في كتاباته الواقعية، التي تندرج ضمن التقارير والمقالات الصحافية التي كتبها النوبلي غابرييل غارثيا ماركيز على مدار أعوام طويلة، يجد القارئ أن أثر الواقعية السحرية لا يغيب عن قلمه. لقد ظل “غابو”، وهو اسم شهرة لماركيز في أميركا اللاتينية، مأخوذاً بتقديم الحقائق من الزاوية التي تؤرقه، حتى وإن بدت متقاطعة مع قضايا كبرى هو معني بها مباشرة، مثل موقفه من جائزة نوبل، التي كتب سلسلة مقالات عنها، والتي أخرت فوزه قليلاً، حتى عام 1982. لكن بعد أن أصبح الكاتب الكولومبي روائياً ذائع الصيت، قام ماركيز الصحافي بجمع مقالاته كلها عن طيب خاطر، ولم يتجاهل ذكر الصداقات التي جمعته ببعض من رجال السلطة. هذا كله في كتاب “فضيحة العصر” (دار غراسيه الفرنسية)، الذي يضم مقالات لماركيز منشورة بين عامي 1950 و1997، والتي جمعت بين الرومانسية المكثفة للكاتب ورصانته الصحافية.
إنها مجموعة مختارة من المقالات الأدبية والفكرية والاجتماعية التي اعتبر الروائي الكولومبي أن من المهم نشرها. أعادت دار “غراسييه” نشر هذه المقالات التي تكشف أن الصحافة من أهم الأعمال في حياة “غابو”، وأنه كرس سنوات في مهنة المراسل؛ التي مارسها بشغف ظاهر.
ملأت هذه المقالات في اللغة الإسبانية خمسة مجلدات، لكن في اللغة الفرنسية تم اختيار خمسين نصاً من بين 173 مقالاً، وهي ربما تُقدم للقراء نظرة ثاقبة في مسيرة الكاتب الكولومبي العظيم. ويبدو الارتباط السردي بين الصحافة والأدب واضحاً عند قراءة هذه النصوص القصيرة، سواء كانت مشاهد من الحياة اليومية، أو قصصاً شعرية قصيرة، أو ملاحظات عن النخب السياسية الكولومبية، أو”كيف تكتب رواية؟”، أو تأملات بعنوان “خيال جائزة نوبل”، التي كتب عنها ماركيز ثلاثة مقالات، واختارت دار النشر أن تضمن الكتاب مقالاً واحداً منها؛ وأيضاً مقالته عن صورة همنغواي، وعن فيديل كاسترو، واستحضارات باريس أو المكسيك أو بوغوتا.
خيال جائزة نوبل
عندما حصل غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل للآداب في عام 1982، كان قد تمنى ذلك بالفعل قبل بضع سنوات، ووُعد بها، ولا شك أنه كان ينتظرها. لكن قبل ذلك بعامين، وفي مقال نُشر في صحيفة “السلام” الإسبانية، استمتع الروائي الكولومبي بوصف جائزة نوبل بأنها “خيالية”، فالجائزة بالنسبة لغابو حدث تشوبه الفانتازيا، إذ مع كل عام وفي الوقت نفسه، تُسبب الجائزة الأرق لكبار الكُتاب المنتمين إلى ناديها، هذا النادي الذي انتمى إليه ماركيز منذ نشر روايته “مئة عام من العزلة” في عام 1967. الجانب المظلم من الجائزة كما رأى ماركيز في مقالته، أن نتيجتها لا تتعلق بالقيمة الفكرية أو الأدبية لأعمال الكاتب الفائز، ولا تتعلق أيضاً بالعدالة الإلهية، بل بإرادة المحكمين التي لا يمكن فهمها أو فك رموزها وطلاسمها.
لم يكن ماركيز يرى منافساً له من كُتاب اللغة الإنجليزية غير “ف. أس نايبول”، و “غراهام غرين”، لكن الشبحين اللذين ظلا يحومان فوق نص ماركيز، بشكل ضمني، هما “بورخيس” و”نيرودا”. كتب عن بورخيس أنه يستحق جائزة نوبل، وكان يجب أن ينالها في عام 1976 لولا تساهله الضمني مع الديكتاتور التشيلي بينوشيه وإظهاره نوعاً من التسامح تجاهه. وصف ” غابو” هذا التسامح بالساخر، موضحاً في مقالته التي كتبها عام 1979 أن السويديين لا يدركون هذا النوع من السخرية. ربما أخرت هذه المقالات حصوله على الجائزة حتى عام 1982، التي يدين بها جزئياً للشاعر السويدي آرتور لوندفيست، لأنه الوحيد من بين أعضاء لجنة التحكيم في الأكاديمية السويدية من يقرأ اللغة الإسبانية، وكان ماركيز قد أخبر قراءه قبل عامين من الفوز أنه تناول العشاء برفقته.
نيرودا وهمنغواي
يتذكر ماركيز أيضاً في مقالته عن نيرودا أنه في عام 1971، عندما منحت الجائزة للشاعر التشيلي الكبير، كان يتناول العشاء في ضيافته برفقة بعض الأصدقاء القدامى، وكان نيرودا في ذاك الوقت سفيراً لبلاده في باريس، وقد أبلغته الأكاديمية بالفوز، لكنه لم يكشف عنه بتاتاً خلال الأمسية. كتب ماركيز قائلا: “لم يخمن أي منا أسباب هذه الدعوة، حتى عرفنا الخبر من الصحف المسائية”. نيرودا أخبره لاحقاً وهو يضحك: “أنه لم يكن مصدقاً لأي شيء مما قيل له قبل أن يُنشر ويذاع في الإعلام”. يحكي ماركيز أنه قبل يومين من توزيع الجوائز وأثناء لقائه مع نيرودا في أحد مطاعم جادة “مونبارناس”، عرف أن الفائز المتوج لم يكتب أي كلمة بعد من خطابه، فيصف كيف تناول ورقة قائمة الطعام وبدأ يخط عليها كلماته، من دون اكتراث للضجيج المحيط به. وبالطبيعة التلقائية نفسها لكلامه وتنفسه بدأ يكتب خطاب التتويج، في إحدى الزوايا وعلى طاولة المطعم.
أما مقالته عن همنغواي، فيسرد ماركيز تفاصيل لقائهما حين ذهب إليه لإجراء حوار صحافي معه. جاء همنغواي مرتدياً بنطالاً بالياً من الجينز وقميصاً بخطوط متقاطعة معتمراً قبعة “بيسبول”. كان “غابو” في الثالثة والعشرين من عمره حينها، فيه من الاندفاع والحماسة ما دفعه لأن يعرض قصصه على همنغواي، ومن الجرأة أن يقول له وهو يغادر: “إلى اللقاء يا صديقي”. في المقابل يبدو أن همنغواي الأكبر منه سناً ومقاماً، كان ينتظر مزيداً من الإجلال والتقدير له ككاتب عظيم، فثمة شرارة ما حصلت بين الكاتبين يمكن استنتاجها من سياق الكلمات المتبادلة بينهما، والتي يسردها ماركيز بدهاء بارع.
حلاق الرئيس
ومثل جبل الثلج الذي لا نرى إلا قمته، تبدو الإشارات الرمزية منثورة في مقالات ماركيز الصحافية، ليس على مستوى المضمون فقط، بل في اختيار الأسلوب الحكائي الماكر والمراوغ، الذي يرتكز على الخيال، كحيلة رئيسية لتمرير الواقع وليس العكس. يحكي ماركيز عن الرجال الأشرار، وعن الخونة، عن الثوار المناضلين وعن الضعفاء والمظلومين، الذين قادهم حظهم العاثر إلى الوجود تحت سلطة ديكتاتور ما. من هؤلاء يتناول ماركيز شخصية حلاق الرئيس، في المقالة الأولى في الكتاب. فمن هو حلاق القصر؟ من هو هذا الرجل الذي “لديه الجرأة بتمرير الموسى على ذقن الرئيس وعنقه، ومداعبة صدغه بسكين الحلاقة الحادة؟ من هو هذا الشخص الذي من الممكن أن يشاركه الرئيس حبكة كوابيس ليلته الماضية، من هو هذا الشخص المؤثر الذي يستحق لقب مستشار؟”.
كتب ماركيز بهذه الصيغة المراوغة من أجل تناول شخصية الديكتاتور الكولومبي مارينو أوسبينا، وبجانبه رجل من العامة هو “الحلاق”، وعقد المقارنات بينهما، وبين ما يدور في ذهن كلٍ منهما، مما يستدعي كتاباته الروائية التي توغلت عميقاً في كلا النموذجين، وقدمتهما في أوجه عدة، عبر استحضار السلطة كما يتخيلها الروائي، وكما أراد طوال رحلته الإبداعية أن يكشفها ويعري ضعفها.
أما عنوان الكتاب “فضيحة القرن”، فيأتي من عمل ماركيز في مرحلة من حياته مراسلاً في عدة بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا والمجر وفرنسا… الفضيحة التي يقصدها ماركيز حدثت في روما، وتناولها في مقالة أو أكثر تتعلق بمقتل فتاة عشرينية شابة من بيئة متواضعة، وجدت جثتها ملقاة على الشاطئ وهي شبه عارية. كتب “غابو” عدة مقالات عن الجريمة التي وقعت عام 1955، معتبراً أن موتها يشكل فضيحة للأعراف السياسية والديمقراطية الإيطالية المزعومة، لأن تلك الفتاة بحسب ما قيل، ارتبطت بعلاقة مشبوهة مع ابن أحد الوزراء، لذا تخلص منها بهذه الطريقة.
تشكل علاقة الكتابة بالواقع، جسراً يربط بين الروائي والصحافي. ذكر ماركيز في أحد حواراته أن كل ما كتبه في رواياته له جذر يرتبط بالواقع، لذا تُعتبر هذه المقالات نموذجاً لكفاءة السرد، وتكشف أن ماركيز كان راوياً رائعاً للتاريخ في رواياته وكما في مقالاته الصحافية، ويتمتع بأسلوب فريد، يدمج بين الثقل والخفة بحنكة نادرة، بين الدهاء الإبداعي والجرأة الصحافية، وبين الواقعية الأرضية والسحرية الآتية من عالم محجوب، لا يراه سواه.
*اندبندنت