مايا العمّار: هنا “الأختية”، وجدتُها!

0

في الطريق الذي سلكت، عرفتُ نسويّات كثيرات. علّمنَني وألهمنني ومهّدن السبيل أمامي. بعضهنّ تنمّر عليّ وسخر منّي وحكم عليّ، لمجرّد عدم مباركته قرارات أو مقاربات معيّنة، أو ببساطة لعدم الرضا على أدائي و”حركاتي” وصوتي الذي وُصف بالناعم سلباً، وعلى شيء من طموحي المستقل عن طموحات جماعة أو مَن يحترفن اختزال النضال والقيادة بشخصهنّ ورؤاهنّ الجامدة، أكان ذلك في منظّمات عملتُ فيها أو مجموعات وشوارع كنتُ إليها ألوذ. لكنّني سرعان ما عرفتُ أنّني ربّما كنتُ أنا أيضاً “أختاً” أزعَجَت. وكان هذا اكتشافاً عزيزاً مهماً، بمقدوره أن يحرّر، من دون أن يُلغي الاكتشاف الأوّل.

لم تكن “الأختيّة” كمصطلح تعني لي شيئاً في بدايات ذاك الطريق الذي سلكت -والذي كان لم يزل غير رائج كثيراً آنذاك- لا لكون المصطلح وهماً، بل لشدّة تغلغله وانسيابه الطبيعيَّين في صلب واقعي الذي أُنعِم عليه بشقيقتَين -بيولوجيّتَين- مُحبّتَين وداعمتَين في وجه صعاب عائليّة وحياتيّة مديدة.

لم ينسحب هذا الدعم شبه المجّاني الذي طبع أيّامي مع شقيقتَي، على الواقع الذي اصطدمتُ به حين كبرتُ وهرعتُ إلى دوائر أو صداقات نسويّة. في تلك المساحات، المنظّمة وغير المنظّمة، كنّا بالفعل جميعنا عطشى لاختبار المعاني السياسيّة والعميقة للأختيّة، وكنّا جميعنا أيضاً نُخفق في التقاطها أو تجسيدها، وإن بدرجاتٍ متفاوتة غالباً ما تأثّرت بخلفيّاتنا الطبقيّة أو اختلاف مصالحنا أو توقّعاتنا الثقيلة التي استحالت أعباءً غير مُعلَنة بسبب هوسنا إمّا بتحقيق كلّ شيء، أو بالتطهّر من كلّ شيء.

هل كانت ميولنا نحو “التحقيق” و”التطهّر” واستحضارهما المتكرّر ناتجةً عن رغبتنا الدفينة في عدم اعتناق ما كنّا نعرف جيّداً أنّه يؤذينا وهو نفسه الذي قرّرنا المجاهرة بمحاربته؟ فكيف كنّا سنحتمل مفارقة أنّه قد ينتهي بنا المطاف بأن نشبهه؟

ربّما صدّقنا أنّنا كنساء، نحن فعلاً لسنا “بشريّات” بالقدر الكافي. فإمّا أن نكون قدّيسات كاملات أو لا نكون. لكن أن نكون كائنات بشريّة لها ما لها وعليها وما عليها، تُخطئ وتصوّب وتغيب وتعود… فحاشا. “نظيفةٌ أنا”. قد يكون ميلنا نحو ذاك النوع المنفّر من التطهّر ناتجاً إذاً عن تبنّينا للنظرة الأبويّة الأمعائيّة إلى ذواتنا. تلك النظرة القائلة بأنّنا من البتوليّة والبتوليّة منّا. مِنّا مَن لم تحتملْ الأحمال، فرمَتْها، ومنّا من حَملتْها، فدمّرَتْها الأحمال، والبتوليّة، والبطوليّة معهما.

مع الوقت، صرتُ ببساطة من بين اللّواتي اعتزمن الصمت أو بالأحرى المحاولات الصامتة، لا حمل الأحمال، لأنّني أدركتُ أنّ الأختيّة، كالحبّ، عضلة بحاجة إلى التمرين لتُصقَل، وتتّسع، وتحوي، وتُحوى، أو تقتل نفسها.

لخصمنا المُتسلّط عضلات وتفرّعات كثيرة دأبت عظامه في تشكيلها وترسيخها ببطء وتصميم مُلهمَين على مدى قرون لتبقى صفوفه مرصوصة وشوكتنا مكسورة. ومن نافل القول أننا لن نستطيع لوي تلك العضلات المفتولة ما لم نُمرّن ذواتنا أوّلاً على التفنّن في إدراك استهدافاتها المتنوّعة لنا لكي نتمكّن من التضامن مع ذواتنا المُستهدَفة أحقر استهداف، ومن ثمّ المقاومة بذواتٍ أكثر تكاتفاً ورأفة.

اليوم، حين أنظرُ إلى الوراء، أرى نفوسنا جريحة، مضطربة، عالقة لفترات طويلة في نظريّة واحدة أو نمط واحد أو مكانٍ واحد جرحَتْها خيباتُه المتتالية التي ولّدها في بعض الأحيان عجزُ النظريّة على التمظهر، فالتغيّر. أمّا الآن، فبإمكاني القول، ومع الكثير من القناعة، إنّ الأختيّة، كتوقّع مثالي، يكاد يشبه “الفيلترز” الإنستغراميّة. جلّ ما أريد والخطوط تشقّ طريقها إلى وجهي هو أختيّة مليئة بالتجاعيد، لا بالفلاتر.

سأُحبُّنا أكثر حين ترفع الواحدةُ منّا الأخرى من دون أن تضطر إلى أن تحبّها أو أن تصفح عنها كل شيء. في تلك النقطة، عقدتُ النيّة على المحاولة الصامتة. وهناك، التقيتُ نساءً كنّ يُحاولنَ مثلي. يحاولن وحسب. من دون تكلّف. من دون تزلّف. من دون ادّعاء. وحيث خَفَتَ الادّعاء، تجلّت الأختيّة.

هناك، حيث التقيتُ أخواتي، قرّرنا -من دون أن نقرّر- أن نفهم أنّنا كناجياتٍ بشكلٍ يومي ومُرهق من هيكليّاتٍ بطريركيّةٍ و”انهياراتيّة” متّفقة على قهرنا، لا خيار أمامنا سوى اكتشاف احتمالات التعاضد لمواجهتها، هي الخبيرة في مجالات التكاتف والقفز فوق خلافات ذات البين لدى استشعارها أصغر تهديد.

تعاضَدْنا ونحن متمسّكات بإدراكنا الجميل الجديد الذي تعلَّم أخيراً أن يتصالح مع حقيقة أن لا مفرّ من الاختلافات في المواقع والمواقف والامتيازات، والأهم، في الوجهة والمقصد. لا مفرّ من سؤالَي “من أين أتيتِ” و”إلى أين أنتِ ذاهبة”؟، ولا ضير في الإجابات المتضاربة، ما دامت صادقة.

هناك، حيث الأختيّة مسعى وصراط غير مستقيم، سأكون على الموعد، أنا وعضلتي المُتسحدثة الصغيرة. وما أحوجني للقائكِ أنتِ، يا مَن ظللتِ تنتظرين، رغم ثقل الملل. فحيّ على خيره.

*الشبكة المتوسطية للاعلام النسوي

حيث خفت الادّعاء، تجلّت الأختيّة