منه.

(العربي الجديد)