ماجد كيالي: وداعاً ميشيل كيلو… الإنسان النبيل الجريء الحرّ…

0

كان يوم رحيل ميشيل كيلو (أبو أيهم)، في “منفاه” الفرنسي (الإثنين 19/4/2021)، بمثابة يوم من وجع، ومن حزن، ومن قهر، للسوريين، في كل أماكن وجودهم، لشعب أضحت حياته كلها حكاية من وجع وحزن، وقهر مع كل الأهوال التي أضحى يعايشها منذ عشرة أعوام. 

قضى ميشيل كيلو بعد صراع مع “كورونا”، امتد لأكثر من ستة أسابيع في المستشفى، وبرحيله فقد السوريون واحداً من نبلائهم، وواحداً من أهم الذين كسروا الخوف في قلوبهم، وواحداً من أهم الذين زرعوا في روحهم فكرة التمرد على نظام الأسد، وواحداً من أهم الذين رفعوا ألوية الحرية والمواطنة والديموقراطية، لدرجة يمكن القول معها إن سيرة هذا الرجل ارتبطت بسيرة شعبه، أكثر من أي شيء آخر، إذ لا يمكن العثور على همّ خاص، أو شخصي له في كل سيرته، لكأنه جُبِل من السياسة، أو لكأن حياته جُبِلت بحكاية شعبه ومصيره.

منذ بدأ وعيي السياسي، في مطلع السبعينات، تعّرفت إلى اسم ميشيل، كشخصية سياسية معارضة للنظام، في بلد لا يسمح بأي معارضة، وظللت أسمع به، كشخص يتحدّى السلطة، ويكسر هيبتها، عرفته شخصاً شجاعاً، يحارب ويصارع برأيه وفكره وثقافته، يعرّف ذاته بدلالة شعبه، وبدلالة توقه للحرية والتغيير، فيلاحق ويسجن ويفرج عنه ثم يسجن. بعدها تعرفت إليه كصديق، فوجدته شخصاً نبيلاً، ووفياً، وغاية في التواضع، والانفتاح، مع اختزانه تجربة كبيرة وثقافة عالية ومتميزة، وفوق كل ذلك فقد كان على قدر عال من التوادد مع الآخرين، والتخفيف عنهم، وبث الأمل في قلوبهم.

ولد ميشيل كيلو في مدينة اللاذقية، شمال غربي سوريا على الساحل، عام 1940، ودرس الصحافة في مصر وألمانيا، ثم عمل في منتصف الستينات في وزارة الثقافة في سوريا (قسم الترجمة) وقدّم كتباً في الفلسفة والأدب والسياسة. 

وفي مختلف المراحل، ومنذ شبابه، خاض ميشيل تجربة العمل السياسي من دون أن ينتسب إلى أي حزب سياسي (باستثناء فترة قصيرة في الحزب الشيوعي السوري)، لا سيما أن معظم الأحزاب السياسية كانت مدجنة في إطار ما يعرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية”، في واقع يهيمن فيه “حزب البعث”، وبالأصح يحتكر، كحزب للسلطة أو للرئيس، السياسة والحياة السياسية، في بلد لا يعرف حقوق المواطنة، ولا حرية الرأي والتعبير. 

وفي الإجمال، كان ميشيل وطنياً سورياً بامتياز، كما كان عروبياً، بالمعنى الثقافي، وليس بالمعنى القومجي أو العصبوي، وبالطبع كان يسارياً، أي مع حقوق الفقراء والشغيلة، بانحيازه لهم ضد الظلم والفساد والاستبداد. وطبعا فهو كان يسارياً من النمط النقدي، إذ كان قريباً من الياس مرقص، مثلاً، ويوافقه في دحض الجمود الأيديولوجي، ونقد التبعية للمركز السوفياتي.   

ولعل الدور الأبرز الذي اضطلع به ميشيل كان دوره مع آخرين في تحدي نظام الأسد، وتعريته، في ذروة تسلطه، وظهر ذلك جلياً في مداخلة له، مشهورة، في “اتحاد الكتاب العرب” (1979)، حين كان عمره 39 سنة. بعد ذلك كان من أبرز نشطاء ما سمي “ربيع دمشق”، والمنتديات السياسية، و”لجان إحياء المجتمع المدني”، التي برزت بعد رحيل حافظ الأسد، والتي سرعان ما تم إجهاضها. عام 2005، وقّع ميشيل مع معارضين آخرين وثيقة سياسية سميت “إعلان دمشق”، ثم وقّع “إعلان بيروت- دمشق” (2006)، وقع عليها في حينه عشرات المثقفين السوريين واللبنانيين، وهي الوثائق التي أحدثت صدى سياسياً واسعاً في سوريا وخارجها. وبالنتيجة فقد اعتقل ميشيل في عهد الأسد الابن (2006) مع آخرين، وحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، وكان سبق له أن اعتقل، أيضاً، في مطلع الثمانينات في عهد الأسد الأب.

في سيرته إبان الثورة السورية، لم يكن ميشيل كيلو يوماً في أي موقع مسؤول في المعارضة، من الناحية العملية، وربما أن القوى الخارجية التي تحكمت بالتشكيلات السورية كانت تفضل تهميش تلك الشخصية، وغيرها ممن هو مثله من شخصيات المعارضة التاريخية، وجلب آخرين ليس لهم تاريخ، ولا تجربة، من الذين يمكن التحكم أو التلاعب بهم. هكذا فإن ميشيل لم يدخل “المجلس الوطني السوري”، الذي تأسس أواخر 2011، ولكنه عام 2013 دخل “الائتلاف الوطني السوري”، بعد عام على تأسيسه، ثم غادره أواخر 2016، بعد خيبة أمل كبيرة. لكن خروج ميشيل لم يأت في فراغ، إذ أصدر مع مجموعة من رفاقه وثيقة نقدية (أواخر 2016) لمسارات الثورة السورية، وارتهاناتها الخارجية، ولطرائق عملها، مؤكداً ضرورة القطيعة مع الرهانات الخاطئة والمضرة لتلك الثورة، وضمنها الارتهان للتدخلات الخارجية، والعسكرة، بمعنى تشكل قوى إقليمية لفصائل عسكرية، والتطييف، الذي يعني التغطي بالإسلام، وتحويل الائتلاف إلى كيان مغلق لمجموعة من الأشخاص.

بعد خروجه من الائتلاف لم يترك ميشيل العمل العام، إذ ظلت روحه مشغولة بالثورة، وكان بمثابة “دينامو” لجماعات كثيرة كانت تتواصل معه، وظل في تلك الفترة يواصل كتابات الرأي، التي يضمنها أفكاره، وقبل أسابيع صدر له كتاب من ثلاثة أجزاء عنوانه: “من الأمة الى الطائفة… سورية في ظل حكم البعث”، وكتاب آخر عنوانه: “الصراع على سوريا الثورة السورية وبيئتها الدولية”، وكان قبل عام نشر رواية “دير الجسور”.

عرف ميشيل بصدقه، وطيبته، وبسرعة بديهته، وكواحد من أفضل المتحدثين في السياسة السورية، وكانت قصته الشهيرة مع ذلك الطفل الذي ولد في السجن، مع أمه المعتقلة (كرهينة بسبب زوجها الذي هرب من الاعتقال) جد موجعة وحزينة، كأنها قصة سوريا كلها، إذ أخذه أحد السجانين ليحكي قصة لهذا الطفل (بات عمره وقتها أربعة أعوام)، وعندما بدأ يحكي له عن العصفور سأله الطفل: ايش يعني عصفور؟ وعندما قال له عصفور على الشجرة سأله ماذا تعني شجرة؟ خاب أمل ميشيل انه لم يستطع سرد قصة على الطفل، وتألم وبكى، وأبكى كل من استمع إليه، أنى تحدث عن تلك القصة. 

في رحيل هذا الرجل خسرت السياسة السورية واحداً من ألمع سياسييها، وصانعيها، هكذا نعاه سوريون كثر، فكتبت الإعلامية سميرة المسالمة: “رحل صوت سوري حر مزق جدار الخوف منذ زمن بعيد وبقي وفياً لحريته وسوريته وحلمه… وداعاً ميشيل كيلو وأعان الله عائلتك وأصدقاءك وكل محبيك على احتمال هذا الفراق المؤلم في غياهب الغربة الحارقة”. وكتب الفنان عبد الحكيم قطيفان: “رحل كبيرنا وجميلنا وبهي الروح… رحل ميشيل كيلو رجل الحرية والوطنية والكرامة والطيبة والتضحية ومناهضة الطغيان… رحل نبيل الروح والمقاصد… في حضرة غيابك المؤلم والفاجع والمرير… يحضر الدمع والصمت وتتنكس كل الرايات والأعلام والهامات ويبقى فقط صمت الفجيعة ودهشتها… أبكيك لأن غيابك لا يعوض… أبو أيهم الجليل وداعاً”. أما سوزان لبابيدي فكتبت: “في يوم ما قلت لوالدي أتمنى أن يكون هذا الرجل رئيساً لسورياً… وداعاً ميشيل كيلو”. ورثاه محمد السلوم بقوله: “عندما تمضي نصف قرن من عمرك وأنت تقارع الاستبداد والدكتاتورية… ثم تموت في الغربة من دون أن تقرّ عيناً برؤية وطنك حراً… فاعلم أن من يبكيك اليوم إنما يبكي نفسه… وطنه… غربته… بقايا الحلم!”.

هذا رجل سيبقى في الذاكرة، كإنسان، وكسياسي، وكمثقف… فهذا شخص لا يمكن نسيانه في تاريخ سوريا، وكواحد من صانعي هذا التاريخ… وداعاً ميشيل… وداعاً… ستبقى في قلوب السوريين والفلسطينيين واللبنانيين وذاكرتهم.

(درج)