مايا الجرف: 9 أيلول

0

وُلدتُ في شقّة في حيّ التّضامُن في دمشق، ومع أنّي قضيتُ فيها أعوامي الأربعة عشر الأولى إلّا أنّنا لم نكن نشعُر بالاستقرار، كنّا دومًا نفكّر في تركه، مرّات نفكّر في بيت أكبر وأوسع في حيّ غير عشوائيّ على الأقلّ، ومرّات نفكّر أن يُصبح بيتنا وأن نستثمر في “أسطوحه”، ومرّات نفكّر في ضواحي دمشق، ومرّات في كندا!

وبما أنّنا من سكّان دمشق ولسنا منها، كنّا نسافر كلّما سنحت لنا فرصة إلى سلميّة، لزيارة أجدادي وأصدقاء أهلي، كان عندنا في تلك الفترة حقيبتين تتسّعان لما تحمله رحلة أسبوع بين الشّام وسلميّة، واحدة حمراء، وأخرى نسيتُ ما لونها، نضع بهما ملابس العائلة كلّها.

لم يكُن شراء الحقائب أولوّيّة، ولا أذكر أنّ الحقائب المعلّقة في الأسواق استهوتني يومًا. إلى أن جاء قرار السّفر، ستكون أوّل رحلة من غير عودة، أو من غير عودة قريبة بتعبير أصحّ، ولأنّ تلك الكلمة ثقيلة على الحقيبتين، اتّجه والداي إلى “سوق الخجا”، السّوق الذّي أصبح متخصّصًا في بيع حقائب السّفر، التّي ازداد الطّلب عليها في تلك الفترة، اشتريا ست أو سبع حقائب بأحجام مختلفة وبتصاميم مختلفة. لم نملك مفتاح بيت نحمله معنا، لم نترك بيتا، لذا كان علينا أن نفرز ما نريدُ أخذه معنا إلى تركيّا -وجهتنا الأولى-عما نريد تركه عند أحد الأقارب أو الأصدقاء، وبدأنا نملأ الحقائب.

ودّعت أصدقائي، وبعد رؤية كلّ واحد أو واحدة منهم كنت أضيف تذكارًا أو رسالة إلى حقيبة يدي، حتّى امتلأت هي الأخرى، حملت الحقيبة وتركت الأصدقاء بدموعهم يلوّحون للفان الذّي نقلنا من صحنايا (ريف دمشق) إلى مطار بيروت، حيث دفعنا 150 دولارًا مقابل أوزان حقائبنا الزائدة، وركبنا أوّل طائرة، قرأت فيها الرّسائل، وبكيت حتّى وصلنا.

قبل الاستقرار، تتكرّر مشاهد الوداع، تتغيّر الأماكن، وتبقى كلّها بعيدة. لم نُفرغ حقائبنا كلّها في تركيّا طوال فترة إقامتنا فيها، وقبل التّوجّه إلى فرنسا، أعدنا عمليّة الفرز، فرز الملابس والهدايا.

أكثر ما تغيّر هو حقيبة يدي، أُضيفَت إليها رسائل جديدة من أصدقاء جدد، أفرّق بينهم وبين أصدقائي القدامى هكذا: رفقات سوريّة ورفقات عينتاب. ومع الرّسائل، حملت علمًا طلبته من عمّي، فكلّما ابتعدت كلّما زادت حاجتي للتمسّك بالوطن، أو بوطن. طرنا مرّة أخرى، وبكيت مرّة أخرى.

في هذه الطّائرة كنت أفكّر في الفرق بين المسافرين من مطار بيروت إلى مطار أضنا والمسافرين من مطار اسطنبول إلى مطار باريس، هُنا تحمل الطائرة مهاجرين يسافرون إلى أوطانهم متى سنحت لهم الفرصة، ويحملون معهم ما طاب لهم من طعام ويعودون من رحلاتهم مبتسمين.

وصلنا إلى فرنسا في التاسع من أيلول، استقبلنا مدير منظّمة تُعنى بشؤون “اللاجئين”، استغرق حوالي العشرين دقيقة ليضع حقائبنا في سيّارته، لم يبدُ عليه أي أثر للدهشة، لا بدّ أنّه مُعتاد أكثر منّا على منظر الحقائب. وصلنا إلى مركز الاستقبال، أعلمونا أنّنا سنسكنه لفترة مؤقّتة، ثمّ نقلونا إلى بيت مؤقّت اخر، وبقيت حقائبنا مغلقة، نفتحها لنخرج منها ما نحتاج إليه ونعيد إغلاقها استعدادًا لرحلة قادمة/قريبة.

بعد ما يُقارب السّنة على وصولنا، السّنة ونصف على رحيلنا الكبير، انتقلنا إلى بيتنا. لن يكون هذا البيت مؤقّتًا، كان الوقت صيفًا فوضعنا ملابسنا الشتويّة بعيدًا عن متناولنا. وضعتُ تذكاراتي على الرّفوف بعد أن فرشنا الغرفة، جمّعت الرّسائل في علبة واحدة أعرف متى أعود إليها.

بدا على الحقائب تعب السّفر ولم تعُد صالحة للاستعمال، رميناها بعيدًا ورمينا معها ثقلها، أبعدناها عنّا وابتعدنا عنها، تركناها تذهب دون عودة، وادّعينا الاستقرار، عُدنا لعادتنا القديمة، نعيش دون حقائب.

سافرت خلال فترة إقامتي في أوروبّا إلى مدن كثيرة ألتقي فيها بأصدقاء رُحّل، نتبادل أخبارنا ويعود بعد اللّقاء كلّ واحد منّا إلى مشاغله، ومع كلّ مرّة أتأكّد أنّي لا أعرف كيف أحزم أمتعة رحلة قصيرة.

مررت بمحطّات قطارات في مدن كثيرة، في أكثر الأحيان بين ألمانيا وفرنسا، أذهب بحقيبة منظّمة وأعود بحقيبة أُغلِقَت على عجل، وأفكّر في حقائب المسافرين الآخرين وأخترع لهم قصصًا، منهم من يضع حقائبه الكثيرة في مقدّمة عربة القطار، ويذهب ليجلس خفيفًا لا بدّ أنّ رحلته كانت مُتعِبة، ومنهم من يحمل حقيبة ظهر لا بدّ أنّه يسافر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع لا أكثر، ومنهم من يُسافر دون حقائب من الأصل يا لحظّه، منهم من يحمل حقيبة من الطّراز القديم، لونها بنيّ تُحمَل في اليدّ، لا بدّ أنّها هديّة جدّته، ومنهم من يحمل حقيبة بلون غريب تمشي بسهولة لا يبدو عليها ثقل ما تحمله، وأكثر حقيبة أتذكّرها هي حقيبة وقعت عيني عليها صدفة في محطّة ميونخ صيف عام 2017، ألصق عليها صاحبها ملصقات من بلدان كثيرة زارها في الأغلب. أراقب علاقاتهم مع حقائبهم، أراقب كلّ الحقائب في المحطّات وكلّ المسافرين وأسأل: إلى أي مدى تُعبّر حقائبنا عنّا؟

أردت أن أشارك خلال سنوات دراستي في برنامج تبادل طلّابيّ، أقضي خلاله فترة فصل دراسيٍّ في بلد مختلف، إنّها فرصتي، فمن الصّعب على حامل وثيقة السّفر أن يحصل على تأشيرة لمكان يريده ما لم يكن هناك سبب مقنع. وقع اختياري على تونس كوني أدرس اللغة العربية وكون زيارة تونس واكتشافها حلم بالنسبة لي منذ الأزل. حصلت على الموافقة على الدّراسة وعلى الفيزا تباعًا. لكنّي ما زلت لا أملك حقيبة! بحثت في مواقع الشّراء عن حقائب، ألوان وأحجام وأسعار مختلفة، اخترت حقيبتَيْ الجديدتين وانتظرت وصولهما.

واخترت أن يكون يوم السّفر في التاسع من أيلول أيضًا في الذكرى السادسة لوصولي إلى فرنسا، سأغادر في نفس اليوم الذي وصلت فيه بعد ست سنوات، لكنّي ولأوّل مرّة سأختار يوم عودةٍ أيضًا، سأقيم في بلد جديد مدّة خمسة أشهر، وسأعود! الفكرة تبدو غريبة، أحبّ أن أختبر الشّعور المرافق لها! وبما أنّني سأعود فهذا يعني أنّي لن أضع كلّ ما أملك في الحقائب! عليّ أن أختار محتوياتها هذه المرّة وأن أترك الباقي ينتظرني في غرفتي، اخترت ملابسي بسهولة نوعًا ما، لم أهتم كثيرًا، أربكتني أشياء أخرى: من بين دفاتر مذكّرات كثيرة، كان عليّ أن أحمل واحدًا أكتب فيه في تونس، من بين مرآتَيْ يد أحذتُ واحدة، وضعت بعض الاكسسوارات في علبة صغيرة على أساس أنّي سأشتري غيرها في تونس، وأخيرًا لم أنسى رسائل الأصدقاء، حملتها كلّها، حملت رسائل “رفقات سورية” و “رفقات عينتاب” وأضفت إليها رسائل “رفقات أوروبّا”، لأقرأها إذا شعرتُ بالوحدة!  حملت حقيبتَيَ وياء ملكيّتهما وسافرتُ وحدي.

كانت العمليّة أصعب من المتوقّع، عمليّة اختيار ما ستحمله الحقيبة، وفكرة السّفر بتحرُّرٍ من الأغراض والوزن فكرة مُخيفة، كأنّي أعترف اليوم أنّ لي وطن خارج حقائبي، أو أنّ الوطن في ذاته يُمكن أن يكون حيثُ تُفرغ الحقائب!

*خاص بالموقع