ماهر راعي: أقصر رواية سورية… عائلة محشورة في مرآة بحجم الكف

0

الصوت في المرآة

 مؤخرة تذكّر بانهيار الاتحاد السوفييتي. نعم، كان حدثاً أن تمرّ في شارعنا، نحن الذين كنّا نكتب ونحفر على الجدران المتسخّة بأصابع أجيال سبقتنا، هم ذاتهم من خطّط على الأبواب: “حجاً مبروراً!”  وزيّنوا بآيات عن العفّة والاستقامة وامتحانات الله الشّاقة، تركوا لنا عشرات الفجوات الصغيرة في زجاج الشّبابيك للفرجة، غرف نوم للكذب والخيانة، وحمّامات كان بخارها نذلاً وقاسياً علينا.

كنّا نكتب على أجسادنا بالإبر الّلئيمة بعد أن ندهن بشرتنا بهباب الفحم: “رضاكي يا أمي… لا فتى إلا علي و لا سيف إلا ذو… “، وحين يشتد الألم نكتفي برسم السيف الذي أصبح أشبه بمكنسة قديمة، نقضم كلّ يوم صبايا الحارة في مناماتنا المرهقة، ثمّ نرميهنّ مثل تفّاحة اسفنجيّة في بئر من تعرّق وزفر أجسادنا.

لقد كان حدثاً، أنّها غيّرت طريق المدرسة، ولم تستطع تغيير بنطلون السنوات الماضية، كم كنا نكرهه إذ كان غبياً وفضفاضاً.

أيّها الفقر القذر، ياشريكنا المحتال!

*****

كان يعني لنا الكثير أنّ تمرّ قربنا، نحن المستندين إلى جدران آيلة إلى السّقوط، في أفواهنا حلقات معدنيّة لسكاكين نعرف طعم نصالها.

لم نكن حينها ننتبه أنّنا مجرّد جرذان منهمكة بقضم اليابس من كلّ شيء، لم نكن نعرف المرايا الكبيرة. مرّة لم نر أشكالنا بالطول الكامل. جميع مرايانا بحجم الكف أو أكبر بقليل، على شكل مستطيل أو دائرة، أو كسرة من مرآة كبيرة تحطمت في مكان ما.

أيّها الفقر القذر، ياشريكنا المحتال!

 المرآة الوحيدة في منزلنا كانت تلك الدّائرية التي تتجاوز حجم الكفّ بقليل، كان أبي يسندها على طاولة أمامه، يعيد ضبط وقفتها مراراً حتًى ينعكس فيها وجهه بأفضل ما يمكن.

يمدّ يده إلى لحيته ذات السّبعة أيّام، يتحسّسها بقسوة، ثم يبلّل الفرشاة بماء ساخن من كأس نحاسيّة كانت لجدّه الذي حارب في فلسطين، حسب ما كان يروي بفخر باهت، ثمّ يمسّد بسرعة مدروسة وجهه بقطعة صابون قديمة، يمرّرها في كلّ الاتجاهات صعوداً وهبوطاً كما يفعل طفل تعرّف للتوّ على قطعة طباشير، أدهشه أنّ لها مقدرة سحريّة في ترك الأثر على الّلوح.

فجأة يركنها جانباً كأنّه تذكّر أمراً هاماً، أو ربّما خاف من استرسال أفكاره تلك الّلحظة ، يأخذ نفساً سريعاً ويبدأ بتحريك الفرشاة بشكل دائريّ على لحيته، إلى أن تغطّي الرّغوة كامل وجهه، عدا العينين والجبين، فيبدو أنفه غراباً في حقل قطن، وتزداد لمعة عينيه.

يده تتحسّس جاهزيّة الشّفرة في مكانها (يبدو أنّني استخدمت مفردة يتحسّسها أكثر من مرة، وكأنّها إشارة إلى أنّ أبي كفيف، لكن الحقيقة أنّه لم يكن كذلك، وإنّما الاستراحة تُشعر أبي بالخجل، إذ يعتبرها وقتاً مستقطعاً يجب الاستفادة منه بعمل ما! لا أحد يعلم لماذا يبدو أبي مستعجلاً بشكل دائم، وقلقاً، يخجِلُه مرور وقت بدون عمل). الشّفرة في مكانها تماماً، يمسح بإبهامه مكان التقاء الّلحية بالسّالف، ثمّ يبدأ بسحب الشّفرة فوق البشرة الخشنة لتصدر صوتاً قاسياً مقاتلاً.

الآن وقد خاضت الشّفرة في كلّ تفاصيل وجهه، تساعدها سبّابة اليد الأخرى، إذ تمهّد لها الطّريق بشدّ جلد البشرة. في مكان ما تفشل السّبابة، فينزّ الدّم، ويبدأ الّلون الأحمر بتلطيخ الرّغوة البيضاء. الأمر أشبه بجريمة قتل حصلت فوق الثّلج.

*****

تناول دفتر أخي الصّغير إذ صادف أنّه الأقرب، فتحه بهدوء وشقّ ورقة من آخره، نهض أخي ملسوعاً، سحب الورقة من يده ثم صاح: “هذه ورقة البرنامج!”.

وحدي من عرف أنّ الأمر يتعلّق بقلوب حمراء تقطر دماً، رسمها أخي مباعداً بين حرف اسمه وحرف اسم حبيبته برمح يخترق القلب. شقّ ورقة أخرى وناولها لأبي، أخذ منها مزقة صغيرة، وألصقها مثل طابع فوق مكان الجرح. ينهض أبي بوجه مضحك، مليء بمزق الورق المتناثرة والملتصقة فوق الجروح الصّغيرة.

 لم تكن تركيبة أبي الجادة لتسمح له أن يستغلّ هذا الموقف البسيط، فيتصرف أمامنا كمهرّج يضحك صغاره، ودون أن ترسل أمّي رسالة بطرف عينها كما تفعل عادة حين تطلب من أختي أن تقوم بعمل ما، تجمع أختي عدّة الحلاقة كاملة، وتجدُّ في نقلها إلى المطبخ. تتصرّف تماماً كما لو أنّها كانت تنتظر تلك الّلحظة، حين ينهض أبي معلناً انتهاء جولة الحلاقة الأسبوعيّة.

كنّا، أخي وأنا، ممدّدين على أرض الغرفة، ننظر إلى وجه أبي ثمّ إلى بعضنا البعض، نطبق بأصابعنا الصّغيرة على شفاهنا خوف أن تنفجر فجأة أمامه ضحكتنا المجنونة.

من بعيد، وعبر عتمة الممرّ الواصل إلى المطبخ، ورَدَنا صوت اقتتال مكتوم، صوت اقتتال صار مألوفاً لنا، إنه صوت “نهى” و”سعاد”، ومحاولة كلّ منهما الاستئثار بالمرآة لساعات طويلة.

تعود أمّي بهدوء المنتصر، حاملة بيدها المرآة، تتبعها سعاد بتوسّلات صامتة للحصول عليها، ترفض أمّي توسّلاتها وتصرخ بوجهها أن تلتفت إلى واجباتها المدرسيّة بعيداً عن هذه التّرهات.

 تنسحب سعاد خوف أن يهتمّ أبي بتفاصيل المشكلة، فتصلب سعاد لساعة كاملة على خشب حديث أبي الذي لا ينتهي، عن وقاحة التّجميل وترّهات الصّبايا اللواتي ينتفن حواجبهن… عن الخجل المفقود، الخجل الذي يجب أن يكون بمثابة الجلد للصبايا.

إنّها محاضرة طويلة ومملّة حفظتها سعاد عن ظهر قلب، منذ كانت مجرّد مستمعة تقف قرب نهى، حين كانت الأخيرة تتلقّى لكمات أبي الصّوتية بصمت وإطراقة، ليستا إلّا حركة مصطنعة تزيد أبي زهواً بعرض قواعد العفّة والإسهاب بتفاصيلها، وصولاً إلى الصّمت، وربّما أحياناً نسيان الموضوع الأساس والانتقال إلى مواضيع أخرى.

*****

كان أبي مشغولاً بمتابعة الأخبار، وهذا حظ وافر لسعاد كي تنجو من تلك المحاضرة. فجأة تدخل نهى، وببساطة تتناول المرآة التي وضعتها أمّي قرب التّلفاز (على اعتبار أنه المكان الّذي يقع تحت مراقبة أبي دون تكليف منها) سحبت المرآة بهدوء وطبيعيّة، مستغلّة مراقبة أبي للعالم كيف يشتعل في كلّ مكان، ثم اتّجهت نحو الباب. مددتُ قدمي أمامها كنوع من الدّعابة الّتي برّرتُ فعلها آنذاك كونها متلبّسة وأنا الشّاهد الوحيد. اجتازت قدمي بذكاء، وابتسمت لي كنوع من الرّشوة بأن أدعها لتكمل المهمّة بنجاح. صاح أبي بصوت مخيف: “نهى!”.

تجمّدت في مكانها وأخفت المرآة بحذر شديد، ثم التفتت إليه. قال: “هاتي لي كأس ماء”.

 ابتسمتُ، وكدتُ أنفجر من الضّحك.

غابت للحظات ثمّ عادت بكأس ماء يبدو أنّه مُلِئ على عجل، إذ إن الماء فيه ناقص حتى المنتصف تقريباً.

ناولتْ أبي الكأس ومضت. صوت آخر جعلها تتسمّر في مكانها. مدّ أبي يده بالكأس وقال لها أن تعود لتملأه جيداً. استمرّ بمحاضرته عن آداب الخدمة حتّى نسي عطشه حينها. كانت نهى صامتة تماماً تتظاهر بحسن الاستماع، ثمّ تجد فسحة في حديث أبي لا تتجاوز أخذ الأنفاس، تستغلّها وتمضي إلى إتمام مهمّة الماء، يتمتم أبي كلمات غير مفهومة كنوع من السّياط الأخيرة الّتي تتبع المحاضَر به، وتؤكّد انتهاء الجولة، ثمّ ينشغل بخبر ورد على الشّاشة. يمدّ يده يأخذ الكأس من يد نهى المرتبكة خوف أن يسقط الكأس.

 يشرب بتكاسل على دفعات وكأنّه نسي عطشه. يستمر بالإصغاء إلى الخبر بقلق، ثمّ فجأة، وحين ينتقل المذيع إلى خبر آخر، يرمي الكأس من يده مصحوباً بشتيمة مخجلة.

 لم أفهم حينها فحوى الخبر، ولماذا غضب أبي على هذا النحو، لكنّني شعرت وكأنّ كلّ شيء تكسّر في مكانه، حتى المذيع ربما غادر الاستديو على رؤوس أصابعه.

شعرت بنثرة زجاج ناعمة خدشت عيني جرّاء الحطام الكبير وتناثر الزّجاج على أرض الغرفة، الأمر الذي استدعى أمي على عجل، مُحمّلة يديها برغوة الغسيل حتّى طرف الكمّ، تلك الرّغوة التي أكسبت لون القماش الأحمر إشباعاً  في اللون ولمعاناً على مسّاحة البلل.

 صمتتْ ولم تستفسر عمّا حصل. كان يكفي أن ترى أبي صامتاً والكأس المحطّم يغطّي الأرضيّة لتفهم الموقف كاملاً. اكتفتْ بمسح المكان بعينيها ثمّ استدارتْ متجهّة نحو غسيلها.

نهضتُ مسرعاً ويدي تغطي عيني.

 نهضتُ وكأنّني ارتكبت إثماً مع أنّ الألم كان كبيراً ولاذعاً، بحثت عن (نهى) لأخذ المرآة منها وأتبيّن ماذا حصل لعيني بالضبط .

اعتقدتْ أنني أخدعها لصالح صفقة أبرمت مع سعاد، تعالت أصواتنا حتى وصل أبي، سحب المرآة ورمى بها على الأرض. أطبق الصّمت علينا وتحلّقنا جميعنا فوقها، لو أن ثمّة مصوّر فوتوغرافيّ محترف لاستطاع التقاط انعكاس وجوه العائلة مكسّرة في مرآة صغيرة مدوّرة بحجم راحة الكف.

قد يبدو هذا مدخلاً لرواية لم تكتمل: ماذا حل بالعائلة المكسورة؟ إلى أين وصلت؟ من غادر ومن مات؟ من تزوج؟ من مرض؟ أي من الصبيتين هربت مع حبيبها وتركت الأم لصراخ الأب وتأنيبها؟

 هل سقط الأب عن سقالة العمل في بناء جديد؟ هل أصابته أزمة قلبية بينما كان بين الوجوه والأجساد المتعرّقة المرهقة في زحام حافلة تخص البلاد؟! 

ماذا حل بالعين التي تلقت نثرة من زجاج المرآة؟

ليس من الحكمة الاستمرار بالسرد، أليست الحياة بالأصل أرجوحة ينقطع حبلها فجأة؟!

(رصيف 22)