في العديد من الشهادات المصورة، يضطر الرجال أحياناً لتمويه وجوههم وحتى أصواتهم كي لا يعرفهم المتلقون. غالباً يحدث هذا الأمر لخوفهم من جهة محددة أن تكشف هويتهم وفي حالات نادرة لخوفهم من المجتمع. بينما تضطر النساء لفعل ذات الشيء، لخوفهنّ في حالات نادرة من جهة بعينها، وفي أغلب الحالات خوفاً من المجتمع برمّته، خصوصاً حين يروين ما تعرضن له من ظلم أو انتهاك. إنه العار من نشر الحقيقة.
في عام نشره الأول باللغة الألمانية، هاجم الألمان كتاب “امرأة في برلين.. ثمانية أسابيع في مدينة محتلة”، وانقسم المجتمع الألماني الخارج من هزيمة الحرب العالمية الثانية للتو، إما منكراً ومتجاهلاً للكتاب وما جاء فيه، أو مهاجماً لما ترويه الكاتبة باعتباره يلطخ شرف ألمانيا، وعلى وجه الخصوص النساء الألمانيات بالعار. كيف لا؟ والكتاب يروي بكثير من التفصيل، مجمل الانتهاكات التي تعرضت لها النساء في مدينة برلين، على يد الجنود السوفييت إثر سقوط “الرايخ الثالث”. يقدّر بعض المؤرّخين بأن عدد الألمانيات اللواتي تعرضن للاغتصاب في تلك المرحلة فاق مليوني امرأة، تتراوح أعمارهن بين ثماني سنوات وثمانين عاماً.
صدرت النسخة الأولى للكتاب باللغة الإنكليزية في نيويورك عام 1954 أي بعد تسع سنوات من تدوين الكاتبة ليومياتها، ومع ذلك تم نسبة الكتاب إلى كاتبة مجهولة. بعدها سيترجم الكتاب إلى عدد من اللغات، لكن صاحبة الكتاب لن توافق على نشره باللغة الألمانية حتى عام 1959. بعد أن تم استقبال كتابها بشكل سلبي في ألمانيا، سترفض المؤلفة إصدار أية طبعة جديدة خلال حياتها. فقد صفعها المجتمع الألماني بما يكفي عند صدور الطبعة الأولى، واتهمها بانعدام الحساسية. عام 2001 توفيت الكاتبة في مدينة بازل السويسرية حيث كانت تزوجت وانتقلت إلى هناك. وبعد وفاتها بعامين، ستعاد طباعة الكتاب باللغة الإنكليزية والألمانية أيضاً مع إغفال اسم الكاتبة. هذه المرّة سيصبح كتاب امرأة في برلين، لفترة طويلة، من أكثر الكتب مبيعاً في ألمانيا، وقوبل بإشادة واسعة من النقّاد. عندها سيكشف أحد المحررين الأدبيين أن الكاتبة هي الصحفية الألمانية “مارتا هيلرس”.
يُرجِع العديد من النقاد السبب في رفض المجتمع الألماني عام 1959 للكتاب، إلى نبرة الصوت الحيادية التي روت بها الكاتبة تجربتها كامرأة مغتصبة، وما جرى لها ولغيرها من النساء. وإلى اللهجة التبريرية والساخرة أحياناً، التي استخدمتها وهي تصف الرضوخ للظرف القاسي، وخصوصاً حين تنتقل من وصف الوقائع إلى إبداء الرأي “صعوباتي الشخصية ذابت في البؤس العام. أصبحت غرائزي هي الأكثر حيوية. تتجسس وتُخبرني عن كل الجهات التي يُحتمل أن يكون فيها طعام. إنها تُجبرني للبقاء على قيد الحياة”. وربما، ما أزعج القرّاء الألمان أكثر هو روايتها لمواقف المجتمع، وبشكل خاص مواقف الرجال، من اغتصاب النساء حتى الزوجات، حيث كان المقاوم للغزاة يبدو مجنوناً يفتقد الحكمة. تصف هيلرس حالة شاذة لرجل عاين اعتداء جنود الجيش الأحمر على زوجته “هذه هي المرة الأولى التي أسمعُ فيها أن أحد رجالنا قد فقد السيطرة على نفسه. الغالبية عقلاء للغاية، يتخذون موقفهم بحكمة، يحاولون الفرار بجلودهم، ونساؤهم تدعمهم بقوة في تحقيق هذا الأمر. ليس هناك رجلٌ يفقد هيبته، لمجرد أنه ترك امرأته أو جارته للمنتصرين. بل العكس تماماً: الناس يلومونه عندما يُزعج السادة بمقاومتهم”.
نعم أكثر من مئة ألف برلينية اغتصبت في تلك الشهور القليلة حسب مقدمة الطبعة الألمانية الجديدة، وكان هذا العدد ليكون أكبر لولا الحيل التي تم اللجوء إليها لإخفاء الفتيات العذارى اللواتي أصبحن نادرات “الأوقات التي يُطارد فيها الروس النساء أصبحت الآن معروفة. الفتيات محبوسات، مختبئات في مخازن المؤن تحت السقوف، ومرصوصات في شقق آمنة. قيل إن طبيبة أنشأت مستشفى في ملجأ لمكافحة الأمراض المعدية. لوحات كبيرة، تُشير باللغة الألمانية والروسية إلى أن المستشفى أنشئ خصيصاً، من أجل مكافحة مرض التيفوئيد. والمرضى ليسوا سوى فتيات صغيرات من المنازل المجاورة، ساعدتهن الطبيبة مع خدعة التيفوئيد على احتفاظهن بعذريتهن”. برلين في الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية ربيع عام 1945 لم تكن مكاناً آمناً للمرأة. كانت أجساد النساء امتداداً لساحة المعركة وتحولّنَ غنائم حرب، حتى إن الحدود الفاصلة بين الدعارة من أجل العيش والاغتصاب لم تعد واضحة. “النوم مقابل الطعام” كانت الطريقة التي أشارت بها الكاتبة إلى علاقتها مع ضابط روسي سيحميها من بقية الجنود. “ببطء ولكن بثبات بدأنا ننظر إلى كل حالات الاغتصاب بروح الدعابة، إنها دعابة المشنقة”. هكذا تمضي الكاتبة في وصف كيف تعايش سكان المدينة مع انتهاكات المحتل مدفوعين بغريزة البقاء وحدها.
“محنة الألمان مذاقها بنكهة الاشمئزاز” تقول المؤلفة خلال رثائها لبلدها المهزوم. صادمٌ كل ما ترويه هيلرس، ليس لجهة الحوادث على فظاعتها، لكن لجهة ما بدا أنه حيادية في قصِّ وقائع الانتهاكات التي كانت تجري حولها. الانتهاكاتُ التي تعرضت لها بنفسها وعاشتها، ومع ذلك لم تقدم نفسَها كضحية. الهزيمةُ العامةُ والشخصيةُ، دفعت الكاتبةَ إلى ما يمكن وصفُه بعمليةِ تطبيعٍ نفسيٍّ مع الواقع، واستسلامٍ داخلي بُني على قوة الاعترافِ الضمني القاسي، بأن الألمانَ هم من جلبوا هذا لأنفسهم بقيادة هتلر لهم إلى تلك الكارثة، حسْب المؤلفة وحسب شهاداتٍ وردت في هذا الكتاب الشجاع.
في مجتمع ما بعد الحرب، كان هناك نقص في التفاهم بين الرجال والنساء. ومن الواضح أن القراء الألمان لم يكونوا، في تلك الفترة، مستعدون لمواجهة بعض الحقائق المشينة. لم يكن مناسباً تصويرهم وكأنهم متفرجون عاجزون أمام الروس المنتصرين. بينما كان موقف المؤلفة خالٍ من الشفقة على الذات، وسددت وجهات النظر بقسوة على سلوك مواطنيها، وهو ما سيخدش حالة الرضا عن الذات، ويكسر التواطؤ العام لعدم رواية المسكوت عنه، بينما مازال الجرح ملتهباً.
يتصادف أنني أكتب هذه المادة في اليوم العالمي للمرأة، وللأسف فإن العنف ضد المرأة وإخضاعها لمختلف أنواع الانتهاك ما زال حتى اليوم، حالة سائدة بل ومقبولة، في عديد المجتمعات، والصمت عن تلك الانتهاكات غالباً هو السائد. ولا عجبَ، ففي المجتمع الألماني الذي يمتلك الفرد فيه هوامش واسعة نسبياً للتعبير عن نفسه رفضت مارتا هيلرس أن تفصح عن نفسها وماتت قبل ذلك، ولنا أن نقدّر أنه في مجتمعات أقل تطوراً، مجتمعات لديها القابلية لرجم المختلف، والخارج عن السائد، فإن النساء عند تعرّضهن لمثل تلك الانتهاكات، سوف يُصبن بالخرس التام. اليوم وبعد مرور 75 عاماً من شعور الألمان بالعار الوطني من كتاب “امرأة في برلين”، لن يكون من الشاذ وقوف شابّة ألمانية تتحدث بكثير من الفخر عن أولئك الجدّات اللواتي أعدن بناء ألمانيا، رغم وصمهن بالعار، حين كانت الجراح الوطنية ما تزال ساخنة.
*تلفزيون سوريا