لينة عطفة: امرؤ القيس في برلين!

0

رأيتُ امرَأَ القيسِ مُنتظراً على مدخلِ البيرغهاين
ينادي على صاحبَيهِ:
تعالا لنعرفَ ما آخِرُ الانتظارِ هنا..
تعالا لنضحكَ.. ذاتُ الزمانِ يمرُّ بنا مرتينِ
ونحنُ نتعتعُ في السُكْر..
اليومَ خمرٌ..
وإنْ جاءَ طيفُ أبي سوف أرفعُ نخباً لاِسمهِ
لكنّهُ لن يجيءَ
لأنّي خسرتُ الرهانَ مع الكأسِ
فاليومَ خمرٌ..
ويومُ غدٍ مثلُهُ..
رأيتُ امرَأَ القيسِ منتشياً..
يجرّونهُ خارجَ البيرغهاين
ويهذي: تعالَ وخذْ عبءَ تاجكَ عنّي..
أجبني! لماذا على عاتقي كلُّ هذا؟
لماذا أنا يا أبي؟
منْ أنا؟
من أنا خارجاً من عباءةِ كسرى؟
من أنا داخلاً تحتَ خوذةِ قيصر؟
من أنا قاتلاً أو قتيلاً؟
أشدُّ الأصابعَ كيْ أُحكمَ الطّعنَ
أمسحُ سيفي بثوبي
دمي ذاكَ أم دمُ غيري؟
والأرضُ تشهقُ من رُعبها
أهيلوا على فمِها من قَتَلْنا
أهيلوا الضحايا
لتعتادَ هذا الخراب..
رأيتُ امرَأ القيسِ في غابةٍ يتمشّى
يحملقُ في شجرٍ شاهقٍ
ثمّ ينثرُ من كمّهِ حفنةَ الرّملِ
ينثرُ عمراً تجمّعَ فيها
يطعِّمُ هذا المكانَ بذكرى
ليفهمَ كيفَ يطولُ هنا العشبُ من دونِ أن ينكسرْ
يعودُ امرؤُ القيسِ للشارعِ العامِ
يركبُ حافلةً
ويحنُّ إلى الخيلِ:
هذا الحديدُ على العجلات لا يَسْتَحِثُّ الخيال!
وينظرُ لامرأةٍ لا تراهُ
يتابعُها وهيَ ترفعُ في ضجرٍ شعرَها
فيحنُّ إلى هودجٍ وإلى نظرةٍ تتردّدُ خلفَ القماش..
تصيرُ الإشارةُ خضراءَ..
ينزلُ في موقفٍ لا يجيدُ قراءةَ اِسمهِ في اللافتةْ
ويطيلُ التأمّلَ في الأبنيةْ
فيرسمُ في الريحِ خيمةْ..
يخذلُه الغيمُ..
تمطرُ فوقَ الخيامِ..
يُطيّرُ خيمتَهُ في نزقْ..
ويسيرُ إلى شُقّتِهْ..
علِّيّةٌ فوقَ ظهرِ البناءِ
وقرميدُها مائلٌ..
ومطبخُها لا يناسبُ أهلَ القِرى والضيافة
مطبخُها للوحيدِ يعدُّ شطيرة..
شُقّته.. غرفةٌ
بنافذةٍ واحدةْ
لا تطلُّ على مشهدٍ واسعٍ..
بلْ تطلُّ على نافذةْ..
وجيرانُه يسدلونَ الستائر في السادسةْ
لا شيءَ يؤنسُ وحدتَهُ
غيرُ ساعي بريدٍ.. يسلّمهُ حزمةً من ورقْ
فينظرُ ممتعضاً للجرائدِ
يهمسُ: لستُ بقارئْ!
فيضحكُ ساعي البريدِ
يسلّمهُ حزمةً من رسائلْ..
يعرفُ أنّ لهُ موعداً
موعدينِ ثلاثاً..
وأنّ عليهِ الذهابْ
اليومَ خمرٌ يقولُ امرُؤ القيس
قدِ اخترتُ موتي
وخضتُ طريقاً طويلاً إليهِ
تنقّلتُ بينَ عروشِ الملوكِ، ألمُّ الجيوشَ
تنقّلتُ بينَ النّساءِ ألمُّ الحرير..
ومن كلماتِ أبي قد عرفتُ مصيري
ولكنّني ما عرفتُ بأنّي سأصغي لصوتِ المترجمِ
ينقلُ لي ما يقولون في مكتبٍ للعمل
ويسألُني ما تجيدُ؟
أقولُ أنا شاعرٌ
وأبي قالَ إنّي خليفتُهُ
وسآخذُ ثأرَهْ!
أنا جيّدٌ في الحروبِ
ولي خبرةٌ بالنساءِ
أنا ملكٌ من ملوكِ الكلامِ
ويتبعني الشعراءُ إلى النّارِ..
يتبعني قارئي…
فيقولُ الموظفُ: غيرُ مؤهّلْ!
أعودُ إلى البيرغهاين
اليومَ خمرٌ
وأما غداً سأرى ما سأعملُ
إذْ ربّما أعتني بالعجائزِ
إنِّيَ أهلٌ لهذا، لأنّي أطعتُ أبي..
أو ربّما أدرسُ الجغرافيا
فشِعري طريقٌ يدلُّ المسافرَ
يرسمُ خريطةً للمكانْ
أو ربّما سوفَ أعملُ في البيرغهاين كنادلْ
أصدحُ للعابرينَ بشِعري
وأحكي لهُم كيفَ حمّلني والدي دمَهُ
أو ربّما قد أعودُ إلى ما تركتُ.. إلى ما هربتْ
أو أرتدي حلّةَ السُّمِ ثمَّ أموتْ
لقد طفتُ في الأرضِ حتى قبلتْ..
وقدْ متُّ يومَ رفضتُ أبي
ويوم أطعتْ
ويومَ خسرتُ الهوى
ويومَ مددتُ لكلِّ الجيوشِ يدي
ويومَ هربتُ ويوم غرقتُ ويوم نجوتُ
ويومَ بصمتُ بخمسِ أصابعَ عندَ الحدودْ
ويومَ استلمتُ المعونةَ كي لا أموتْ
ويومَ بكى العابرونَ عليَّ.. ويومَ نسوني
لقد متُّ وحدي
على مدخلِ البيرغهاين
ولمْ يعرفوا أنّني جثّةٌ
ولمْ يلمحوني..

*القدس العربي