مالك داغستاني: قصص السجناء في بيت “الرُخّ”

0

هل تعرفون الرُخّ؟ لا أقصد بسؤالي الطائر الأسطوري الذي عرفتم عنه من خلال قصص “السندباد البحري”، في حكايات ألف ليلة وليلة. بل أقصد “مروان” الذي عبر البحر وصولاً إلى أوروبا حيث يقيم اليوم. بالطبع لا. ومن أين لكم أن تعرفوه؟. فهو ليس شخصية مشهورة أو حتى معروفة في الأوساط السورية (سوف يكون كذلك قريباً). باستثناء عشرات أصدقاء يرون فيه الرجل النبيل والنقي والصادق، فإن مروان لم يرمِ بنفسه أبعد من ذلك، ليكون شخصية عامة مشهورة. عادةً، لا ألقي التكهنات جزافاً، وأعتقد أني لا ألقيها على هذا النحو اليوم، بأن مروان سيكون معروفاً، بل ومرجعاً في المجال الذي بدأ العمل عليه.

نادراً ما استهوتني تجارب الأفراد الذين يظهرون ببث على وسائل التواصل، وغالباً اعتقدت أن المحتوى الذي يقدمونه، ما لم يكن رسائل ذات هدف محدد، محصورٌ بغايات ذاتية في أحيان كثيرة، بهدف الحصول على بعض الشهرة، وأحياناً لتحقيق عائد مادي مما توفره تلك الوسائل. ولا أستثني هنا أصحاب التجارب ممن هم في سن النضج، أو ما بعده بكثير، فهم أيضاً يقعون ضحايا الفخ النفسي الذي تنصبه تلك الوسائل، لتجتذب إليه ضحاياها. بالمحصلة، سنكون نحن الجمهور الضحية النهائية، بما نشاهد من محتوى سطحي موغل في الغلظة في كثير من الأحيان، رغم أن ظن أصحابه يذهب إلى أنهم يحاولون إمتاعنا، مع مسحةٍ من خفة ظل، يعتقدون أنهم يمتلكونها.

لمروان محمد الذي ولد في أقصى شمال شرقي سوريا في بلدة “عامودا”، وتربى وعاش كل حياته في دمشق، منها اثنا عشر عاماً في السجن، حكاية حياة بالغة المأساوية، ولكني لست هنا بصدد الحديث عن التراجيديا متكاملة العناصر لحياته تلك، إنما أردت أن أحكي لكم ما الذي يفعله اليوم. إنه يؤرشف حكايا زملاء السجن عبر حوارات مصوّرة قام بها بجهد فردي وسمّاها “قصة سجين”. سيخبرني عن جهله التام تقنياً، وكيف استنجد بأصدقاء من السجن ممن لديهم بعض الخبرة، وأحياناً بأبناء أصدقائه السجناء ليتعلم كيف ينجز عمله الذي أراد.

لا تبدو تجربة مروان متميزة من الناحية الفنية، وأكثر من ذلك هي لا تلتزم بالمعايير الإعلامية المعروفة، ومع ذلك، قريباً سيكون نتاج ما يقوم به، مرجعاً لمن يكتب عن تجربة السجن في سوريا إبان حقبة الأسدين، خصوصاً الأسد الأب. في كل حلقة يجريها مع أحد ضيوفه، وجميع ضيوفه أصدقاء شخصيون له. سنستمع إلى تجربة سجن لفترة طويلة بالمعايير العالمية، وعادية بالمعيار السوري، فترة تتراوح بين عشرة وخمسة عشر عاماً، وأحياناً تزيد قليلاً.

لا يتحدث مروان في حلقات برنامجه كإعلامي، وإنما كصديق مبتسم على الدوام. والأهم أن لديه ملكة الإصغاء التي لا يجيدها الكثير من الإعلاميين، مما يترك للضيف مساحة دافئة للبوح، وهو يشعر بالأمان بين يدي صديق. الأمر الذي لا تتيحه إطلاقاً اللقاءات الإعلامية الاحترافية. لا يمتلك مروان أية شهادات لا في هذا المجال ولا حتى في غيره، سوى ما تعب بنفسه وحصّله من ثقافة ليست متواضعة، رغم سمة التواضع التي يتمتع بها على الصعيد الشخصي.

تلك المقابلات والشهادات فيها من التقاطع ما يجعلها تتحدث عن حياة أشخاص ينتمون لتجربة واحدة، هي تجربة حزب العمل الشيوعي في سوريا خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وبدايات قرننا الحالي، مما يجعلها مرجعاً عن تلك التجربة بشكل عام. ولكن فيها أيضاً من الفرادة الشخصية، ما يجعل كل شهادة على حدة، قصة لها خصوصيتها من خلال تفاصيل دقيقة لحدث السجن ويومياته، إضافة إلى ما قبله وما بعده حتى.

“أعتقد أني كنت بطلاً خلال التحقيق. لم أعترف بأي شيء، فقد سألوني عن أشياء أساساً لا أعرفها”. هذا الاقتباس الطريف من الحلقة الأولى، وكانت مع الطبيب الكاتب والمترجم راتب شعبو الذي قضى ستة عشر عاماً في السجن. بهذه البساطة يروي شعبو حكاية التحقيق دون زيف أو ادّعاء. وعلى هذا النحو يأتي مجمل السرد في المقابلات، أقرب إلى العفوية، بدون استعدادات مسبقة. في حلقة أخرى مع مازن شعراني، وكان قضى عشر سنوات في السجن يقول بالتقاطة مدهشة: “دخلنا السجن نريد تعلم كيف نسقي الفولاذ، وخرجنا من السجن نحاول تعلم كيف نسقي الورد والقمح”.

شاهدت جميع الحلقات التي أنتجت حتى الآن، وكانت، إضافة لمن ذكرتهم، مع الكاتب بسام يوسف والمترجم برهان ناصيف والكاتب والقاص جمال سعيد والمترجم المعروف الحارث النبهان. هل اعتقدتم أن مروان يختار ضيوفه من الكتّاب والشخصيات العامة المعروفة؟ لا، الأمر ليس كذلك إطلاقاً. هنا ربما يجب التذكير، أن التصحير السياسي والفكري الذي مارسه الأسد خلال ثلاثة عقود، كان واحداً من تجلياته أن الكثير من عشرات آلاف السجناء السياسيين، من كافة الاتجاهات، هم ممن كان لهم أن يغنوا المجتمع السوري. من هنا تحديداً، يأتي غنى هذه الشخصيات على صعيد منجزهم المعرفي والثقافي.

يقول مروان “أتمنى للمشروع أن يتوسع، ويصل للكثيرين، ليطلعوا على تجربة جيل من المناضلين القدامى في تاريخ سوريا السياسي”. وسوف أضيف من خلال ملاحظتي الشخصية، أن هذه الشهادات لا تتضمن فقط ما هو سياسي، بل تذهب أبعد من ذلك، لتتضمن شذرات ليست قليلة، من التاريخ الاجتماعي السوري، والأهم فيها، هو تحويل تلك المرويات الشفهية الحقيقية والصادقة إلى أرشيف مصوَّر وموثَّق. هذه الوثائق ستتحول يوماً، لن يكون بعيداً، إلى واحدة من المراجع التي لا غنى عنها، لمن سيكتب عن تاريخ السجن السوري وتاريخ سوريا عموماً.

يقول لي “الرخّ” وهو الاسم الحركي لمروان خلال عمله السياسي، وما زال الكثير من أصدقائه ينادونه به: “فكرة المشروع بدأت قبل أكثر من عامين، وتعثرت بسبب جهلي بالتقنيات والتسجيل وإنشاء قناة على يوتيوب، لكن بمساعدة من بعض الأصدقاء استطعت الانطلاق قبل فترة. الآن أنجز العمل وحدي، وحتى التكاليف المادية البسيطة أدفعها بنفسي. لا أسعى لشيء ذاتيّ على الإطلاق، سوى أنني أشعر بالسعادة أنني قد أترك ورائي شيئاً مفيداً، قبل أن أغادر الحياة”.

ضيوف مروان لا يراعون كثيراً التقاليد الإعلامية للصورة المرئية. يدخنون أمام الكاميرا ويشربون الشاي. هم يشبهون مستضيفهم بتقشف الصورة. يروون شهاداتهم وكأنه لا كاميرا تصور، ولا برنامج سيراه الآلاف. يشبهون في حالتهم تلك، الأصدقاء في أية جلسة حميمية يتخللها البوح الشفاف. يكتب الرخّ: “أنا أحد الناس البسطاء، ممن تسبق انفعالاتهم أقوالهم أحياناً. لا أحسب كثيراً مثل بعض الأصدقاء، ولا أتحوَّط مثلهم بصفتهم شخصيات عامة عليهم أن يكونوا حصيفين في أقوالهم”. في برنامجه يبدو أنه استطاع أن يجرجر أصدقاءه إلى ساحته تلك.

ليس لديَّ تصور نهائي عما سحرني فيما يفعله الرخ. ولكن أحد التفسيرات الأهم التي وجدتها، أنني شخصياً لا أميل كثيراً للحدائق المُخططة والمنسّقة والمدروسة، بل تستهويني البساتين الحرشيَّة والوعرة. تلك التي تفاجئك بما لا تتوقع. بسيطة وغنية وفيها تنويعات لا تخطر على البال، والمهم أن ليس خلفها مهندسٌ يجعلك تتوقع ما سترى، بطريقة كلاسيكية تراعي القواعد. برنامج “قصة سجين” على غناه، هو على هذا النحو، بالغ البساطة والانسيابية، على ما فيه من غنى المحتوى. لا ينبئك بما ستكون الجملة التالية. سهرة بين اثنين، أحدهما يجيد البَوح، وآخر أخذ على نفسه أن يجيد الإصغاء.

*تلفزيون سوريا