مايا أبيض: السينما السورية في المنفى: حوار مع صانع الأفلام: عروة النيربية

0

جرى هذا الحديث في أمستردام بين عروة النيربية، وهو أحد مؤسسي دوكس بوكس و بروآكشن فيلم و نو نيشن فيلمز والمدير الفني الحالي لمهرجان إدفا للأفلام الوثائقية بأمستردام، وبين مايا أبيض، صحفية ومخرجة وإحدى زملاء نيربية. هذه المقالة هي الحلقة الأحدث من نقاش طويل نضج بينهما عبر فترة من الزمن. تم تحرير الحوار لجعله أكثر سلاسة ووضوحا.

(س): أجرينا نقاشات مع سينمائيين/ات وكتاب سوريين/ات، ومعك أيضا، حول الموجة الجديدة من السينما السورية، وعلاقتها بالثورة والمنفى والتمثيل والرقابة وديناميكيات صناعة الإنتاج السينمائي. كيف يؤثر كل ذلك على علاقة الجمهور السوري بالسينما السورية؟

ما المقصود ب”الجمهور السوري” تماما؟ كسوريين/ات، لانزال نعيش مرحلة صعبة. العلاقة بين السوريين/ات وصورة مأساتهم لا تزال شديدة الحساسية، وهو أمر متوّقع من أي شعب في ظروف بهذه المأساوية. يجب أن أؤكد أنّ ما أقوله هنا هو توصيف لهذه المرحلة، وليس تقييما تجاه أحد.

تتعدد أنماط التفاعل بين السوريات/ين الذين يشاهدون هذه الأفلام اليوم. الأبرز بينهم هم الأعلى صوتا، ما يمكن تسميته “الجمهور الثوري”. الكثير من متابعي/ات السينما في المعارضة السورية يميلون لأن يشاهدوا الأفلام السورية لا كما يشاهدون سواها من الأفلام، وإنما هم يشاهدونها ليقوموا بفحصها. ينال الفيلم عدد مشاهدات (وقرصنة) أعلى إن كان “إشكالياً” من الناحية الثورية. يتحول فعل المشاهدة لفعل تفحّص/تأكد من “صورتي” في الفيلم، مثل فعل رقابي، هو فعل عنيف تجاه الفيلم. الأفلام لا تصنع لعين الفاحص، بل لعين المشاهد.

كما يوجد أيضا عدد كبير من السوريين/ات علاقتهن بالموضوع أكثر ليبرالية. يحاولون العيش “بسلام” قدر الإمكان، وغالباً ما يبدأ ذلك بتجنّب مشاهدة هذه الأفلام أساساً.

ثم هناك الجمهور السوري الذي يعيش تحت سيطرة النظام، ولا صوت له بحكم ذلك، فلا نعرف ما هي تجربته مع هذه الأفلام، أو إن كان يشاهدها أصلاً أم لا.

أخيرا، هناك الجمهور المؤيد للنظام، وهو كما الجمهور الثوري من هذه الناحية، لديه رأي مسبق واضح يفحص الأفلام التي يشاهدها بالمقارنة به. فالسؤال هنا حقيقة هو: عن أي جمهور سوري نتحدث؟

(س): هل تظن أن الميل للفحص عوضا عن المشاهدة نابع من الخوف من التبعات السياسية أو الإجتماعية السلبية التي قد تحدثها هذه الأفلام فتؤثر على سوريا والسوريين؟

أظن أن هذا هو التبرير – أو محاولة العقلنة – الذي يقوله البعض لأنفسهم. أعتقد أن حقيقة الأمر تتعلق أكثر بالجراح النرجسية العميقة والمرتبطة بصورة الذات.

معظم الأفلام الوثائقية السورية التي نالت نجاحا في الغرب قدمت صورة رومانسية للثورة السورية: حكاية شعب قام ضد القمع وناضل لأجل الحرية. لذلك لا أظن السبب الحقيقي هو بالعموم القلق من التبعات السياسية. كما أنّ الفترة التي أمل خلالها البعض بأن تغيّر السينما شيئا في الواقع السوري قد ولّت الآن.

أعتقد أن الأمر أكثر  ارتباطا بالحاجة لتفحص صورتي أنا. هل تعجبني الـ”أنا” الرمزية في الفيلم؟ هل تشبه الـ “أنا” التي أراها أو أحب أن أراها؟ هل يهاجم الفيلم كل أولئك الذين أرغب بإدانتهم؟ وإن أنا دعمت الفيلم – أو وافقت عليه – هل أنا بذلك أدعم شخصاً أو خطاً قد لا أتفق معه/ا تماماً حول كل شيء؟

جانب آخر للأمر هو كون المجتمع السوري يرى صنّاع الأفلام كقادة. وبالتالي هم كغيرهم من القادة خلال العقد الماضي، يتم رفضهم مبدئياً وتفحصهم بدون رحمة. نطالب السينمائيـ/ة أن تمثلنا أو نرفضه/ا…. شعار المظاهرات الشهير “الشهيد يمثّلني” يكشف عدميةً (لعلها فريدة في السياق السوري) ربما تساعدنا على فهم صعوبة “السماح” لأحد ما بأن “يمثلني”.

من هذا المنظور تتم مناقشة فيلم سوري بوصفه مشروعاً إعلامياً يتحمل مسؤولية التمثيل السياسي والمساهمة في حرب السرديات التي نحن في خضمّها، وليس بوصفه مقاربة فنية للواقع. وحين ننظر الى فيلم بهذه الطريقة، يكون من المنطقي أن يشعر كثيرون أنّ من حقهم مشاهدة الفيلم مجانا على الانترنت وفوراً. حتى أولئك الذين يعيشون في أوروبا وأميركا، لا يقولون: “يا جماعة هناك فيلم سوري في السينما… فلنذهب لمشاهدته” كما يفعلون مع أي فيلم آخر. هم يفترضون أن من حقهم وضع نظارة الفاحص على عيونهم وفحص الفيلم لرفضه أو الموافقة عليه. بعض صنّاع الأفلام يرون أن أفلامهم هي ملك “الشعب” أو “ملك الثورة” ولكن هؤلاء ليسوا كل السينمائيين. كثير من السينمائيين لا يرون الأمر من هذه الزاوية ولا يصنعون أفلامهم لهذه الغاية.

(س): بعض المشاهدين/ات السوريين/ات ينتقدون هذه الأفلام على أنها يبدو وكأنها صنعت بشكل رئيسي لتخاطب جمهورا أجنبيا. بعض صنّاع الأفلام أيضا يشتكون أنّ صناعة الإنتاج السينمائي تضغط عليهم بهذا الاتجاه.

الإجابة على هذا السؤال تأتي من داخل كل فيلم بحد ذاته: هل يقدّم الفيلم نظرة تبسيطية برّانية أو سياحية، هل يثبّت الفيلم قوالب تنميطية شائعة، أم أنه في حقيقة الأمر موضع انتقاد لأنه يقدم وجهة نظر لا ترى هذه المجموعة أو تلك أنها تمثلها. في معظم الحالات، أظنها مجرّد تبريرات تلفيقية في مواجهة الذات قبل الآخر. هي تأتي من العقلية التي وصفتها: إن لم تعجبني الـ”أنا” التي في الفيلم أرى أن الفيلم صنع لـ “اللآخر” أو “للخصم”، أنه لا يخاطبني.

أن لا نكون منفتحين على النقد في هذه اللحظة من تاريخنا هو نتاج متوقّع ومفهوم لحالة جمعية صعبة، لحظة عنف وتروما وطنية عامة. وبالتالي، العلاقة بين الأفلام والجماهير السورية هي اليوم صعبة ودقيقة بشكل حتميّ. كما أنه من غير المنصف أن ننظر للشعب السوري اليوم وللفيلم السوري اليوم، وكلاهما يمرّ بهذه المرحلة الدقيقة والخاصة، ونفترض أن العلاقة بين الاثنين مكتملة وناجزة. من المبكر الآن أن نطلب رأياً نهائياً حول هذه الأفلام من هذا الجمهور. يحتاج الأمر المزيد من الوقت والمسافة. ربما علينا انتظار الجيل القادم.

هي أمور تتغير مع الوقت. قبل الثورة كان لدينا مجتمع غالبا ما يرفض أن يتم تصويره، يكره صورته وحتى يخشاها أو يخجل منها. خلال سنوات الثورة الأولى، بدأ الكثيرون يفخرون بصورتهم، يحتفون بالمصورين/ات ويقفون أمام عدساتهم. اليوم يبدو أننا عدنا لما يشبه الخجل من صورتنا.

(س): هل يخطر على بالك مثال لبلد آخر خاض التجربة السينمائية بطريقة مشابهة؟

لست متأكدا أن هذا قد سبق وحصل. لكن، فلننظر على سبيل المثال إلى الجمهور التشيلي والسينما التي وثقت أيام بينوشيه وما بعدها. في آخر أفلامه عرض المخرج التشيلي المنفي الشهير، باتريسيو غوسمان، صورةً مؤلمة لتشيلي بعد بينوشيه… بلد ما زالت مسكونةً بذاكرة القهر ذاك وقد انتقلت اليوم إلى مستقبل نيوليبيرالي عنيف بدوره. في أواخر الفيلم قال غوسمان: “عندما أصبح بإمكاني العودة، اكتشفت أنني لم أعد أرغب بالعودة”.

على ما يبدو، صدم هذا التعبير بعض الجمهور التشيلي. برأيهم: “لا! الوضع في تشيلي ليس بهذا السوء”. رفضوه واعتبروه مهينا ومستخفا بهم. هنا أيضا، نجد موقفا يطلب فيه الجمهور المحلي من صانع الفيلم أن يقدم صورته كما يرغب أن تكون، أو أن يقدم عملا متوازنا وشاملا، وكأن فيلما من ٩٠ دقيقة يمكنه أن يشمل واقعاً وطنياً برمّته. لكننا حين نشاهد الفيلم، لا يمكن أن لا نرى حب غوزمان لتشيلي. تعبيره العميق والمركّب عن حبّه لبلده. هذا مجرد مثال… لا يصل لحجم الحالة السورية. ما نشهده اليوم في السينما السورية لم يسبق له أن حصل من قبل. لم يحصل أن قام بلد بثورة في السينما لهذه الدرجة.

حتى عشر سنوات مضت، كنّا بلدا تنتج وسطيا فيلماً ونصف في العام من قبل المؤسسة العامة للسينما، وربما فيلم بلا ميزانية كل ثلاث سنوات. معظم هذه الأفلام كانت تختفي في المشهد السينمائي الدولي، باستثناء أفلام ثلاث أو أربع مخرجين معروفين. اليوم، تصل شابة (وعد الخطيب) لم نسمع عنها من قبل إلى الأوسكار بفيلمها الأول وتتقاسم جائزةً مع غوزمان نفسه في مهرجان كان. هذا “ثوري” بكل معنى الكلمة!

(س): إلى أين نذهب جميعنا الآن من هنا؟ هل بإمكان السينما السورية الاستمرار على هذا النحو؟

أتمنى أن يفتح صنّاع الأفلام السوريون خياراتهم ويحرسوا مساحة الابتكار التي هي حقهم وأداتهم. أقصد خياراتهم من حيث الجماهير والأسواق السينمائية التي يختارون أن يعملوا معها. فبكل حال… الخيارات التي يصنع فيلمٌ انطلاقاً منها، لا تحدّد بالضرورة مدى نجاحه. فيلليني مثلا صنع سينما إيطالية محلية للغاية، لكنها لاقت رواجاً كبيراً حتى في اليابان.

رغم فرادتها، تظل التجربة السورية جزءاً من التجربة الإنسانية، والسينما السورية جزءاً من السينما العالمية.

وبالتأكيد سيؤثر السياق على التطورات المستقبلية. سينفتح بعض السينمائيين على العالم العربي (الخليج، مصر، نيتفليكس عربي… الخ) سيصبح البعض جزءاً من الصناعة المحلية للبلد التي يعيشون فيها، والبعض الآخر قد ينفتح عالميا أكثر…الخ. نحن نمر حالياً في مرحلة مؤقتة من تاريخ تجربتنا كسوريين، مرحلة لا يمكن أن تستمر.  وليست أي من هذه الخيارات جيدة أو سيئة بحد ذاتها.

حتى الآن لا يزال معظمنا يشتغل على سوريا بغض النظر عن أماكن إقامتنا. هو أمر ليس غريبا في تاريخ سينما المنفى. السينمائي الكمبودي الفرنسي، ريتي بان، يعيش في فرنسا منذ ٤٠ سنة، ربما وما زال إلى اليوم يشتغل حصريا على مأساة بلده الأم كمبوديا. يتم تمويل أفلامه بسبب جودتها وليس بسبب اهتمام الجمهور الغربي بشكل خاص بالمآسي التي حصلت في كمبوديا منذ ٤٠ أو ٥٠ عاما.

اليوم، فرصة الراغبين/ات بصناعة فيلم مستقل صغير، تسجيلي أو درامي، من منطقتنا، بدرجة معينة من الحرية، وتمويل على قدر الكفاية، ازدادت بشكل واضح. فرص المخرجات ازدادت أيضا بشكل واضح. قد لا يصبحن ثريات، لكن فرصهن بصناعة فيلم بالتأكيد أكبر.

(س): في الوقت نفسه، لا يمكننا إنكار أنه للوصول لجمهور محلي، على المخرجات/ين السوريات/ين أن يتم الاعتراف بهم/ن أولا من قبل جمهور أجنبي، غربي بالغالب.

قد تكون هذه سيرورة الأمر أحيانا. لكن في كثير من الدول غير الديمقراطية هناك فصل بين “الاستقبال النقدي” لفيلم، وبين التوزيع الفعلي له على منصات العرض. مقالات النقد أو الآراء الثقافية الإيجابية حول فيلم لا تترجم إلى توزيع تجاري أو اهتمام جماهيري أوسع، كما يحصل في المناطق التي توجد فيها صالات سينما ويقدّر الناس فيها الصحافة أكثر. كل ما لدينا حتى الآن هو التلفزيون. قنوات التلفزيون العربي التي يشاهدها السورين/ات لا تهتم حقيقة للجوائز الدولية، كل ما يهمها هو أجنداتها الخاصة. وبالتالي لا يضمن النجاح العالمي فرصة عرض في التلفزة المحلية. ومن الهام أن نتذكر أن أي مخرج/ة جديد/ة في أي بلد بحاجة اعتراف عالمي من مهرجانات كبيرة ليبرزوا محلياً. وبكل حال هذه ليست ظاهرة سورية. المنافسة بين مخرجي/ات الدول التي يوجد فيها صناعة سينما محلية متينة أعنفُ بكثير مما هي في سياق فقير مثل سياقنا السوري.

(س): لكنهم في تلك الحالة لديهم أيضا مجتمع سينمائي محلي، تعاون ممأسس يقوم بالفلترة والدعم.

في الغرب اليوم، وفي عالم السينما تحديداً، فكرة التقاطعية تحوّل هذه القضية إلى قضية جمعية. سؤال: “من يحق لهم ومن يستطيعون أن يصنعوا ويعرضوا الأفلام؟” ليس سؤالاً سورياً فحسب. في عالم السينما اليوم، المخرج/ة السوري/ة مثلهم مثل المخرج/ة المهاجر الأفريقي/ة أو المخرج/ة اللاتيني/ي المنفي/ة وغيرهم…التقاطعية تجمعنا كشبكة دعم ضد أي تمييز محتمل ضدنا من قبل مؤسسات الصناعة. النضال لاجتراح الفرص والحصول على التمويل ومنصات العرض هو نضال جمعي. الأمر ليس خاصا بالعرب أو السوريين/ات. هناك لوبي أوسع بكثير وتحالفات بين مختلف الأقليات.

من الناحية الأخرى، من الهام أن نتذكر أن الإنتاج الدولي المشترك كان وراء السينما السورية المستقلة لثلاثين سنة مضت على الأقل. ليس الإنتاج المشترك مع شركاء دوليين بالأمر الجديد. قبل ٢٠١١ كان الإنتاج المشترك مرغوباً لأنه يساهم في تجاوز عقبات الوضع السياسي والفساد في سوريا، بالإضافة للمحدودية التقنية، أما الآن فهو يتم بسبب واقع المنفى.

كل ذلك يوصلنا إلى سؤال: ماهي “السينما السورية”؟ …هل نعرفها على أساس جنسية المخرج/ة؟ على أساس موضوع الفيلم؟ مصادر التمويل؟ القصة؟ أو على أساس إجماع بين السوريين/ات بأنه “فيلمهم”؟ لست متأكداً من أني أعرف كيف أجيب على السؤال، أو ما إذا كان صواباً أن أجيب عليه. كان الأمر أسهل في واقع الثمانينيات والتسعينيات الأقل عولمة. الآن اختلف، وعلينا أن نحرص ألا نخطو فوق الخط الرفيع الفاصل بين الانتماء والقومية… هل يقوم التأثير الأجنبي بـ “تلطيخ نقاء” سينما محلية ما؟

(س): ماذا عن السينما داخل سوريا في مناطق سيطرة النظام، العاملة مع أو إلى جانب السلطات هناك؟

علاقة النسب بين أفلام الثورة والسينما السورية ما قبل ٢٠١١ أوضح وأعمق من تلك التي بين الأخيرة والسينما المؤيدة للنظام اليوم. السينما السورية نقدية تاريخياً، كانت بالعموم ودوماً سينما معارضة. ربما لم تكن ثورية، لكنها بالتأكيد نقدية أكثر مما هي موالية.

(س): حتى مع كافة الخطوط الحمر المحيطة بها؟

كما كان حال السينما السوفييتية، لم تصرّح الأفلام السورية مباشرة بما ترغب قوله، لكنها تجاوزت العديد من الخطوط الحمر المفروضة من قبل النظام. مثلاً حين لوّن ريمون بطرس نهر العاصي في حماة باللون الأحمر في فيلمه الطحالب عام ١٩٩٠. هذا مجرّد مثال من أمثلة عديدة.

لكن الأمر الآن اختلف. مثلا، ننظر لفيلم محمد عبدالعزيز “الرابعة بتوقيت الفردوس” (٢٠١٥). لا يمكننا اعتباره فيلم بروباغاندا للنظام، لكنه فيلم لمخرج يقبل بالنظام.  حتى هذا النوع من الأفلام لم يعد ينتج اليوم ضمن أطر التمويل والرقابة في دمشق. ما يتم إنتاجه اليوم هو بشكل شبه حصري أفلام بروباغاندا صرفة. هذه هي الظاهرة الجديدة فعلا في السينما السورية. بالإضافة لذلك، مقاطعتنا نحن كسينمائيين معارضين لإنتاجات النظام (وضغطنا الدولي لمقاطعتها) أدت لمحاصرة العديد من السينمائيين المقيمين في سوريا. مع الوقت ومع تصاعد فساد النظام بات التمويل الرسمي حكراً على حفنة من المخرجين لا أكثر… وهم الأسوأ، أولئك اللذين لا يملكون أي شعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه البلد.

أتمنى أن أرى فيلماً حرّاً فعلا ينتج من تلك الضفة، فيلماً يجبرني على التأمل بتعقيدات وتشابكات وإنسانية الظرف الإنساني هناك… فيلماً يقدّم سردية نقدية جادة، لا تبسيطا كاريكاتورياً جندي النظام فيه بطلٌ رومنسي يدافع عن الأمة ضد الإرهابيين، بهدف إرضاء المخابرات أو دغدغة جمهور مستقطب. لكن هذا لا يبدو ممكناً بعد…

في هذا المضمار، المعارضة ربحت. السينما المؤيدة للثورة لديها الحرية، وكثيرا ما تكون ناقدة للثورة نفسها، بينما السينما داخل حدود سيطرة النظام هي اليوم حتى أقل حرية مما كانت عليه قبل ٢٠١١.

(س): كيف يمكن للمخرجات/ين السوريين/ات الوصول للجمهور السوري؟

من يجرؤون منهم يستطيعون عرض أفلامهم مجانا على الأنترنت… إن كانت بالعربية دون ترجمة ومع حصر العرض بالشرق الأوسط من خلال تقنيات التحديد الجغرافي. السوق السينمائي العربي صغير جدا، لن يحصل الفيلم عادة على أكثر من عرض أو عرضي شراء تلفزيوني بالدرجة الأولى، تتراوح بين ألفين وعشرين ألف دولار على أعلى تقدير. لذلك حتى إن مثلت الفيلم شركة توزيع سينمائي فهي لن ترتجي الكثير من الدخل المالي من المنطقة.

هذا أمر يمكن لصانعي الأفلام المفاوضة عليه مع منتجيهم وموزعيهم، دون ضرر مادي يذكر بأي أحد. هذه الآلية تعني تأخيراً مدته سنة أو سنتان بين أول إطلاق للفيلم في المهرجانات ووصوله للجمهور السوري، لكنه أفضل من لا شيء.

(س): إذا يوجد حل تقني/مالي ضمن الصناعة؟ 

كما سبق وذكرت، العلاقة بين الجمهور والمخرجين/ات هي المشكلة الفعلية. ما الذي يمنع المخرج/ة من تنظيم جولة عروض صغيرة تتبعها حوارات مباشرة مع الجمهور للجاليات السورية في شتاتها؟ البعض قد يفضّل أن يُدعى لعروض ينظمها آخرون بدل أن يسعى لدعوة المشاهدين بنفسه. هناك بالتأكيد عقبات لوجستية ومالية وفيز يجب وضعها بالاعتبار لكنها ليست عقبات يستحيل تجاوزها، إن هم رغبوا بذلك. ولديهم أيضا الحق في ألا يرغبوا بذلك. علينا أن نتذكر أنّ صنّاع الأفلام أيضا يخشون “عين الفاحص” التي تحدثنا عنها. كثيرا ما تجعل تلك العين تجربة عرض الفيلم تحدّياً مرهقاً للغاية، إلا إن كان الفيلم بذاته أداة استقطاب محاطة بحلقة واسعة من المناصرين/ات.

(س): ألا تعتقد أنّ على صنّاع الأفلام أن يهتموا لرجع الصدى من المجتمع الذي يروون قصصه؟

في أفلام المناصرة التقليدية، الجواب بسيط: نعم. لأن الفيلم يدّعي تمثيل هذا المجتمع أو ذاك. لكن هذه فئة محدودة من الأفلام وليست كلها ولا حتى أكثرها.

في الطرف الآخر من هذا السؤال نجد صنفاً من الأفلام يبرز اليوم كظاهرة تتسع وتنتشر. الاسم الذي يطلق عليه مؤخراً هو “التسجيلي المفحوص” (vetted documentary). هذا هو الجانب السلبي والمخيف لآلية التعاطي ثنائية التحديد هذه مع زعم بعضنا لامتلاكهم الصواب ومرجعيتهم في تحديد ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي… هذا الجانب ينتهي بأفلام موافق عليها ١٠٠٪ من قبل الشخصيات التي تظهر فيها أو حتى من المحامين الذين يمثلون مصالحهم. هكذا نجد أفلاماً كثيرة اليوم لا تفتقد فقط للمسافة النقدية، لكنها تحوّل فعلا الفيلم التسجيلي إلى أداة ترويج، مثل البروباغاندا تماما. للفيلم كامل الحق بأن يكون وجهة نظر فردية نقدية. الإجماع عدو أي عمل فني.

في كل مرة تحدث فيها فيلم عن وضع النساء في العالم العربي، علت أصوات تتهمه بأنه صنع “إرضاءً للغرب” وتم رفضه بعنف حتى من قبل بعض النساء… من الملام هنا؟ الغرب؟ السينمائيون؟ النساء؟… هي لعبة انعكاسات وتبادل للملامة.

لذلك أظننا نعود هكذا لنقع في مشكلة الاختزال الوطني. وكأنه يتوجب علينا دوما البحث عن هوية سورية موحدة، وبذلك حس تمثيلي سوري موحد ورجع صدى، أو رأي، سوري موّحد. لكننا نعيش في تقاطعات متحركة (مصفوفات) وهوياتنا تتطوّر. لم يكن السوريون يوما متطابقين هوياتيا. كانوا متنوعين قبل تغريبتهم وهم يصبحون أكثر تنوعاً الآن.  ما يجمعهم هو ثراء تنوعهم، لا رفضه.

من الإشكالي، وحتى من الشوفيني ربما، أن نكون مطالبين بحراسة جراحنا الوطنية والتشبث بالتروما الجمعية كي نصون هويتنا. هذه المقاربة تجعل من تجاوز التروما خيانةً للوطن وللشعب. على الأقل برأيي الشخصي أن إنكار الواقع (هنا: المنفى) والتشبث بالتروما هو بالتحديد الهزيمة.

النصر هنا يتطلّب منا قراءة الواقع وإعادة الاعتبار لمكامن القوة فيه. أن نعترف بأننا اليوم نستطيع أن نكون أقوى مما كان بإمكاننا أن نكون سابقا. نحن اليوم منتشرون في كل العالم ونعيش ضمن ظروف مقبولة نسبياً. إن اخترنا أن نقبل ذلك يكون بإمكاننا أن نحوّله لصالحنا. لا حاجة للتطرف: ليس علينا أن ننسى سوريا، وكذلك ليس علينا أن ننكر جغرافياتنا الجديدة ونتشبث بجراحنا.

السنوات العشر الأخيرة من تاريخ سوريا كانت أشياء كثيرة، لكن عليها ألا تكون حبساً في المظلومية. تلك ستكون الهزيمة.

(حكاية ما انحكت)