مالك داغستاني: “آنا أخماتوفا”.. إعدام الأدب بقرار حزبي (1)

0

“ذات يوم تعرف عليّ شخص ما في الحشد. وكانت تقف ورائي امرأة بشفاه زرقاء من البرد، لم تكن تعرفني من قبل. حين خرجتْ من سهومها، والسُبات هو المشترك بيننا جميعاً، سألتني بصوت هامس (الجميع يهمس هناك): “هل يمكنك يوماً، وصف هذا؟”، فأجبت: أستطيع. عندها، مرَّ شيء يشبه الابتسامة، فوق ما كان يوماً وجهاً”.

هذا ما كتبته “آنا أخماتوفا” عن وقوفها في” الطابور” أمام باب السجن، وهي تحمل طرداً فيه بعض الحاجيات لابنها السجين في أربعينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي. بعدها بعشرات السنين سوف يبتسم الملايين من الروس، ذات الابتسامة المريرة للمرأة ذات الشفاه الزرق، وهم يقرؤون أشعار أخماتوفا الخالدة، وقد استطاعت، كما وعدت تلك المرأة في طابور السجن، أن تروي ببراعة فائقة، عن أيام الرعب الستاليني في بلادها. سيكتب الفيلسوف “أشعيا برلين” بعد وفاتها: “إن انتشار ذكراها في الاتحاد السوفييتي اليوم، كشاعرة وكإنسانة، ليس له مثيل، على حد ما أعلم. إن أسطورة حياتها ومقاومتها السلبية التي لا تلين، لما اعتبرت أنه لا يليق ببلدها وبها، هذه المقاومة حولتها إلى شخصية أسطورية، ليس فقط في الأدب الروسي، ولكن في التاريخ الروسي ككل”.

في عام 1946، وبناء على أوامر شخصية من ستالين، بدأت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، حملةً رسمية ضد ما وصفته بالأعمال الذاتية البرجوازية لأخماتوفا. جاء ذلك إثر زيارة المفكر الروسي/البريطاني “أشعيا برلين” لها في منزلها عام 1945، حين كان يعمل في السفارة البريطانية في موسكو. تم ذلك بمرسوم صادر عن المكتب التنظيمي للجنة المركزية للحزب الشيوعي. وسوف يصف “أندريه جدانوف” وزير الدعاية والثقافة، والوجه الإيديولوجي (الثقافي) الأقبح لستالين، أخماتوفا بأنها “نصف عاهرة ونصف راهبة. عملها نتاج الإثارة الجنسية والتصوف واللامبالاة السياسية”. وسيرِد في قرار المنع: “أخماتوفا ممثلة نموذجية للشعر الفارغ غير المبدئي، والغريب عن شعبنا. قصائدها مشبعة بروح التشاؤم والانحلال، تعكس اهتمامات أنثوية تافهة، وتعبّر عن أذواق شعر الصالونات القديم، المتوقف عند الجماليات البرجوازية. إن “الفن للفن” الذي لا يريد مواكبة شعبه، يضر بتربية شبابنا، ولا يمكن التسامح معه في الأدب السوفييتي”. سوف تمنع قصائدها من النشر والتداول، وستُطرد من اتحاد الكتاب السوفييت، التي كانت قد ضُمَّت إليه مع بداية الحرب العالمية الثانية. للطرافة المأساوية، وبعد 42 عاماً من ذاك التاريخ، وبعد وفاتها باثنين وعشرين عاماً، سيتم في اجتماع المكتب السياسي للحزب في أكتوبر 1988، إلغاء هذا القرار باعتباره كان خاطئاً. قبل ذلك بعقود، وفي العام 1925 تم حظر أعمال أخماتوفا بشكل غير رسمي، وبموجب قرار حزبي أيضاً.

عام 1905، نشر فلاديمير لينين مقالاً في صحيفة “الحياة الجديدة” بعنوان “التنظيم الحزبي، وأدب الحزب”، شدّد فيها على ضرورة ارتباط الأدب بالأجزاء الأخرى من العمل الحزبي الاشتراکي. ووجوب انخراط الأدباء في المنظمات الحزبية. وأنه على دور النشر وحتى مكتبات المطالعة، ومختلف مؤسسات الاتجار بالكتب، أن تصبح حزبية. وسيخلص للقول إن على الأدب أن يكون حزبياً. تلك المقالة الكارثية ستكون الملهم الأساس لفترة ستالين وبخاصة الفترة “الجدانوفية” منها. مع ذلك، في تلك الفترة المستمرة من 1925 وحتى موت ستالين عام 1953، ستستمر أعمال أخماتوفا بالانتشار رغم خنقها رسمياً.

تصف المؤرخة “ليديا تشوكوفسكايا”، كيف استخدم الكتاب، الذين عملوا على إبقاء الرسائل الشعرية المعارضة حيّة، استراتيجيات مختلفة. حيث تقوم دائرة صغيرة موثوق بها من الأدباء، بحفظ أعمال بعضهم البعض، وتعميمها قدر استطاعتهم لكن بالوسائل الشفوية فقط. وتروي كيف كانت أخماتوفا تكتب قصيدتها للزائر على قصاصة من الورق ليقرأها في لحظة، ثم تحرق الورقة في الموقد على الفور. نعم. تم نشر القصائد بوسيلة النشر تلك، مع ما تنطوي عليه من احتمال أن المئات من القصائد التي تمت أرشفتها على هذا النحو قد ضاعت.

تم إعدام الشاعر “نيكولاي جوميلوف” زوج أخماتوفا الأول، ووالد ابنها الوحيد عام 1921 رمياً بالرصاص بتهمة التآمر، وتوفي زوجها الثاني الناقد وعالم الفنون “نيكولاي بونين” بقصور في القلب، في معسكرات سيبيريا للاعتقال عام 1953، وقضى ابنها الباحث التاريخي “ليف جوميلوف” أكثر من عشر سنوات في السجن، كانت خلالها تحاول جهدها تأمين إطلاق سراحه. بعد تجاوزها الستين من العمر، اضطرت الأم من أجل ابنها كتابة شعر دعائي للنظام في قصيدة “مديح السلام”، وفي حالة من اليأس، أرسلت عام 1950 رسالة استرحام إلى ستالين لإطلاق سراح ولدها، لكن “ليف” بقي في معسكرات الاعتقال حتى عام 1956 بعد موت ستالين بثلاث سنوات، والأدهى أنه في نفس سنة إرسالها للاسترحام، سيوصي “فيكتور أباكوموف” وزير أمن الدولة، الذي أُعدم بعد سنوات قليلة، في مذكرة أرسلها إلى ستالين “بضرورة اعتقال الشاعرة أخماتوفا”، لكن ذلك لم يحدث. كانت أخماتوفا على حوافّ الاعتقال دوماً، إلا أنها نجت بأعجوبة، من مصير لقيه الآلاف من المثقفين والأدباء الروس الذين لم يفروا من البلاد خلال سنوات الموت تلك.

*تلفزيون سوريا