لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟

0

ترجمة دلال نصر الله

قبل الاسترسال في تفصيل الإجابة المعقدة عن هذا السؤال، يحسن الاتفاق أولاً على تعريف الكتب الكلاسيكية، يذهب “إيتالو كالفينو” في مقالة نشرها عام “1981” بعنوان ” أيها الإيطاليون أحثكم على قراءة الكلاسيكيات” إلا أنَّ الكتب الكلاسيكية تحمل قواسم مشتركة، يمكن مقاربتها بمجموعة من النقاط، فهي الكتب التي يشير إليها معظم الناس بعبارة “أنا أعيد قراءة..” وليس “أنا أقرأ”.

من المعلوم لدى من يواظبون على القراءة، أن قراءة كتابٍ عظيمٍ في مرحلة النضج، يشعل في النفس بهجةً استثنائيةً ومتعةً عارمةً، تختلف بشكلٍ ملحوظ عن متعة قراءته في زمن الشباب، إذ إن زمن النضج يتيح الوقوف طويلاً عند العديد من التفاصيل والتأويلات، التي تمنح للعمل هويته المميزة، وهي ثروة لمن قرؤوها وعشقوها، حيث إنها تحوي قوة كامنة تبقى في نفوسنا وذاكرتنا، وإن نسينا متنها، كونها تمتلك وقعاً يميزها عن سواها، سواء بقيت محفوظةً أم تماهت في تلافيف الذاكرة، كما يتخفى اللاوعي الفردي أو الجمعي.

وهي تكشف عن قيم ومعانٍ جديدةٍ، كلما أعيدت قراءتها، وكأنه كتاب لا ينضب محتواه، ولهذا تجدها غنية التأثر في كتب سبقتها، وشديدة التأثير في كتب تلتها، فكم من كتاب تأثر أو استشهد أو بنى رؤيته تأسيساً على “آلام فارتر” أو “إلياذة هوميروس” أو “ملحمة جلجامش” وغيرهم كثير.

كما أن الكتاب الكلاسيكي غالباً ما يثير زوبعة من النقاد والمقرظين، وربما تنقسم المذاهب الأدبية أو الفلسفية في موقفها تجاهه، وهي تعمل في أذهاننا عبر وقائعنا اليومية المأزومة والصاخبة، كما تعمل الخلفية الموسيقية.

يستعرض “إيتالو كالفينو” في كتابه الفريد “لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟” مجموعة مهمة من الأعمال الكلاسيكية العالمية، بدءاً من “الأوديسة لهوميروس” وقصائد العودة إلى طروادة، مروراً بـ “أناباسيس للمؤرخ اليوناني زينوفون” الذي يرجع تاريخ كتابته إلى عام 370 قبل الميلاد، كما يتوقف عند الأعمال المهمة لأشهر شاعر ملحمي رومانسي في الأدب الفارسي، الشاعر “نظامي الكنجوي 1209 ” وعمله “الأميرات السبع” وهو العمل الذي ينتمي إلى مذهب تعدد الزوجات بدل مذهب الزوجة الواحدة، وهو عبارة عن قصص سبع متخيلة، تحوي كثيرا من الغموض والدلالات الرمزية على نمط حكايات ألف ليلة وليلة.

أما مغامرات “روبنسون كروزو” التي كتبها “دانييل ديفو 1719” والتي شكلت أساساً تخيلياً للعديد من الكتاب الآخرين، وكتاب السيناريو ومخرجي الأفلام، فقد كانت وما تزال جزءا من البنية الذهنية لكثيرين منا، ممن أحبوا تلك المغامرات الشيقة التي ينتصر فيها الإنسان أخيراً، وهي بلا شك تحيلنا إلى كاتبنا الأندلسي “ابن طفيل” في رائعته الشهيرة “حي بن يقظان”، ويجمع بينها جميعا تمجيد الإنسان الفرد وقدرته على النجاة والنجاح والوصول إلى الحقيقة.

يستعرض الكتاب برؤيةٍ نقديةٍ وتأويليةٍ غنية، عدداً كبيراً من الأعمال التي شكلت خلفية الوعي الثقافي، لجيل من المثقفين الغربيين، كان كالفينو واحداً منهم، أمثال جاليلو جاليلي وسافينين دو سيرانو ودانييل ديفو وديني ديدرو وبلزاك وفولتير وتشارلز ديكينز وليو تولوستوي ومارك توين وغيرهم كثير، ممن ساهمت أعمال الترجمة إلى العربية بتعريفنا إلى عوالمهم التي شكلت بشكلٍ ما، جزءا من تكويننا النفسي والثقافي.

وتبقى تلك الأعمال الكلاسيكية بتنوعها، وتعدد موضوعاتها وغناها الفلسفي، وجمالها اللغوي الذي نفتقده في معظم كتابات عصرنا الحديث، تبقى المعلم الأساسي في الثقافة المشتركة، التي نهل منها الشطر الأكبر من الكتاب الناجحين، ويشكل الأدب الكلاسيكي عند سائر الأمم، الحركة الريادية التي أسست لأنماط متقدمة من التفكير والمحاكمات والتفسير والتأويل، والأمثال السائرة بيننا إلى يومنا هذا، كما شكلت البنية الأساسية للمدارس التحليلية في علم النفس والأنثروبولوجيا، كونها حاملاً لجملة تفاصيل تلك الأزمان التي كتبت فيها، كما أنها أعطتنا تصورات أقرب ما تكون إلى الدقة عن تلك الطبقة الخاصة من المثقفين والباحثين الرواد، حيث كانت الكتابة في معظمها حكراً عليهم، فلم يكن ذلك الزمن حتى القريب منه يتيح للعامة المغامرة بدخول هذا المضمار الوعر، وليس بعيداً عنا غبار المعارك الأدبية الضارية، التي كانت تدور على صفحات الجرائد المصرية والسورية، في أربعينات القرن الماضي، حين يتجرأ شاب جديد على تقحم تلك المفاوز والميادين، التي حرص روادها كل الحرص على ألا يدخلها إلا كل ذي حظ عظيم.

يبقى الأمر الجديد والمبهج للبعض، بخلاف الكتاب والناشرين، أن الشطر الأكبر من الأعمال والكتب والروايات الكلاسيكية، التي كانت في عهدٍ مضى حكراً على نخب ثرية ومثقفةٍ، أصبحت اليوم مشاعاً مطلقاً ومتاحاً لكل من يريد، بفعل طغيان القرصنة والإتاحة الإلكترونية، وقد غدا بمكنة أي مهتمٍ، أن يجد مئات آلاف الكتب الكلاسيكية والحديثة، عبر الفضاء السيبراني بنقرة أصبع. بدل تجشمه عناء الذهاب للمكتبات ودفع ما يملك من مدخرات مالية، قد يكون عاجزاً عن توفيرها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • إيتالو كالفينو. “1923-1985”

صحفي وناقد وروائي ومترجم إيطالي ولد في كوبا من أشهر أعماله “ثلاثية أسلافنا” و”الطريق إلى عش العناكب”

لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي دراسة عن دار المدى 2021

*تلفزيون سوريا