ليتني كنتُ السابع

0

ماهين شيخاني، قاص وتشكيلي كردي سوري

مجلة أوراق العدد 13

قصص

انطلقت الحافلة المليئة بالركاب باتجاه المدينة البعيد والتي تستغرق رحلتها الاعتيادية حسب خط سيرها المقرر من قبل إدارة المرور خمسُ ساعات. ولذلك حاول الأستاذ مصطفى مدرس مادة الفنون وأخوه، قطع تذكر أمامية، قريبة من جهاز الفيديو ليتسلوا بمشاهدة الأفلام لحين وصولهما إلى المدينة.

أخرج سيجارةً من علبته وضعها في فمه، وهو يفتش عن ولاعته المهداة إليه في إحدى المناسبات، وقبل أن يشعل السيجارة، كان مرافق الحافلة واقفاً على رأسه:

– لو سمحت، الشركة تمنع التدخين، يرجى التقيد والالتزام بذلك.

ابتسم مصطفى وقال: تكرم…أهلاً وسهلاً بك وبالشركة، طالما ممنوع للكل، ولكن بما أنك منعتني من التدخين، أليس من حقي أيضا أن أطلب “كاسيت” هندي يكون على مزاجك.

– بكل سرور “قالها المرافق ذو الشكل الجميل والأنيق في ملبسه”، لديَّ فيلم هندي باسم مرد وسأضعهُ بعد الضيافة مباشرةً.

كانت الحافلة تنطلق كالسهم تخترق البوادي دون أن يُعيقها صعود أو منحدر. وكان منظر قافلة من الشاحنات الكبيرة التي تئن تحت حملها، تحاول جاهدة الإسراع دون فائدة. كسباق مجموعة من الشيوخ العجز مع شاب رياضي نشيط، فقد بقيت القافلة وراءها حتى فقد أمل اللحاق بها.

الأشجار الحراجية وأعمدة الكهرباء والهواتف تتراجع من جانبي الطريق. لتفت انتباهه الى فلاح شاب بجانبه فتاة تحت ظل شجرة وارفة. خرجت تنهيدة طويلة من صدره وغلب عليه الخيال كانا على مقربة من نهر الخابور …تظللهما أشجار السرو والسنديان. كانا جالسين على مقعد اسمنتي وأصابع يده تشبك أصابع يدها. وهي صامتة.

– ما بك…أحبك…أحبك أنت فقط. لا أحد غيرك لها مكان في قلبي.

– ولكن أخبروني…نعم أخبروني بأنكَ على علاقة مع فتاة أخرى. قالتها بحزن.

– أخبروكِ ..من ..؟ عمك الذي سحب علينا المسدس، إنه رياءٌ وافتراء. يريدون أن يبعدوك عني يريدون أن تذبل زهرة حبنا…أهواك أنت.. أعشقك أنت .. دونك الدنيا بلا..

-أعرف مشاعرك اتجاهي ومتأكدة منك يا حبيبي، ولكن كلماتهم عنك تضايقني، عند سماعي بذلك يقشعرُّ بدني أتألم !! آسف لأنني أخبرك عن مكنونات قلبي.

– هل تضايقت…؟

– أبداً… ، ولكنني سببت لكِ الازعاج، قالها مازحاً: بمناسبة هذا الخبر المزعج والكاذب، ما عليك إلا مراضاتي ومراضاتي ليست سهلة كما تعلمين.؟

ضحكت وقالت: أغمض عينيك…وبعدها ستنال ما تطلب.

وأغمض عينيه وهو في نشوة عارمة.

حاول فتح عينيه، أحس بضبابية الألوان، وشعر بدوار في رأسه وكأن كابوساً مرعباً زاره في المنام …ارتعب وصرخ بأعلى صوته حتى جفلت الممرضة الواقفة إلى جانبه…ماذا حدث..أخبروني؟

أين…أنا..؟ أين الحافلة.؟ ..أخي.. أخي أين هو..؟ يا إلهي رأسي…تؤلمني..

اقتربت الممرضة، مسحت أثار الدم المتبقي على وجهه وعيونه وبَعَدَتْ جفونهُ عن بعضها وزالت الأوساخ بالقطن المعقم وقالت:

هوَّن عليك يا أخ…أنك رَجُلْ…حمدا لله على سلامتك …كان حادثاً مؤسفاً ذهب ضحية اللامبالاة ستة أشخاص من جملتهم السائق ومرافقه، المساكين ماتوا قبل أن يصلوا الى المشفى، أما الباقون فأغلبهم أصيب بكسور وجروح بسيطة، وأخوك بخير وهو في الغرفة رقم (17) ولكن للأسف هو أيضاً مصاب في ساقه.

– أريد رؤيته…أرجوكم…بالله عليكم طمئنوني.

– أطمئن ولا تخاف، صدقاً أنه بخير وقد يزورك بعد قليل، هو أيضا قلقٌ عليك وأخبرناه بالحقيقة مثلما أخبرناك.

– أريد رؤيته ولو لدقيقة واحدة، خذوني إليه…أرجوكم…أتوسل اليكم…وأثناء ذلك سمع دقات على الباب- ودخل عليهم رجل- وقال:

– مرحباً يا أستاذ…يا فنان…مدَّ يده للمصافحة.

– يبدو أنه يعرفني! قالها في سرِّه.

– كانت يده اليمنى سليمة، أراد أن يمدها للضيف القادم إليه، وحين رفع بصره وتفحص ملامحه. تجمّدت يمناه وتغير لون بشرته وقال بمرارة ( يكاد لا يسمع): أنت.

– نعم أنا…المساعد أبو الزند، ألم تقل بأنك تستطيع رسمي خلال خمس دقائق، ها أنا ذا آت إليك. لقد رأيت اسمك في سجلات المشفى وسمعت بالحادثة، بالمناسبة أنا أعمل هنا كاتباً، فقد سُرحت من الوظيفة مثلك…ألا تريد أن تفي بوعدك، أم أنك نسيتني؟

– كيف لي أنسى ذلك اليوم، مداهمتكم لبيتي في ساعة متأخرة من الليل. استقبالكم وحفاوتكم…كيف أنسى كلماتك الرقيقة عندما قلت: سأنسيك حليب أمك…كيف أنسى ذلك السوط والخيزرانة والكبل الرباعي وغرفة التحقيق ومعلمك، كيف أنساه وأنتما الاثنان تتناوبان على تعذيبي نفسياً وجسدياً وذلك بوساطة دولاب ذي قياس600/14عندما وضعتموني فيه. وهو يقول لك:

ابن الـ….مهيأ حالو نفسياً.

– كان يتذكر تلك اللحظات الأليمة كشريط سينمائي- وما زالت يده ممدودة كما هي، قال: لا تؤاخذني على ذلك، كنت مرغماً، ذلك كوني في (00000) لقد كانت وظيفتي آنئذٍ…

– وظيفتك كانت إهانة الناس وتحطيم مشاعرهم وأحاسيسهم، وبصوت مخنوق ماذا فعلت لكم…؟ شتّان ما بين عملي وعملك…لقد حرمتني من وظيفتي كوني أقمت معرضاً فنياً دون أذن منكم…ألم يكن عندنا سلطات مثلكم؟

أم أنك كنت التحري البطل…؟ واستغللت الوظيفة لأحقادك الشخصية …ألم تخف من ربك وأنت تقول لمعلمك أقاويل كاذبة، ملفقة، كي يزداد جرمي وأمامي، ولم استطع أن أتفوه بشيء.. أنت تعلم بأنك افتريت…كذبت “ومازالت يده كما هي”. ولكن مثلك لا يخاف أحداً. لأنك بلا رحمة ولا ضمـ…

وتدخلت الممرضة في تلك اللحظة وقالت: هدئ من روعك يا أخ …الانزعاج مضر وسيء بالنسبة إليك وقد يجلب لك مضاعفات نحن بغنى عنها…

-لا يا أختاه…ليتني كنت السابع ولم أر وجه هذا الرجل ثانية.

تراجع إلى الوراء محاولاً إسناد ظهره الى الوسادة ونزلت يد أبي الزند الى الأسفل واتجه نحو الباب بعد أن همست الممرضة في أذنه.