ينسى زائر “متحف البراءة” في إسطنبول الزمن الواقعي، لأنه ينتقل إلى زمن آخر فور أن يدلف داخل المبنى العتيق المؤلف من خمسة طوابق، إذ تجمع زيارة هذا المتحف بين الفن والأدب، بحيث يتحرك رواد المكان بين الردهات والزوايا وفي أيديهم نسخ من رواية أورهان باموق “متحف البراءة”، التي كتبها ليربط بينها وبين قصة المتحف.
في إحدى زوايا الطابق الثالث، جلست ثلاث فتيات توحي هيئتهن بأنهن طالبات جامعيات بين أيديهن نسخة من الرواية باللغة التركية عليها علامات كثيرة باللونين الأحمر والأزرق، بهتت أوراقها من كثرة التقليب والقراءة، وكن يراجعن إحدى الصفحات ثم يبحثن في أشياء المتحف وأرقامه الدالة على محتوياته، ويقمن بالمقارنة مع ما ورد في الرواية.
غرفة النوم القديمة في المتحف (اندبندنت عربية)
رحلة الوصول للمتحف الواقع في منطقة “بييه أوغلو” لم تكن سهلة على الإطلاق، لأنه لا يقع قرب معلم بارز، أو في شارع رئيس بل في منعطفات وأزقة فرعية، فلا تساعد خرائط “غوغل” على تتبع خطوات بطل الرواية السيد “كمال بصمجي”، بل يلزم كثير من التوقف وسؤال المارة والعابرين وأصحاب المحال عن المكان، لأن معظم سكان المنطقة يجهلون وجود المتحف، ولم يكن على دراية به وبالرواية، سوى صاحب إحدى المكتبات، الذي أكد معرفته بحكاية المتحف حين تناول من أحد الرفوف الرواية وهو يقول مؤكداً بزهو: “نعم… نعم… إنها رواية السيد باموق”.
متحف الذكريات والرواية
لعل المعتاد في شأن المتاحف عبر العالم كله، أن تقام من أجل تخليد ذكرى شخص ما، له دور حضاري ومؤثر أو مساهمات إبداعية، فكرية، سياسية، عسكرية أو أن يقام متحف للأشياء، لعرضها على الجمهور، بسبب قدمها التاريخي ومراحل تطورها، مثل متاحف السيارات أو متاحف السجاد وسائر الأشياء.
وجوه وقصص (اندبندنت عربية)
أما “متحف البراءة”، الذي شيده أورهان باموق فيمكن القول، إنه أقيم من أجل عرض ذكريات مدينة إسطنبول، من خلال قصة حب بين بطلي رواية باموق كمال وفسون، التي تدور أحداثها بين 1975 و1984، بكل ما فيها من لحظات سعيدة ومأساوية، ارتضاها البطل لنفسه بلا مبرر واضح، سوى عشق غائر في القلب يستدعي كل عشاق التاريخ الخائبين، الذين استمدوا شهرتهم من انكساراتهم. ففي نظير دمار حياتهم العاطفية يتحقق وجودهم التاريخي المصبوغ بمأساة عبثية، لكن هنا نحن أمام قصة اختار صاحبها أن يبوح بها لأورهان باموق كي يسجلها، وبدوره اختار الكاتب أن يسردها بضمير المتكلم، في ما عدا الـ30 صفحة الأخيرة، حين ظهر أورهان باموق بصوته الخاص ليحكي عن لقائه مع كمال، وتفاصيل كتابة الرواية، ثم التداخل بين الصوتين في تخييل لا ينفي ولا يثبت، إن كانت القصة قد حدثت فعلاً، أم إن كل تفاصيلها العشقية هي وليدة مخيلة صاحب “الحياة الجديدة”، كمسوغ منه لقيام المتحف وربطه بالرواية.
من جو المتحف (اندبندنت عربية)
بطل الرواية، كمال، رجل أعمال ثري يستعد للزواج من سيبيل، وهي فتاة أرستقراطية تساويه في المكانة الاجتماعية، تنقلب حياته رأساً على عقب بعد لقائه بقريبة بعيدة، شابة جميلة جداً من فرع العائلة الفقير تدعى ” فسون”، يقع في هواها مدة شهر ونصف، يلتقيها يومياً في منزله ويقيم معها علاقة حميمة، ثم تقرر هي بتر العلاقة والاختفاء من حياته عقب حضور حفل خطوبته على “سيبيل”. انطلاقاً من هذا الحدث يقع البطل في كآبة تسبغ حياته بالاضطراب الكامل بعد فقده لفسون، وبحثه المحموم عنها في كل ضواحي إسطنبول وسؤاله المعارف المشتركين، لكن محاولاته تبوء بالفشل.
بعد مرور عام كامل ومعاناته من مرض العشق، تتخلى خطيبته عنه ويموت والده، يتلقى كمال رسالة من فسون تدعوه فيها للعشاء في بيت أسرتها. بعد تلك الدعوة يستمر كمال مدة ثمانية أعوام في التردد بشكل شبه يومي، على بيت حبيبته التي تزوجت من شاب بسيط يعمل في كتابة السيناريو وتعيش مع والديها، كما لو أنها لم تتزوج.
أشياء مسروقةدبندنت عربية)
أدوات وأشياء من عالم الرواية (أندبندنت عربية)
المحور الرئيس للرواية، الذي أدى لوجود المتحف أن كمال خلال الزيارات يقوم بسرقة شيء بسيط لمسته يد حبيبته، مشط، طبق، أعقاب سجائرها، حلية، دمية… وهكذا تتكون لديه مجموعات كبيرة من أشيائها التي ستكون المتحف لاحقاً، إلى جانب مقتنيات أخرى سيشتريها ليضمها إلى المتحف لأنها دالة على المرحلة الزمنية التي عاشها مع فسون، لنقرأ: “أشعر أنني أستطيع جمع مجموعتي في إطار قصتي، وأحلم بسعادة أنني بعرض حياتي. وعرض ما تبقى من فسون وقصتي في متحف، يمكن أن يكون درساً للجميع… في تلك الليلة أدركت ضرورة إعداد دليل يضم قصة أغراض متحفي غرضاً غرضاً… كل من الأشياء التي تبدو في ضوء القمر وكأنها في الفراغ، يشير إلى لحظة لا يمكن فصلها مثل ذرة أرسطو التي لا تقبل القسمة، أدرك أن الخط الذي يربط بين هذه الأشياء سيكون قصة… هذا يعني أن كاتباً يمكنه أن يكتب دليلاً متحفياً، كما لو أنه يكتب رواية، هكذا اتصلت بالسيد أورهان باموق ليروي عن لساني وبموافقتي، فكرت به لأنه من إحدى عائلات (نيشان طاش) التي فقدت ثروتها، ويمكنه أن يدرك خلفية قصتي بشكل جيد، وسمعت أنه يحب رواية القصص بشكل جاد”.
تاريخ إسطنبول
نساء وتاريخ (اندبندنت عربية)
بالتوازي مع التاريخ الشخصي لصاحب الحكاية الرئيسة كمال، يذكر باموق تاريخ مدينة إسطنبول من سنوات الخمسينيات وحتى عام 2000، إذ تغطي الرواية عقوداً طويلة حصلت فيها تغيرات كبرى في المدينة والعالم ككل. يحكي عن حضور التلفزيون وأثره الاجتماعي داخل الأسرة وزعزعته مكانة الراديو، وعن السينما التركية وأبطالها وبطلاتها. يذكر أيضاً التحولات السياسية والاضطرابات في تركيا، وفرض حظر التجوال.
زاوية في المتحف (اندبندنت عربية)
يلاحظ زائر المتحف وجود عبارات ملصقة على الحائط مأخوذة من رواية باموق، مثل: “ليعرف الجميع أنني عشت حياة سعيدة”، كما توجد فاترينة كاملة لعرض مسودة الرواية خلال كتابة باموق لها. والشيء المذهل الآخر في المتحف الموجود في الطابق الأرضي عند يمين المدخل، حائط كامل جمع فيه كمال أعقاب السجائر التي دخنتها فسون، ملصقة بشكل متجاور. توجد في المتحف أيضاً أشياء لا تخطر على بال أحد أن يجمعها، مثل علب أدوية، فرشاة أسنان، قلم أحمر شفاه، علب كبريت، فنجان قهوة مشروخ، سلة من القش، أزرار، رسائل ورقية، ممالح، مجسمات لأطعمة، جرائد، وكثير من الأشياء التي تؤلف ما بين الذاتي لقصة الحب، والتاريخي لتحولات مدينة إسطنبول. وضع أورهان باموق في المتحف أيضاً، مجسماً للجسد الإنساني في داخله قلب مكسور، للدلالة على ما يسببه حرمان العشق، من أذى ساحق في الجسد.
ثمة أسئلة تظل مطروحة بعد زيارة المتحف وقراءة الرواية: لمن تعود تلك الصور الشخصية الموجودة في المكان، إن لم يكن هناك شخص يدعى كمال، وحبيبته فسون؟ لمن تعود هذه الفساتين والأمشاط والأحذية والفناجين، وغيرها من الأشياء التي احتلت خمسة طوابق من المتحف، وعرضت في فاترينات زجاجية، تحت إضاءة صفراء خافتة؟
أراد باموق من خلال “متحف البراءة” إيهام القارئ بأن الرواية جزء من الحقيقة، والدليل هو وجود المتحف، ولذا لو أراد القارئ محاسبة باموق بمقياس الفن والمخيلة، فإن الرواية محملة بكثير من العثرات التي تجعل من قراءتها مهمة ثقيلة، بسبب البطء والتكرار، وغياب المنطق في الأحداث، والبناء الرتيب للشخصيات، لكن قراءة النص بمنطق تسجيل الحياة وتفاصيلها اليومية في إسطنبول، لكون الكاتب رام من خلال سيرة العشق أن ينقل سيرة المدينة، يبرر بعض الشيء، تجاوز الرواية ستمائة صفحة، وقيام متحف من أجلها. يقول:” قبل صدور رواية “متحف البراءة” اكتشفت إمكانية استنباط قصة بالنظر إلى مجموعة من الأشياء فقط، وإمكانية التفكير برواية… لم يكن المتحف هو الهدف الأول من روايتي، بل شرح التعقيد والحالة النفسية والثقافية والإنسانية التي نسميها عشقاً. وهذا ما يأتي بالسؤال المطروح كثيراً بعد نشر الرواية: “سيد أورهان، هل أنت كمال؟”، عائلة كمال وأصدقاؤه يشبهون عائلتي وأصدقائي، والأمكنة التي يعيش فيها ويذهب إليها، هي الأمكنة التي عشت فيها وذهبت إليها. وفيما بعد، كمال وأنا نبذنا من طبقتنا ومحيطنا، بمعنى أننا سقطنا خارج طبقتنا. هو بسبب عشقه لفسون، وأنا بسبب حبي للأدب، ووضعي السياسي. وكلانا ليس نادماً”.
*اندبندنت