ماجد ع محمد: دوائي الذي أخشى تناوله

0

كمريضٍ اقتنع أخيرًا بأنه على مضضٍ غادر محفل الأصحاء وصار من أقران السُّقماء، وأن مجمع العِلل خطفه على غفلةٍ من عالم العافية، متأملًا بعد الإقرار بالذي آل إليه حاله مغادرة المكان التعيس الذي حُشر فيه مع من لا ينوي الانسجام معهم؛ وغدا التفكير بالعودة في أقرب وقتٍ إلى ديار السعدِ هو جُل ما يحوم في فضائه.

وكتائهٍ أخذته الأمواج العاتية وصيّرته موجةً هشة في لجج الحياة وهو بانتظار من يأخذ بيده نحو الشاطئ، متلهفًا لاستماع أخبارٍ يُشم منها رائحة السرور عن اكتشاف عقاقير جديدة تحرِّر المدنف من علته، وفي انتظار أنباء مبهجة عن سكون العاصفة وعودة كل ضالٍ إلى أهله؛ وبين إيجاد الدواء لاعتلاله والخوف من فقدان أسباب الرجاء الذي يمنعه من الدنوِ من الوصفات الطبية، هكذا كان المُعتلُ يمضي نهاره على أرجوحةٍ تأبى الركون.

هو بالضبط ما كان عليه حال أحد المرضى مع النصائح الرومانسية لـ جريجوري جبه. ي. جوديك؛ حيث كان قبلها قد أقر مرارًا في حضرة خلانه بأنه يعاني من الفقر العاطفي، وأن الخمود ضرب منذ شهورٍ مدار الفؤاد وطال أثره حتى مضارب الجماح لديه، وبعد جملةٍ من المداولات مع المعارف ونصائحهم المتكررة عن كيفية استعادة هواجس العنفوان للجسد وصاحبه، من خلال الامتثال لإرشادات الحكماء ومعالجي مشاكلَ القلوبِ، أدرك بعد سيلٍ هائل من النصائح بأنه إن غرف من المعين العاطفي لـ: جريجوري قد يتعافى مما يشكو منه، ولكن حاله كان كحال مريضٍ يود الشفاء من كل قلبه، ويتمنى ليل نهار بأن يتخلص من دائه، كمن غدت مواضيع الصحة والعافية واسترداد الحيوية هي كل ما ينشغل بها، ليس الآن فقط إنما ومنذ أن حلت شهور الجفاء في دياره، ولكنه مع ذلك وجد نفسه مترددًا في الاقتراب من مبضع جريجوري الرومانسي، بل ومن معاودة لحظات التوقف  كل مدة لفترات لا بأس بها وهو يمر جيئةً وذهابًا من أمام سفره الرومانسي، غدا وضعه مع ذلك المجلد كحال متسوقٍ يتفرج يوميًا على الألبسة المعلقة في واجهات المحال التجارية وهو يرغب بشراء ما يلزم، إلاَّ أن جيوبه المثقوبة منذ أوَّل الشهر لم تكن تسمح له بشراء ما أعجبه هناك من القمصان والسراويل، أو كمن يعبر كل يوم من نفس الشارع الذي في وسطه صالة سينما وفي كل مرورٍ له يقف أمام صور الأفلام المعلقة في الصالة، ولكنه يتابع طريقه ولا يدخل مع أنه كان يود الدخول في الصباح إلاَّ أن العمل الذي ينتظره كان يمنعه من ذلك، وعند المساء في طريق العودة كذلك الأمر ودّ مرارًا الدخول أكثر من مرةٍ لبهوِ العروضِ، إلاّ أن تنفيذ طلبات زوجته التي ترقص على جمر الترقب كانت تحول دون تحقيق رغبة الدخول ومشاهدة الفيلم الذي أعجبه.

هكذا كان يرى نفسه أمام القرطاس كل مرةٍ، تتملكه الحيرة وتؤرجحه كالبندول بين رغبة الاقتراب وزُهد الاِبتعاد، ولكنه عقب سماعه صوتًا مجهول المصدرِ الذي راح يعاتبه على الإحجام كلما اقترب من ذلك المُصنَّف، خمّن بأن كتابَ المؤلفِ بات غاضبًا من إهماله من قِبل الشخص الذي ابتاعه من قبلُ بحماس، ثم عامله بفتورٍ مبالغ فيه، مستغربًا من تصرفه ذاك، لذا راح يستفسر منه قائلًا:

لماذا تترد في الاقتراب مني بعد أن جرجرتني إلى حجرتك؟ وتعي جيدًا بأني لم أكن أنا من فرض نفسه عليكَ، إنما أنتَ من اخترتني مع دزينةٍ أخرى بعناية فائقة من بين مئات المجلدات، ومنذ أن جئت بي وضعتني في مكانٍ تطل عليه كل حين، ومع ذلك تدعني وشأني وكأن ثمة خصامٌ بيننا.

ألديك رغبة دفينة في إغاظتي ولا أعلم؟ أم تود إفهامي بأن وجودي وعدمه سيان في عالمك؟

عمومًا لم تكن لتخطر على بالي هذه الأسئلة لو لم أراك منذ نصف عامٍ محتضنًا كل يوم كتابًا ما ولا تتركه إلاّ بعد أن تنهي آخر جملةٍ منه، بينما أنا الذي أحوي وأحتضن أسباب الشفاء فحتى السلام تتباخل به عليّ.

فيقول له المقتني:

أنا متأسف على التقصير معك، ولكن صدقني وقتي في هذه المتروبولات أضيقُ من مضيق البوسفور أمام باخرتك الضخمة، فأنت كتابك ما يقارب 500 صفحة، وأنا حقيقةً لا أهمله إنما أؤجله إلى حين القبض على ناصية وقتٍ كافٍ حتى أستمتع بما تقطّر من قلمك الريان؟

فيرد الكِتابُ:

المعذرة يا صديقي فأنت بهذا لست صادقًا معي والدليل على ما أقول هو أنك خلال الأشهر الماضية إلى جانب الكتب ذات الأحجام الصغيرة قد أنهيتَ الغرف من كتبٍ تزيد صفحاتها عما أنا عليه، ومنها على سبيل الذكر: أدب الكاتب لابن قتيبة وأدب الدنيا والدين للماوردي وكشكول العاملي والمستطرف الجديد للعلوي.

ويضيف فهل تتوقع بأن تكون الجواهر التي أودعتها بيدي الخبيرة في ذلك السّفر أقل قيمةً من التي بحثت عنها في أعماق محيطات غيري؟ وهل تشك بنصائحي حتى تحاول التهرب مني، وتستمر بتجاهلي ومجافاتي؟

فيرد صاحبنا على كتابه المستنفِر:

أبدًا يا صاحب السمو فلا يحق لي الشك بما دوِّن من السطور في مُصحفك، وأنا كما تعلم لم أطالع إلّا بضع صفحاتٍ من مصنفكَ، وأذكر مما قرأته حينها على وجه السرعة هذه الفقرة الجميلة والتي جاء فيها: “الطريقه اللائقة لتقبيل يد أي امرأة هي أن تنخفض بشفتيك على يدها، ولا ترفع يدها إلى شفتيك”، ولأنني وقفتُ مليًا أمام المقتطف وأخذ مني التفكير به بعض الوقتِ، فقلتُ في سري حينها إن هذه الصحيفة بحاجة لزمنٍ أرحبُ من زمني الحالي، لذا أجّلتُ الغرف من معينك ولم أهمله أو أتجاهله.

فيقول الكِتابُ إذًا، طالما تقدّر ما أكنه، ما أحتويه، ما أخزّنه، ما يؤكد ثرائي، ما أتلألأ به، فهل هناك ما يمنعك من الدخول لعالمنا؟ طالما أنك قد عثرت بنفسك عند الغوص على أحد درره؟

فيرد القارئ المُدنف:

خوفي الكبير والأخير يا صديقي الكِتاب هو أن أغوص وأجول وأسبح في بحرك في الطول والعرض ولا أعثر على اللؤلؤة التي أبحث عنها، لأني وقتها إن لم أجد العقار المناسب لحالتي في أعماقك سأفقد عندها أمل الفلاح، لذا أتريث في الدنوِ منك، وأخشى الاقتراب من صيدليتك الغنية، لا خوفًا من الانخداع، ولا خشيةً من تبعات العقار، ولا كرهًا بالشفاء، إنما خوفًا من عودتي من محيطك خالي الوفاض، وبألا أجد في زياراتي المتلاحقة إليكَ دوائي في متجركْ، لأني وقتها سأفقد مُراد العلاج للأبد، وهذا ما يدفعني للاحتفاظ بك ككنزٍ ثمينٍ لدي، حيث يكفي أن وجود عقارك الذي لم أتناوله بالقرب مني، أمام نواظري وفي متناول يديَ يمدني كل يومٍ بطاقة أمل المعافاة.

*الترا صوت