إذا تأملنا الحركة الأدبية الراهنة، نجد أن الروايات العربية تتأرجح بمعظمها بين كتابات تاريخية، واقعية، ذاتية… أما الأعمال التي تشذ عن النمط السائد فهي قليلة، وتبقى غالباً في إطار التجارب العرضية.
الروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري واحد من قلائل يقدمون نوعاً جديداً من الكتابة التي تستند إلى الواقع ثم تتجاوزه، استباقاً واسترجاعاً. ولعل روايته الأحدث “جزيرة المطففين” (دار المتوسط) تحمل جوهر مشروعه الأدبي القائم على المزاوجة بين العلم والتراث، والتاريخ والمستقبل، والتكنولوجيا والميثولوجيا.بلغة أدبية ورؤية علمية وثقافة موسوعية، قدم سروري روايته بعدما صنع لها “وعاء” (شكلاً فنياً) يتسع لكل ما هو جديد ومتنوع، إن من حيث اللغة أو الأفكار أو الصور.
ومع أن تحديد هوية النص هو هاجس نقدي دائم، فإن تصنيف مثل هذه الرواية قد يبدو ملتبساً. ومن يقرأ “جزيرة المطففين”، يدرك أن هذه الرواية لم تبن على نظام واحد يختزل في “الحبكة”، ولم تتبع نمطاً تعبيرياً معتاداً، بل إنها تقوم على رؤية شاملة، تتشابك ضمنها مواد كثيرة ومتنوعة، أولها المادة اللغوية التي ينتج منها نص سروري وتميزه. ولو توقفنا عند عنوان الرواية “جزيرة المطففين”، سنجد أن الكاتب اختار كلمة قرآنية غير متداولة “شعبياً” هي “المطففون”، في حين كان بإمكانه اختيار كلمة “الغشاشون” بكل بساطة. لكنه استخرج من تراثنا اللغوي الغني كلمة قادرة على اختزال جملة / فكرة كاملة، ليدل بها على فئة محددة من المخادعين الذين يبخسون الميزان. وهل أنسب من هذه الكلمة مثلاً لوصف تلك الأقلية التي تدير العالم وفقاً لميزان أهوائها وأطماعها وشرهها؟
الرواية الجديدة (منشورات المتوسط)
هؤلاء “المطففون” هم أهل الجزيرة التي بناها سروري وأوجد فيها زعماء ورأسماليين يستأثرون بالحكم ويوجهون العالم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، واصفاً إياهم بـ”البقالين الغشاشين”.
استباق الزمن
وفي متن الرواية، نقع على مجموعة من تراكيب لغوية ومفردات قرآنية تؤكد احتفاء الكاتب بلغته العربية الفصيحة وميله إلى إعادة إحيائها، وتأكيد قدرتها على مجاراة الزمن الراهن.
من هنا فإن اللغة عند سروي ليست حاملة أفكار فحسب، بل إنها تحمل هوية النص أيضاً. واستناداً إلى معرفته المعمقة في الأدب والعلم، ينجح سروري في تطويع اللغة لتكون ذات مستويات متعددة. فهي لغة أدبية فصيحة تارة، وعلمية عصرية طوراً. فمن الحديث عن قوم يأجوج ومأجوج والأوديسة وفاوست، ينتقل بسلاسة ليحكي عن “الروبوتات” و”اللايكات” و”الكوفيد” و”غوغل مابس”. ومن النص نقرأ “ثم تجرأت النظر في الرفيقين، أطول فأطول: لهما الحمض النووي DNAنفسه تقريباً” (ص 14).
في “جزيرة المطففين”، يتجاوز سروري “العادي” إلى التجريبي، ويخرج من الجزئي إلى الشامل ليقدم رواية استباقية بروح أدبية ورؤية علمية لم نعهدهما في الرواية العربية عامة. وهي ليست المرة الأولى التي يقدم فيها صاحب “تقرير الهدهد” رواية استباقية، بل سبق أن تحدث في “حفيد سندباد” (2016) عن زمن مستقبلي تدور خلاله الأحداث في عام 2027، وإن بدا في نهايتها أكثر تفاؤلاً مما هو عليه الآن.
وإذا كان الروائي العربي انشغل طويلاً بالرد على سؤال “لماذا”، عقب سلسلة من الحروب والهزائم والنكبات، فإن الكاتب اليمني حبيب سروري حاول أن يطرح سؤالاً أكثر راهنية، وربما أهمية، هو “إلى أين؟”. ومع التوغل في القراة، نكتشف أن هذا السؤال يقودنا إلى مستقبل قريب لا يقل سوداوية عما نعيشه في حاضرنا. والجملة الافتتاحية هي بمثابة البوصلة التي ترسم أمامنا خريطة مستقبلنا الوعر “الجو كالح كئيب، مشلول شبه جنائزي” (ص 11).
تشابك مع الواقع
وبخلاف روايات الخيال العلمي، أو حتى الروايات الاستباقية الأخرى، فإن أحداث “جزيرة المطففين” ليست منفصلة بتاتاً عن عالمنا الراهن بهمومه وتحدياته، بحيث تتطرق إلى فترة انتشار وباء كورونا إلى المشكلات البيئية والصراعات الطائفية والأزمات الاقتصادية وغيرها.
وفي هذا السياق، تدور الرواية حول عميل سري (مجهول الاسم)، فرنسي من أصل يمني، يعلق أثناء توجهه إلى بريطانيا في مدينة كايل الحدودية (على ضفاف المانش)، بسبب تفشي وباء كورونا. أثناء وجوده هناك، تتهادى إلى أذنيه أغنية يمنية قديمة، لتجره النغمات إلى خيمة شابين لاجئين هما طفران اليمني وحجي الحبشي. ومعهما نتعرف على أهوال يعيشها اللاجئون على المعابر الحدودية، قبل أن يلتقي الراوي بسينديا، الصحافية الآتية من المستقبل، وفريد الشخصية النادرة. ومن خلال الإطلالة على الزمن المستقبلي، نجد أن اليمن لن يكون وحده “سجن تحت سماء مفتوحة”، بل العالم كله سيصير سجناً مفتوحاً تحت السماء. الوباء العالمي لن يختفي، بل الأسماء وحدها ستتغير، بحيث سيواجه الإنسان المستقبلي وباء آخر هو “رقص العناكب الطائرة”. يتفشى هذا المرض بين الناس ليضرب مقل الأعين نتيجة الاستخدام المفرط للشاشات. هكذا يضعنا الكاتب أمام بناء تصورات نفسية وحياتية جديدة للإنسان الجديد، ومشكلاته وعلله.
هل أحداث الرواية تعكس نظرة سروري “المشككة” تجاه مستقبل هذا العالم؟ وهل استخدم عبارة رامبو “سيقوم عالم ’صغير، شاحب وبلا عمق‘”، كتوطئة في بداية روايته، اقتناعاً منه بأن هذا ما ينتظرنا في المستقبل؟ عن هذا السؤال، أجاب صاحب “أروى” قائلاً “لعل كلمة ’التحذيرية‘ أدق من ’المشككة‘”. نعم العالم الذي قصده رامبو لا يختلف عن عالمنا. فالخوف من تسطيح الروح البشرية، بسبب هيمنة الآلة، قديم ومستمر. بودلير (“الرائي الأول وملك الشعراء”، حسب رامبو) كان شديد القلق على البشرية، بعد اختراع الكاميرا وتطورات الثورة الصناعية في منتصف القرن الـ١٩، وإن لم يكن يعرف بعد تداعيات “زمن صور السيلفي” و”شهداء” السيلفي. فيلم ارلي تشابلن “الأزمنة الحديثة” هجاء لسطوة التكنولوجيا، مهووس بالقلق نفسه.
ثم يكمل: “لعل الأديب، والفنان عموماً، يمتلك ما يشبه جهاز قياس الزلازل (سيزموغراف)، للفت النظر الاستباقي لأي انحراف سوف يقودنا إليه تحالف قوى المال والتكنولوجيا. قلق مشروع وحميد. بالطبع، ليس المهم في قلق مشاريع الديستوبيا الروائية كونها سوف تتحقق كما رسمها المؤلف، كما لو كان قارئة فنجان؛ بل المهم ألا تتحقق. خوفنا النبيل في ذلك هو ألا تنتصر ’بيانات إكسل الرقمية‘ على الشعر، بل أن يتعايشان بتناغم وتكامل”.
تيمات متنوعة
قد ينتبه القارئ إلى تناص ما بين أفكار معينة في الرواية مثل “التجسس” ومفهوم “الأخ الأكبر” الذي قدمه جورج أورويل في رائعته 1984، وأفكار أخرى عن الأوبئة والهجرة والحروب والفلسفة والتكنولوجيا… وإذا كان بعض القراء يعتبرون هذا التنوع ميزة في الرواية، فقد يراه آخرون أمراً مرهقاً. ألا تظن أن هذا الازدحام بالتيمات قد يضر بالرواية فنياً؟
عن هذا السؤال أجاب سروري قائلاً إن “جزيرة المطففين” هي “رواية بانورامية تسعى إلى إعطاء صورة استباقية لزمن التجسس الإلكتروني الكلي، زمن الروبوتات القاتلة والتداعيات الخطرة للذكاء الاصطناعي، زمن التمايز الفاحش بين “حي ألف” و”حي ياء” حيث يسكن العرب الذين لا نرى مآل واقعهم البائس المعاصر في الروايات الاستباقية التقليدية، فيما أردت أن يكون مركزياً في روايتي. كل ذلك في عالم آت تصل فيه الأزمة البيئية التي نعيشها حداً كارثياً أشد بكثير مما نعرفه الآن، مع تداعياتها على ازدياد وتنوع الأوبئة المقبلة، بما في ذلك وباء جديد سيمس أعين الناس بسبب استفحال استخدام الشاشات.
ويضيف: “مثل آخر للرواية البانورامية رواية التركي باموق الأخيرة ’ليالي الطاعون‘ التي يقول عنها هي رواية بانورامية تقدم نظرة عامة حول آخر أيام الإمبراطورية العثمانية. وتوجد فيها بعض الأشياء التي تشير إلى الواقع، وتنشغل بمشكلات الحجر الصحي والخوف من الموت والغضب على الدولة. هناك أيضاً جوانب سياسية بالتأكيد، يسألني عنها الجميع، ولكن هناك جوانب أخرى تعتمد على القصص القديمة والخيال”.
ثم ينهي جوابه قائلاً: “تحتاج الرواية الاستباقية غالباً إلى رؤية بانورامية تحاول الاقتراب من سيرورة الحياة التي تتداخل فيها وتندمج تعقيدات متنوعة، لا يمكن ملامستها على نحو انفرادي، مثلها في ذلك مثل الأبحاث العلمية التي تمس أغوار الطبيعة الإنسانية، لا يمكن الخوض في إشكالياتها المفتوحة المعقدة الكبرى، من دون أبحاث متعددة المجالات، تندمج فيها نظرات علماء الدماغ بعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرهم…”.
رواية بانورامية
لا شك في أن خلفية حبيب سروري العلمية كانت لها الأثر البالغ في طبيعة كتابته الإبداعية. وإذا كان هو شخصياً يقف على الحدود بين الأدب والعلم، فإن روايته برمتها مبنية على تيمة “الحدود” التي تشكل اليوم واحدة من أهم القضايا الراهنة. حدود جغرافية أمام اللاجئين، حدود إنسانية جراء انتشار الوباء وارتداء الكمامة، وحدود ثقافية جراء تقدم علمي مذهل وعودة أفكار رجعية.
هذه الفكرة ناقشناها مع حبيب سروري، فكان له هذا الرأي، “فعلاً ’الحدود‘ لا حدود لها اليوم! والمفارقة الكبرى أن العولمة الرأسمالية التي ألغت الحدود المالية ووحدت عالم المعارف والإنترنت والاتصالات في كل العالم، رافقها مزيد من الحدود الجغرافية الجديدة بين البشر ودولهم المتشظية، وعودة للتقوقع والهويات المنغلقة في إطار حدود ثقافة الطائفة وعادات القبيلة… هناك، إضافة إلى الحدود التي ذكرتيها، حدود الانعزال في المنزل للعمل عن بعد، حدود الاجتماعات عن بعد عبر ’زووم‘، وحدود كثيرة جديدة، انطلاقاً من عبارة سارتر ’جهنم هي الآخرون‘”.
وأضاف “حتى المصافحة الحميمة بين الناس، وقبل تلامس بشرات وجوههم وثغورهم التقليدية الرقيقة، اختفت غالباً للأسف اليوم (على رغم انتهاء الكورونا تقريباً)، واستبدلت بمصافحة عن بعد، أو عبر مس مرافق اليدين وقبضتيهما المغلقتين… مقت الحدود بدأ في حياتي منذ الطفولة، عندما كانت اليمن جنوبية وشمالية، وعندما سافرت للدراسة بجواز ’يمني ديمقراطي‘ لا يسمح إلا لزيارة خمس دول فقط، بحسب تقاليد ذلك الزمن الماركسي اللينيني العجيب! وازداد هذا العداء للحدود مع تحول السفر واختراق الحدود، في منظوري، إلى نمط وفلسفة حياة: منهج عضوي لمعرفة الذات عبر معرفة الآخر، للتفاعل معه والتلاحم الكلي به، انطلاقاً من شعار ’أنا الآخر‘ (نقيض عبارة سارتر)، ومما كتبته في نص قديم ’وطني الكوكب الأزرق، وقبيلتي الإنسان‘”.
تشكل جائحة كورونا خيطاً أساسياً من نسيج هذه الرواية، باعتبار أن الأحداث تنطلق من ليلة الكريسمس في عام 2020، حين كانت حدود العالم مقفلة جراء انتشاره. فهل يمكن الروايات التي تكتب الآن أن تدخل في إطار التأريخ “الأدبي” لهذا الوباء؟ وألا ينبغي أن يكون هناك مسافة زمنية أطول بين الحدث وفعل الكتابة عنه؟ يجيب سروري: “الأوبئة ثابت عريق في تاريخ البشرية، وليس كورونا أولها. عندك حق في ما لو كانت رواية تدور حول موضوع وباء كورونا لا غير، مثل رواية ’الطاعون‘ لكامو. أما إذا كان الوباء ضمن ’نتائج جانبية‘ (كما يقول العسكر) في الرواية، فذلك شيء آخر. كون ’جزيرة المطففين‘ انطلقت من بداية ثلاثينيات هذا القرن (من عام ٢٠٢٠ تحديداً)، فيصعب مرور أحداثها من دون حضور كورونا، إلى هذا الحد أو ذاك، في حياة الناس، شأنها شأن عدد كبير من الروايات التي تدور، أكثر أو أقل، في السنتين الأخيرتين”.
*اندبندنت