محمود باكير، شاعر ومحامي مواليد 1970، سراقب في محافظة إدلب، أنشأ مجلة الكواكبي الثقافية 2011، وينشر في العديد من الدوريات السورية.
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق الشعر
– 1 –
(من طبقات الغجر)
1- الجورة:
………
فقراء بلا بيوت..
بملامحهم السمراء..
مثل أسراب الشحارير..
و هم مكتومي القيد والهوية..
ينهمرون على عجل.. إلى المدن..
من خيامهم البعيدة.. والأرياف..
بالأحذية الجلدية و الكلابيات المفتوحة من الأسفل..
بأطفالهم الصغار..
و هم يتمخطون بأكمامهم تحت شجر السرو..
في الحدائق.. وفوق حجارة الرصيف..
بالدراجات النارية الثقيلة..
تلك المدججة بالفراء والخلاخيل..
يوزع الرجال زوجاتهم..
على المداخل والشوارع والبيوت..
بالخوف الواضح..
الساكن في العيون السود..
وبالضحكات البسيطة وهم يرسمون لك الخرائط..
والذكريات..
عن أعراس أكلوا فيها مناسف اللحم..
تحت قرع الطبول.. قرب مواسم الصيف..
وهم يزرعون البن الثقيل.. والرائحة..
على شرفات العصر..
حتى الشتاء..
ليعلن الغيم عودتهم إلى مشارف القرى..
وهم يحملون الخبز وأكياس البصل الأبيض..
إلى خيامهم.. بصمت..
2- غرب شعبة التجنيد:
……….
غجر البيوت المستقرة..
والرخام الأبيض..
صناع أسنان الذهب..
والسكاكين القرباطية..
تجار أسلحة أو طيور جارحة..
سياح يتوافدون إلى المطارات.. نحو أمريكا..
ملامحهم ملتبسة بالضحكات والصمت الطويل..
أغنياء ولربما طغاة..
لا يزوجون البنات للغرباء..
أو لعشاقهن من الأحياء المجاورة..
تلاحقهم دوريات الأمن..
وهي تبحث في بيوتهم عن قطع الأسلحة.. المعطلة..
أو المسدسات التي بلا رخص..
يخطفون القاصرات..
على دراجة..
ويشتبكون في مشاجرة..
تقص في نهايتها الجدائل..
فوق جثث الرجال..
ويكثر العويل..
وتعقد الصفقات..
……….
الغجر..
روح الشتات..
وجسد الفرح المستباح..
وهم ينتشرون كالريش..
في مهب الجغرافيا..
سكان الريح..
وطيور الحذر..
…………………………………………
– 2 –
(مرتفعات ميدانكي)
شمس مريضة.. ونهر نحيل..
بين اعزاز وكفر جنة طريق قصير..
يتعرج كالروح..
وهي في منعرجات النزوح الصاعدة..
نحو هاوية أو غيوم..
………..
كل شيء مريض..
الشمس.. السماء.. الغيوم..
وحتى القطط..
ولا شيء سوى الإسفلت المتعب..
وهذا المرار الناهض في الحلق والقلب..
بطعم الدفلى..
حافلات.. حافلات..
وهذا الطريق الطويل..
تحمل البشر والمنازل المكبلة بالحبال..
وبعض الخراف..
وكل هذا التعب..
……….
النهار العجوز..
يسير على قدم واحدة..
يحمل عكازه.. راية للحرب فوق الخيام..
الأشجار شاحبة..
والتلال بلا رعاة..
وكل هذا الحطب..
………..
بلاد مهملة منذ عصور..
فقدت ملامحها.. ولا شيء الآن..
سوى ذكريات أو وجوه غريبة تعبر الحواجز..
نحو مصائر المجهول..
والهويات القديمة التي تركت آثارها..
كالندوب..
في هذا الفضاء الحزين..
……….
خيام في كل الجهات..
وأنت تنزل من تلال كفر جنة نحو الماء في ميدانكي..
تبحث عن شيء ضاع..
لا تعرف..
هل هي شجرة زيتون كنت تعرفها..
أم بيت قديم..
أم وجوه لرجال قساة..
أكلت خبزهم ضباع البراري..
وحرب الأخوة الأعداء.. والجغرافيا..
……….
قال لي صديقي:
“الهواء ناقص هنا.. وهذه الوديان مقفرة..
تبحث عن أهلها.. وهذا الماء مالح..
غريب أمر هذا الاختناق..
ولكأن أحدهم.. أكل أوكسجين هذي البلاد..
وتركنا وحدنا..
وحدنا…….؟!
من نحن.. أصلاً..؟!!
قلت:
لا طيور هنا لتخبرنا.. عن الجهات..
ولا جهات سوى لمن عبروا نحو موتهم فوق الجسور..
وهذي البيوت أضاعت أهلها.. وضعنا..
……….
يقول رجل الحاجز العاشر:
– من أين أنتم..؟!
– نقول:
نحن من تراب.. نريد الذهاب الى الماء..
كي نعطش قليلاً..
– يقول في دعة:
– اذهبواااااااا..
……….
في الوحشة..
تنتابك أصوات أحبة غادروك..
مواويل عتيقة..
و صوت بزق يتكسر فوق رأس ثقيل..
تبحث أنت في التفاتك..
عن “قبج” يطير على سمت أغنية تعرفها..
عن “اللاووك” وهو يسح أحزانك الكبرى..
على حائط غادرته للتو..
بحة.. ولولة.. أو أنين..
……….
تنكمش على كتف الماء كاليتيم..
تتذكر طفلة عبرت ماء أيامك..
في كراج الأشرفية..
اسمها وردة..
سمراء.. وكأنها من عنبر..
بشامة.. شاهقة..
وصوت أشقر..
تدرس الأدب العربي..
وتحب أشعار المتنبي..
وتعبث بالكلام واللغة الفصيحة..
– من أين لك هذه الشامة يا وردة..
– “من رياح السموم أيها العربي الغر..
ومن مزابل البلاد..
المترامية قرب مجد الطوائف..
واللاشمانيا..
ومن حبة حلب..؟!
……….
في طريق العودة..
تطحن روحك أغنية.. عن البيت..
عن طريق البيت..
والبلاد التي بلا أبواب..
أما الشمس..
شمسك المريضة..
فتتكسر تحت ضربات الغيم والعتم..
وهي تسقط نحو الأرض..
كل هذي الأرض.. الضيقة..
………………………………………..
* القبج: طائر كوردي.. يعادله عند العرب طائر الحجل.
* اللاووك: غناء فلكلوري كوردي حزين… نغم يشبه الولولة أو الأنين الطويل.
– 3 –
(تشكيل)
“تخطيط بالفحم..
عن هواجس اللون والرائحة..
لوحة 50 × 70 سم..
– مرسم ضيق..
والمدى.. خفيف..
كانت الشمس.. تشرق من أصابعه..
أو من تراب القباب..
من العشب الأشقر..
فوق الحجارة والشبابيك..
منذ البداية..
وهو يشكل الذاكرة..
تلك الجورية الوحشية..
تلك “الملمومة”
مثل الحكايا وتلال القش..
وظلال الكروم.. والبيادر..
والصيد بـ “الفواقيس”..
هكذا حافية تركض على الهوامش..
والأرصفة.. والتلال البيض..
مثل “المرقط”..
الذي كسرت الأفخاخ.. روحه..
وأغمدت في تلافيف قلبه.. خناجر أو رماح..
وطاردته.. أرامل السرو.. وعرائس الرمان..
كنت أطارد اللوحات..
كمن يطارد طيور القطا.. والورار الملون..
وهو يلاحق النحل والقبرات.. على شجر الغضا..
كي يعود..
………..
علمني جاري الفنان..
التدخين بشراهة..
والمنظور..
والبعد الثالث..
وكيف نكتشف العمق..
بنزق فرشاة تضرب..
على خد تفاحة..
أو حبة كمثرى..
في طبيعة صامته..
……….
وكنت أفتش عن الكلام..
لأعرف كيف “يدور” الرعاة..
على شمسهم.. في البراري..
وهم يصطادون الثعالب..
ويرتدونها كالمعاطف في الريح..
وهم يحرسون الخراف..
أو.. وهُم..
“يتفرجون” على ديكة تتقاتل..
وعلى أعرافها الحمر..
يسّاقط البرد والدم والسؤال..
……….
في المساء..
كنت أرسم قبعة للصباح..
وأنحت على دروب الغبار.. معلَّقة..
تتحدث عن عكاز.. للنهار البغيض..
ليعبر.. جسر النميمة.. كي أنام..
……….
في النساء.. رسمتك..
رسمت أمي.. و”حطاطة سوداء”..
وقناديل من الذهب العتيق..
بحار من الكحل..
والحرير..
والحكايا..
……….
في النساء أيضاً..
رسمتك عارية.. مثلنا..
حمامة..
غلالة بيضاء..
على تخاريم من الحليب والنوايا..
شمعة تذوب..
وردة محروقة..
على خشب مولع..
بالحريق..
……….
على قماش أبيض 50 × 70 سم..
وبالفحم المتراكم في الروح..
رسمتك..
فراشة..
قبساً.. من الفل..
دالية.. تنمو..
على شالك الوردي..
أو في العيون..
……….
الصديق الذي علمني.. خطوطك..
دروبك..
والمفاتيح..
من زاوية السقوط..
سيذهب إلى الشوارع الجانبية.. في نزهة..
ليرسم.. “المرحبا”..
أرصفة..
للباعة..
والبدويات..
وهن يلوحن بأقراط الغواية..
ورائحة البن والتراب..
لتهتز الأرض بالخلاخيل..
مثل موال.. أو جرس..
ليسقط الخيال..
عن ظهر قلب..
أو عن..
متاريس المخافر.. والحرس..
أو.. عن وعينا اليومي..
في لوحة..
أو عن.. فرس..
– 4 –
(توت.. الذاكرة)
للشرق..
ذاكرة خبيثة..
مخاتلة.. وتكتيكية الانتقاء..
يظنها الغريب.. أو الغبي.. قصيرة..
منهكة وضعيفة..
كمثل عجوز..
يحملها عكازها.. على رصيف غريب..
……….
في الشرق.. ذاكرة.. يخافها الطغاة..
ويخاتلها الأبناء الأغرار..
بالكتب المزورة.. وببسطة من الكلام الجديد..
……….
في الشرق..
لا يضيع النباح.. ولا الأنين.. ولا البكاء..
بل ذاكرة تطاردها اللعنات..
وممحاة غليظة.. لرجال بلا وجوه..
تتوارى في المواويل..
في أحاديث الليل.. والمناقل.. والصفيح الفقير..
على التكايا..
على تلال الحصى.. والتراب النبيل..
على تخوم الحصيد.. وتحت خيام النوم..
في شرفات أيلول..
وعلى أسرة العرس.. وأبواب البيوت..
ولو بموال..
أو بيت شعر.. قليل..
……….
في الشرق..
ثارات من الصمت الطويل..
وذاكرة.. تنصب الكمائن..
لتفتح في جدار العفاف والمجاملات العائلية..
“طلاقة”.. للرصاص القديم..
……….
في الشرق..
عادية.. تلك الخيانات المدفونة في مقابر القرى.
كي تضيع بين القبائل.. كالحروب..
……….
في الشرق.. ذاكرة عجوز..
تعرف.. مواسمها جيداً..
وتعد الأوان..
على ورق تعفن..
في عزلة الجوارير.. والقلوب السود..
غيمة لتمطر على وقتها..
وتعرف.. خائنة الأعين..
وكيف تضرب الغرماء.. قبل قسمتهم..
وكيف.. تعود الدروب.. إلى دربها..
أو تموت..
……….
في الشرق..
ذاكرة.. تتقطع قليلاً..
توت.. تووووت.. تووووووووووت..
ولكنها كفرض الصلاة..
تجيء على وقتها..
وتطعم.. الأطفال.. توت..
……….
توت.. تووووت.. توووووووت..
………………………………….
– 5 –
(ذات الوشاح الخفيف)
*_ كي لا ننسى.. وكي لاااااااا نندمج..؟!
“الحارة الشمالية.. مرة أخرى..؟!”
……….
ليست بعيدة كل البعد.. عن السوق..
وليست قريبة كل القرب..
بما يكفي كي يتعلم الأبناء التجارة..
……….
بل هي عائلات فلاحية..
لا غربية ولا شرقية..
بعقول زراعية..
وملكيات لأراض..
تتفتت بفعل الزمن وصراع الورثة وكثرتهم..
قريبة على حدود البراري..
وسهوب الشمال والتراب الأحمر والكروم..
إلى أمد قريب..
كان الأهل والأبناء.. يتنابزون بالألقاب..
لكل عائلة لقب..
ولكل طفل أيضاً.. نداء أو صريخ..
………..
الحارة..
أمومية التربية..
بلا بطاركة.. وبلا مرجعيات..
حيث ترافق وصول الإسفلت وأعمدة الإنارة..
مع هجرة الآباء إلى بلاد الخليج..
……….
سهول..
تصلح لزراعة القمح والأمل..
وللعب كرة القدم.. وركوب الحمير..
تصلح للصيد..
وسرقة البطيخ الأحمر..
من تخوم الحقول المتشابكة في شمال الشمال..
……….
خرائب..
للعشق.. ودخان الحرائق..
وملاحقة الخطيئة والشغب..
………..
ليسوا أغنياء..
وليسوا فقراء أيضاً..
بل هم وسط كالفضيلة.. بين تطرفين..
كمن يمسك عصاه من المنتصف..
……….
“شوافعة” ..
مع الشافعي في العراق..
ومعه في هجرته الفقهية إلى مصر..
يؤمنون..
“بتغير الأحكام بتغير الأزمان”
“وينزحون” من بئرهم التي ولغ فيها الكلب..
7 نضحات..
ويشربون الماء.. من كف كريم..
……….
ملوك السخرية..
بلا خجل أو تكتيكات عائلية..
شجعان.. دون مغامرة..
وأذكياء.. لا يحبون المدارس والدروس..
………..
قساة..
وأصحاب كلام فصيح.. وشعارات..
خونة..
يستجرّون “الكنّات” الجميلات..
من غير أقاربهم..
من الشوارع الجانبية..
والحارات المجاورة..
………..
عشاق.. بلا تحفظ..
يكرهون الشرطة..
ورجال الأمن..
……….
أصحاب ترجيع بعيد..
ومواقف وارتدادات..
يفترشون الأرصفة في الليل..
ويحبون المال والسهر..
والشاي الثقيل والنميمة..
يتبادلون الأطباق..
والزيارات التي بلا مواعيد..
وتقاطيع “الكبة النية”.. بلا حرج..
وكأنهم من سكان عام 1979..
…………
كذبة..
بل شعب موهوب بالكذب..
يبدعونه.. كمن يرش الملح والأغنيات..
على أرض بلا نكهة أو ضمير أو تراب..
………..
ليسوا..
طبقة وسطى..
ولا رعاع..
لكنهم خميرة الأرض..
وروح البلاد القاحلة..
يزرعون الضحكات في حقول الآخرين..
ويتركونها…
كمن يترك في كل شيءٍ.. مذاق…؟!
……………………………………
– 6 –
(من رسائل الغفران الأخيرة)
… وقال:
كيف قُتلتَ إذن.. يا أخي..؟
قال: كنت في الحرب.. قرب الحدود..
برصاصة في الخاصرة..
و أنت.. كيف مُت..؟
قال: كنت أرتب أسماء من هربوا.. ومن صمدوا..
وقُتلت بالسم على خبز المساء..
وأنت..
هتفت لله والوطن المهمش..
وأنت..
عبرت الطريق إلى ربطة الخبز..
وأنت..
كنت.. قرب المدرسة..
وأنت..
كنت.. في السوق.. على بسطة الخس..
تحت الشمس..
وأنتِ..
كنت أرضع طفلتي.. فاصطادني القناص.. عصراً..
وأنت..
كنت.. في صلاة الصبح.. أقرأ سورة..
عن حزن اليتامى..
وأنت..
على صليب.. في طريق الجلجلة..
وأنت..
كنت.. على رصيف الموت..
أبيع البسكويت.. للعابرين.. إلى موتهم..
وأنتِ..
كنت أحمل.. طفلتي.. وأعبر النهر..
نحو طوروس..
قتلني انكشاري.. قبل الغروب.. بطلقتين..
وأنت..
في آخر الطابور.. في نفق الإغاثة..
وأنت..
في برية الروح أهش على غنمي.. وعضتني الطائرات..
وأنت..
قالوا.. بقذيفة مجهولة سقطت..
على بيت الصفيح..
وأنت..
في زنزانة.. نصبت كميناً.. للطغاة ..
وأنت..
في قصيدة.. هربت..
من فوق أسوار.. وزارة الإعلام..
وأنت..
في رواية.. ممنوعة عن الحب الشفيف..
وأنت..
هناك.. على معبر الورد..
وكنت أغتاب الخيانة.. خلسة..
وأنت..
تحت صهريج المياه.. وبالعطش..
وأنت..
كنت أحمل جثة مجهولة.. إلى طبيب..
وأنت…
على باب مخفر.. وبتهمة الجوع القديم..
وأنت..
في شاشة التلفاز.. كنت أبحث عن وطن..
وأنت..
قرب باب الدار.. كنت أبحث عن صباح.. أو حليب..
وأنتِ..
في بيدر.. وأنا “أكشّ”..
الخوف عنهم.. والجراد..
وأنت..
في قبو.. وكنت أبحث.. عن غيوم في السماء..
وأنت..
في مشفى.. وأنا على حجر مسجى.. من دماء..
وأنت..
في منفى.. وأنا على باب غريب.. كالغياب..
وأنت..
نازح.. وكنت أبحث عن خيام..
وأنت..
على سلم.. يصعد نحو بنك الدم..
وأنت..
في الطريق.. وكنت وحدي..
وأنت..
في نزوح.. الجائعين..
وأنت..
في تظاهرة.. بعيدة..
وأنت.. في صلاة الغائب.. المجهول..
وأنت..
في حبر الجرائد..
وأنت..
هكذا.. كالعادة.. من جوع وخوف.. كالحمام..
وأنت.. في كتب قديمة..
عن حروب.. أو ملوك.. أو زحام..
قال الذي قال.. أول مرة:
يا أخوتي.. ليس من الغريب.. أن يمر الذئب من جناتنا..
ونحن في حقل الذئاب..
ذئب أكل..
ابن الشرطي..
ذئب أكل..
ابن الجندي..
ذئب أكل..
ابن صاحب الدكان..
ذئب أكل..
ابن صاحب الصهريج..
ذئب أكل..
ابن صاحب وكالة الغوث..
وذئب أكل..
ابن السياسي..
وذئب أكل..
ابن الوراق..
وذئب أكل..
ابن المفتي..
وذئب أكل..
ابن الشاعر..
وذئب أكل..
ابن الحرااااااااااااااام..
كلنا في النار يا اخوتي.. كلنا في النار..
والذئاب الوديعة.. التي أكلت..
في علّيين.. في علّيين.. في علّيين..
وقال الذي قال أول مرة:
وكيف إن أكلت.. أباه..؟!
وكيف إن أكلت.. أباه..؟!
و كيف إن أكلت.. أباه..؟!
…………………………………………………
– 7 –
(على دروب القنجرة)
حكاية.. جرت أحداثها..
قرب باء البحر.. في جيم الجحيم
– قال أبي:
لا شيء هناك يا ولدي..
ثمة بحر.. وبيارة ليمون.. ونساء فقط..
حتى الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة..
لم أستطع معرفة كنه هذا الرجل.. أبي..؟!
لم أستطع تحديد ملامح الحكم النهائي والممكن..
تجاه هذا السر.. بملامحه الوسيمة جداً..
بقبضته الحديدية.. بالقسوة النهائية..
وبالحنان النهائي..
وما بينهما من القوة والضعف..
والتفاصيل.. لم أتمكن.. حتى الآن..
…………
حتى بدايات ذلك الصيف الحار.. لم أكن أعرف البحر..
إلا في الصور..
صور الجرائد والمجلات.. وعلى شاشة التلفاز..
كان البحر.. يشبه أبي.. مبهم.. وبعيد..
قاس.. ولكنه محبوب..
كان الصيف في أيامه الأولى..
والشمس غزالة.. تحاول البحث عن بيتها..
على جبهتي..
أنا الطفل الذي يعشق..
البراري والكروم والصيف..
وصيد طيور “المكحل”.. وركوب الحمير..
وصحبة الرعاة.. في نزهات القطاف..
قطاف البطيخ.. والعجور .. والجبس..
استعد..
“بدي أخدك ع البحر هل الصيفية..
إذا نجحت في الانتقال إلى الصف الثامن..”
هكذا قال أبي.. الذي لا يمزح عندما يقول..
طار عقلي.. مثل دوري حبيس في قفص..
وروحي صارت هناك.. على ضفاف المتوسط..
قد أكون كاذباً..
إن قلت لكم أنني شممت رائحة البحر حينها..
رائحة اليود.. وخشب المراكب المنسابة..
وأعشاب البحر والرمل الطري..
رغم هذا..
لا بد لكم.. من أن تصدقوني.. كي تكتمل الحكاية..
عن البحر.. الحب.. الحرب..
وعن رائحة اليود والشمس.. عن الصبايا الصغيرات..
عن الهدايا من ورق الغار والليمون والبرتقال..
وتين الصبار.. “الصبر”.. وعن القبل..
…………
كان أبي يملك حفارة لحفر الآبار الارتوازية..
كان يعمل هناك..
على الساحل الشرقي للمتوسط منذ سنوات وسنوات..
كان يجيد.. حفر هذه الأرض وثقبها..
ويستخرج من طبقات ترابها الماء والخير.. ويطعمنا..
………….
على الطريق الدولي بين حلب واللاذقية..
وعلى مقعد في باص قديم.. يطل على جبال..
دروب ملتوية..
منحنيات خطرة.. ووديان مليئة بالروائح..
على..
غابات من البطم والإسبندار..
أنا الطفل الصاعد إلى المراهقة..
كنت أتحسس بضع “حبات شباب”..
قد توردت للتو فوق وجنتي..
كنت أسأل: “ترى..
هل يحب أبي.. البحر والفتيات.. مثلي..؟!”
…………..
لم يكن أبي ممن يفصح عن عواطفه بسهولة…
كانت عواطفه عصية.. ومبهمة…
رغم هذا.. مرة.. أمسكت دموعه على زاوية خده..
وهو يرفع قدمي المكسورة عن أرضية ملعب كرة القدم..
ويحملني في أحضانه إلى الطبيب..
ومرة.. سمعته يدندن أغنية لأم كلثوم..
بشجن هائل..
“عايزنا نرجع زي زمان..
قول لزمان ارجع يا زمان..”
…………
لم يفت الموعد.. أيها الصيف..
يا فصل العشق..
و يا مواسم الخوخ والأغنيات والسهر ..
في الطريق الطويل إلى الساحل..
وتحت قبة من القيظ والشمس..
وأنا التهم صندويشة “الكباب” المباركة بنهم..
في المقعد الذي قبل المقعد الأخير..
في حافلة “الهوب هوب” المتعبة..
أنا الطفل القادم من السهل..
من سهوب القش والقمح والتراب الأحمر..
كان يغمرني الشجر وتغمرني الروائح الحريفة..
وكنت أبحث في الأفق الجديد والطيب..
عن الزرقة والماء..
وعن وجه البحر الغريب..
على دروب منحنية..
من الخضرة والوجوه المنهمرة..
من كل حدب وصوب…
………..
القرية ليست بعيدة..
إلى الشمال من المدينة بكرم من التفاح..
وكرم من الليمون وبيارة من البرتقال..
وسياج من الصبار والشوك..
“القنجرة”.. كمشة بيوت فقيرة..
تتعربش على تلال بسيطة من الليمون والبرتقال..
إلى الشرق من طريق اللاذقية – كسب..
فرن ريفي..
قهوة بسيطة من القش وجرار العرق والنبيذ..
ومن بقايا الخشب.. والكثير الكثير من الفقر..
والعجائز والصبايا والشجر..
………….
الشباب أقل..
لعلهم في المدينة يعملون في الفنادق والمطاعم..
لعلهم يبيعون سلال الدراق وتين الصبار في ساحات اللاذقية..
في “الشيخ ضاهر”.. أو في الكراجات التي يشرّق منها الناس إلى حلب..
لعلهم في معسكرات التدريب الجامعي..
في دورات الصاعقة..
في الكليات الحربية والبحرية والجوية..
لعلهم يبيعون أوراق الحظ.. على الشاطئ الأزرق..
لعلهم في شوارع الشام.. في ساحة المرجة..
وعلى أبواب الفنادق الرخيصة..
وشوارع الشام الجانبية تلك الشوارع..
المفتوحة والمباحة لكل شيء..
أو على كل شيء ممكن..
أو على.. كل احتمال..
………….
في القنجرة..
كل شيء بسيط..
الناس والبيوت والدروب الترابية وخبز الفرن الوحيد..
الحواكير والكروم وأشجار التين والحمضيات.. الوارفة..
الآبار.. التي يطلب حفرها..
العلاقات والتعارف “الزراعي” على طريقة أهل الريف..
التي تعقد في لمسة المرحبا..
لتصير من أهل البيت.. بمجرد أن تقول:
“صباح الخير” أو “مساء الخير”
……..
بيت.. “بو اسماعيل..”
أول بيت دخلته..
العائلة التي تحفر بئرها الآن..
الأب موظف متقاعد..
يتنقل على طرق القرية بجرار أحمر..
متهالك أو يكاد..
من نوع “فرسان”..
يذهب مع بداية النهار إلى البحر..
كي يصطاد السمك..
ويعود قبل غروب الشمس بقليل..
البحر ليس ببعيد ولا بالقريب.. 10 – 15 كم..
عن بيوت القرية المتناثرة بين بساتين الليمون والبرتقال..
هناك الكثير من الفتيات والأمهات في البيت..
والأطفال الصغار من الحفدة..
الأم عجوز تشع طيبة وهدوء..
نحلة لا تكل ولا تمل..
من الصباح حتى المساء..
الشباب.. طلال.. طالب بكالوريا ينتظر النتائج..
ويحلم بالتطوع في الكلية الحربية..
فراس.. لم أتعرف عليه..
بل شاهدت صورته بصدر الغرفة..
تحتها علق وسام شرف..
وهو باللباس العسكري وبرتبة مقدم..
“وحدات خاصة” حيث إنه منح هذا الوسام..
بمناسبة بطولاته في القضاء على..
“عصابة الإخوان المسلمين العميلة؟!”..
هكذا كتب على حافة الإطار الذي يحتوي على الصورة..
والمعلق على الجدار..؟!
………….
لم يبق.. سوى محمد وسهى..
محمد.. أشقر بنمش.. من أبناء جيلي..
يحب كرة القدم.. ويريد أن يصبح طياراً لطائرة مقاتلة..
سهى..
سهى.. مربط الفرس..
ومناط الرحلة.. ومفتاح البحر.. والبساتين..
سهى.. تفاحة ساحلية..
حبة برتقال متوسطي.. حمامة فينيقية..
بيضاء..
عمدتها الشمس بالضوء وبملح البحر والرمل القريب..
فتاة من رشيم الشمس.. ولون العيون الخضر..
تلك التي.. من أوراق شجرة زيتون نضرة..
من أقصى الاخضرار.. أقصى البياض..
أقصى الشمس والبرونز والفضة..
قالت لي أول ما قالت:
“عيّن.. عيّن.. محمووووود..
أنا شاطرة كتير بالمدرسة..
أنا نجحت ع الصف السابع”
أنا لن أحدثكم عن مباريات كرة القدم بيني وبين محمد..
وكيف كانت المنافسة حامية الوطيس بيننا..
ونحن حفاة على التراب..
في شوارع القرية..
كيف كان يخسر ويتلقى الأهداف الحاسمة..
على مرأى ومسمع من مشجعتي الرائعة.. سهى..
حيث ينتهي اللقاء دائماً بوجبة الغداء..
من الرز بحمص..
في بيت الخالة أم اسماعيل..
………..
سهى.. رفيقة الصباح..
رفيقة الظهيرة.. والعصر والمساء..
كل الساحل والبحر صار سهى…
كل الأشجار.. كل الدروب والعصافير..
كل تفاحة سهى.. كل برتقالة.. وكل حبة خوخ..
في الصبح تأخذني إلى رحلة قطاف “الصبر”:
“عيّن.. عيّن.. أفيك تلمسون هيك..
بخاف عليك من الشوك محمووووود ..”
بعصاة طويلة.. تنتهي “بسقرق” من المعدن..
مفتوحة الأطراف..
كنا نلتقط حبات تين الصبار الناضجة..
نعمدها بالرمل والتراب.. والماء..
حتى تصبح مشتهاة..
يسيل لها عسل القلب والروح..
وندى الصباح البكر..
الذي يتسرمد في يدها..
وهي تطعمني حبة الصبر الناضجة..
وكأنه صباح الأبد.. الأبد المشتهى..
الأبد المستحيل..
الذي لا يحول ولا يزول.. ولا يقال..
………
في الظهيرة… نعود معاً..
إلى الحفارة..
نتفرج على عمالها وهم يحفرون البئر..
نقف على حافة “برميل” الماء..
نتخابث.. نضحك..
نمد الأصابع الصغيرة لنلعب معاً في برودة الماء..
نغافل أبي.. حتى تتلامس الأصابع تحت الماء..
في باكورة البراءة والحب والمواسم والقطاف..
حتى أن لقاء “البرميل”..
صار هو الطقس والحلم والاشتهاء النبيل..
صار البرميل.. بحر..
وصار البحر.. أصابع سهى..
بذات الاشتهاء الفذ.. وبذات الرائحة..
واللون.. والطعم.. والحنين..
وأنا لم أعد أعرف الجهات.. ولا جهة البحر ولا الماء..
صار البحر.. اسمه.. سهى..
………….
لم تك سهى فتاة الصباح فقط..
بل شهد العسل.. في المساء أيضاً
وهي تصنع من أوراق شجرة التين.. سلة..
فينضج الشهد.. في كفها.. لذة من تين..
كل سلال سهى.. كانت لي..
سلة تين الصبر في الصباح..
وسلة الماء والأصابع في الظهيرة..
وسلة التين الأخضر في العصر.. والمساء..
أنا.. أسير السلال.. أعلن أن سهى..
كانت تأخذني في الصبح الى البحر..
لتعود بي عند الظهيرة.. صادياً..
أموت من الحب والعطش..
أنا الطفل “الشريقي”..
القادم من حواف البادية.. أعلن هنا..
على حافة هذا الأقيانوس العظيم من الماء..
أن كل سلالي.. أصبحت فارغة..
…………..
في المساء..
لم يكن المسلسل الدرامي المصري..
“سباق الثعالب” سوى حجتي مع سهى..
والليل..
الليل.. ذاك الذي سيذهب بنا نحن أبناء العطش..
إلى بحر من الظلمات والموت الطويل..
……….
على رمال الشاطئ الأزرق..
كنت وحدي..
أبي غادر إلى حلب.. منذ صيف طويل..
تركني هناك..
ملقىً على الرمل.. وحدي..
البحر لم يعد يعرفني أنا “الشريقي”..
أنا الغريب..
وحدي بين الرمال والماء..
لا سماء لي ولا مراكب..
سهى الآن.. تدخل في الحرب..
قناصة.. تطلق الرصاص على قلبي الصغير..
وتنتقم لغيابي..
وللوعود التي قطعتها للتين والصبار..
ولم أعد..
محمد.. صار طياراً الآن..
يركب طائرته ويقصفني..
ينتقم لكل الخسارات والأهداف..
التي سجلتها في مرماه..
بقدم حافية..
على دروب وتراب القنجرة..
تحت حر الظهيرة..
برميل الحب والماء وعناق الأصابع..
ينزل الآن على البيوت..
وهو يحمل الموت والبارود والكراهية..
وأنا.. على رمل المتوسط..
وحدي.. بلا أب..
أكتب اسمك البحري..
على رمل الشاطئ الأزرق هكذا..
“سوهااااا”.. مثل طفل..
لا يجيد إملاء الأحرف والكلام..
بل يحاول أن يرسمك.. نقشاً على قلبه..
أو شامة سقطت..
من سلال العنب والتين والصبر..
على دروب الحرب والبحر..
والياسمين…؟!