يعبّر اهتمام الأدب برواية الحرب عن الرغبة بالانتصار للسلام، والإدانة القوية لولع الإنسان في تدمير الحياة، عبر ما يكشفه السرد الروائي من ألم إنساني وخراب وانهيارات. هذا ما يفعله الروائي السوري نهاد سيريس في إطلالته الأخيرة، “أوراق برلين” (دار ممدوح عدوان، 2021)، التي تأتي بعد انقطاع عن النشر عرفته، لسنوات، مسيرته الروائية التي كانت رواية “الصخب والصمت” (2004)، آخرَ ما صدر فيها، في حين ارتبط اسمه، أيضاً، بأعماله الدرامية المعروفة مثل “خان الحرير” (1996)، و”الثريا” (1997).
تتناول “أوراق برلين” موضوع الحرب وأثرها وتداعياتها، وكيف تغدو الحياة رعباً كابوسياً حين يتخفّف المقاتلون من إنسانيتهم. وهو يعرض ذلك عبر تقنية سرد جديدة تنتقل بين الأمكنة والأزمنة لترصد الحرب عبر الصورة والتوثيق والقصص والحكايا والكتب.
وكان سيريس قد تلقّى دعوة لزيارة ألمانيا، لتسلّم جائزة “كوبورغ روكيرت” التي نالتها ترجمةُ روايته “الصخب والصمت” عام 2013، ما أتاح له فرصة البقاء هناك والعيش بعيداً عن جحيم الحرب في بلاده.
تترصّد الرواية، عبر بطلها القادم من حلب، انشغالاته بالكتابة حول مدينته التي تعيش حرباً مدمّرة تؤلم روحه، وتدفعه لكتابة رواية عن الحرب. ولأنه يقيم الآن في برلين، ويعرف ماضي هذه المدينة، التي قرأ عن تاريخها، فإنه يُبدي اهتماماً بما حدث في ألمانيا، والدمار الذي خلّفته الحروب بصورها المتعدّدة، وكأنه يريد أن يوازن ويقارن ويعزّي نفسه في حرب بلاده.
في موطنه الجديد يؤسّس لحياة مندمجة مع واقعه ومتفاعلة معه. هكذا، تتيح له هذه الحياة الجديدة علاقات جميلة، صادقة، فيلجأ إلى كبار السنّ ليوقظ ذاكرتهم، ويحفّزهم على رواية أحداث الحرب. تتذكّر هيلدا، والدة صديقته، أن الحرب في البداية كانت تجري بعيداً عن ألمانيا، لكنّهم سرعان ما شعروا بها مع بدء الغارات الجوية وفرارهم إلى الملاجئ. وكيف أخذ الذعر يرتسم في عيون الناس، وهم يقفون في الطوابير للحصول على الطعام، وقد خلتِ الساحات من الرجال الذين سُحبوا للمشاركة في القتال، وعانت النساء – ضحايا الحروب دائماً -، فهربن إلى الأحراج خوفاً من تقدّم الروس بسمعتهم السيّئة في العنف والاغتصاب والسرقة. كانت تلك مشاهد قاسية، تُظهر عدمية الحياة في بؤس الناس، وهم يفترشون الأرصفة، تحيط بهم جثث القتلى في الشوارع، بانتظار دفنهم في الحدائق. ويترافق ذلك مع القصف الروسي والحصار، الأمر الذي يدفع الناس إلى الإيمان بأن ألمانيا لم تعد قوية.
كان ذلك قبل سبعين سنة، ولكنّ بطل الرواية يرى ألمانيا قد تعافت تماماً، وها هو يسير في شوارع برلين متأمّلاً حركة الحياة النابضة ومستمتعاً بالجلوس في مقاهيها ليفكّر في كيفية نهوض المدن من جديد، وكيف تتجدّد روحها مع الإعمار والبناء. لا يختلف توصيف الحروب وأثرها بين مكان وآخر، فهي تغييب للعقل وتسيّد لسلطة القوة، فهذا ما جرى أيضاً في مدينته حلب التي وُلد في حاراتها القديمة ونعمَ بالعيش فيها كرحم دافئ تشدّه إليها دائماً، متذكّراً سنواته بكلّ تفاصيلها، بدايةً من رحلاته فيها واستمتاعه بالسير في أزقتها وممارسة شغفه بالتصوير فيها.
تغدو هذه الصور التي التقطها في حلب القديمة مرايا للأحداث التي طاولت المدينة، فعندما اشتدّ القتال بين جيش النظام والمقاتلين المعارضين، أصبح انتقاله من حلب الغربية – حيث يسكن – إلى حلب الشرقية محفوفاً بالخطر. فهناك القنّاصة الذين يتصيّدون الأبرياء، وهناك الحواجز المُهينة التي تعبث بكرامة الناس وهم يتعرّضون للتفتيش والابتزاز. تُظهر هذه الصورة أوجه الشبه بين المدينتين، ولا سيّما في التقسيم إلى شرقية وغربية، وصعوبة التنقّل بين الشطرين، وكأنّ السكّان يعيشون في دولتين متعاديتين. وتحضر في الذهن شراسة حروب أخرى قسّمت المدن وأنهكتها، كبيروت، ممّا يوحي بالمسار الممنهَج للحروب وآلية الاصطفاف المسلّح بالكراهية.
يستعرض الروائي هنا الصور التي التقطها، فهذه صورة لساحة باب الحديد وقد انتشر فيها المقاتلون بأسلحتهم وكأنها ساحة حرب، تغشاهم غيمة انفجار كأنه حدث للتوّ، وهي التي كانت في زمن الأمن تتحوّل إلى ساحة فرح وملاهٍ أثناء الأعياد. وتوثّق صورة أخرى دمار الجامع الأمويّ، وأُخرى أيضاً دمار الأسواق القديمة. أمّا قلعة حلب التاريخية، حارسة المدينة الصامدة عبر السنين، فقد تضرّرت أجزاء منها، وأدمت قلوب الحلبيين الذين يفخرون بها. وهناك صورة لمبنى مرتفع وقد تشوّه تماماً بنوافذه المحطّمة وشرفاته المتداعية ودمامل الطلقات المنتشرة، التي تؤكّد انكساره.
تبدو حلب مدينةً جميلة تكتنز أهمّيتها بتاريخيّتها ومنشآتها وأوابدها، وسكّانها الذين صنعوا منها فخرهم كمركز صناعي وتجاري يسند الاقتصاد السوري؛ مدينة عامرة بأسواقها التي بلغت 37 سوقاً مغطّاة بسقوف مُقنطرة وأكثر من 20 خاناً بتصاميم معمارية جميلة، إضافة إلى الأبنية المتميّزة من العهدين الزنكي والمملوكي. هذه المدينة تخبّئ في جنباتها ذكريات الطفل الذي عاش فيها سنواته الدراسية الأولى: أوقات اللعب والمرح حيناً، والتلصّص على التلميذات في مدرسة البنات حيناً آخر؛ أسماء الشوارع والحارات، وبائع الصحف الذي يشتري منه مجلّات الأطفال وصحفَ الوالد، مثل “الأسبوع العربي”. سرعان ما يستلم البطل هذا الكشك للبيع فيه بعد اعتقال صاحبه، إذ كانت الصحف الدمشقية تصل قبل الظهر، والصحف البيروتية والمصرية في السابعة مساءً، وفي حيّ باب النصر كان الأولاد يبيعون كتبهم المدرسية القديمة ويشترون الجديدة. أمّا “سينما السعد” فكانت ترمز للسعادة والبهجة للأولاد في عروضها المتجدّدة. ولا ينسى البطل عيادة أوّل طبيبة أسنان تخرّجت من إسطنبول في ثلاثينيات القرن الماضي.
لا تكتمل صورة مدينة حلب دون الثقافة والفن فقد زُرعت الموسيقا في بيوتهم، وأنبتت السهر والغناء متعة خالصة للسكان قبل الحرب، وكان الجدّ ينظم جلسة شهرية موسيقية لغناء الموشحات والأغاني من المطربين الحلبيين. كانت حلب، كما تبدو في الرواية، مدينة المبنى والمعنى، تصنع ازدهارها من جدّها وإخلاصها وتصنع سعادتها من ثقافتها وفنّها. تسلبها الحرب أمانها لكنها لا تقوى على الذاكرة الغنية التي تقبض على التفاصيل لتعيد إحياءها.
تدخل الرواية لعبتها الفنّية مع بطلها الذي يريد أن يكتب روايته عن الحرب، متناولاً مدينة حلب التي خرج منها مُرغماً وتركها مثقلةً بجراحها، وبرلين التي قرأ عنها وأحبّها وأصبحت وطناً بديلاً. تستند الرواية إلى الصورة في بنية السرد، معتمدة عليها كوثيقة بصرية كاشفة، فهي تختزل الحدث وتوقف الزمن لحظة التقاطها، وهي فن يمتلك سحره ووظيفته أيضاً. فمع عتبة النصّ الأولى نقف على صورة معلّقة على الحائط تدعو البطل للتأمّل، وكانت من صديقته تريستا التي غامرت بالذهاب إلى غابات كولومبيا لتصوير الحيوانات والسكّان، حيث تتعرّض هناك لسمّ الحشرات؛ وكذلك مغامرة الراوي في تصويره لمجريات المعارك في مدينته، بمواجهة الصور بالأبيض والأسود التي التقطها المصوّر الألماني هنريش زيلله لبرلين، والتي تعطي فكرة عمّا كانت عليه المدينة قبل 1900. أمّا الرسام أوتو ديكس، فقد رحل إلى الجبهة ليرسم أهوال الحرب ويفزع الناس من بشاعتها، وكان له تأثيره آنذاك. ولذلك، عندما خطّط النازيون لحربهم، أعلنوا حرباً أخرى على الأدب والفن المناهضين للحرب، ومنعوا لوحات ديكس.
في الرواية، يحضر الثقل المعرفيّ عبر الأدب والفن والتاريخ. نرى البطل رجلاً مثقّفاً يكتب النصوص والمقالات ويشارك في الأمسيات الأدبية، ويستمع إلى الأمسيات الموسيقية أيام الخميس في الكنيسة، وهو يسكن في منطقة هادئة في برلين، يتجوّل في أحيائها متذكّراً أسماء الشوارع والساحات ومحطّات القطارات، ويتأمّل الناس بعين فاحصة في مسيرهم وسلوكهم، ويعيش علاقات عاطفية وصداقات غنية، كما يتابع عمل صديقته في إخراج مسرحية آرثر ميلر “كلّهم أبنائي”، التي تنتقد الحلم الأميركي، ويتجوّل في “متحف تاريخ ألمانيا” ويقرأ كتباً، شأن الألمان الذين يصادقون الكتب في كلّ مكان.
تتكئ الرواية على المزاوجة بين الحب والحرب؛ كيف تقود الحرب كجرح غائر إلى معرفة القلب الإنساني، وأن الوطن باقٍ، وأن مداواة الغربة تكون بملئها بأوراق الوطن وبوعي جديد. ويأتي الحبّ ليرمّم الذات المقهورة، وينسج كائناً متصالحاً مع واقعه الجديد، يقيم علاقات صداقة دافئة، ويتمتع بالثقافة كمفتاح حضاريّ في غربته، تبدّد وحشته وتجعله جزءاً من المجتمع. لا يتوقّف عند مثليّة صديقتين له، فذلك أمرٌ يخصّهما وحدهما، ويشعر القارئ بانحسار الصدام بين الشرق والغرب، حيث تُطوى صفحة الطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال” بعلاقات متكافئة يتقبّل السارد نهاياتها، ويتقبّل انتماء طفله للوطن الجديد باسمه العربي، كما يتقبّل وصفه بـ”الشرق أوسطي” كحقيقة لا يملك رفضها.
لكنّ الشرق يحضر بقوّة مع المعجزات والقوى الغيبية (الجن)، التي تحضر لتنقذ الناس وتهبهم حياة جديدة. ففي رحلة شاقّة، يهرب الناس، الذين دُمّرت بيوتهم، نحو الشمال، تلاحقهم أصوات القذائف وتوقفهم الانفجارات طوال الطريق، ولا يتمكّنون من عبور الحدود بدون مساعدة هذه القوى الخارقة. ويتكرّر ذلك مع عائلة صبري وهي تبحث عن ابنها الذي فرّ من الحرب كي لا يقتل أحداً، ولكي تجده، تقوم الشيخة نوران بضرب المندل ومعرفة مكانه. ويختلط الأمر هنا بين أن تكون هذه القوى مجازاً أو أنها تعبّر عن الثقافة الشعبية. ويعبّر ذلك عن قسوة الواقع الذي لا تُحَلّ مصائبه بأيّة طريقة منطقية.
تمتلك الرواية جاذبيتها عبر قوّة السرد وسلاسة الأسلوب، وبلغة هادئة يتنقّل مؤلّفها بين زمنين ومدينتين، يستبصر ما جرى فيهما. ونكتشف عبر أوراقه ما يجمع المدينتين من عراقة وجمال وحضارة، وما صنعت بهما الحرب من تدمير وآلام وطبقات سخام، وكيف خلّفت الحروب تغييرات عميقة في المجتمع من إعادة بناء للإنسان وكيانه وحرّيته كما حدث في برلين، أو انهيارات وانقسامات كما حدث في حلب وغيرها من المدن السورية. وتأتي الكتابة هنا لتكون كشفاً وفضحاً لما جرى، وإدانةً لكلّ الأطراف التي أهانت الوطن. فالبطل الراوي، الذي يتماهى كثيراً مع الكاتب، يريد أن يقاوم الزمن، وأن يجعل حرب مدينته وثيقة يحفظها التاريخ ويقول كلمته فيها.
*العربي الجديد