عبد الرحمن حلاق، كاتب وإعلامي سوري من إدلب، مقيم في الكويت،صدر له مجموعة قصصية وروايتان.
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق الملف
قبيل المساء في يوم مضى من عام 1977، كنا مجموعة شباب تتراوح أعمارنا بين (16 -20) عاماً نتمشى في شوارع سراقب نتصارع بالكلمات ويحاول كل منا أن يُقنع الباقين بوجهة نظره الفكرية أو السياسية أو الأدبية، تجمعنا عدة أحزاب سرية. وكانت المعارك تنتهي دوماً بسهرة طرنيب عامرة … كنّا ذات يوم مضى في مدينة اسمها سراقب.
على مدى نصف قرن تم تأطير المحافظة في صورة نمطية ساذجة، تظهر أبناء المحافظة في صورة المتخلف فكرياً، المتشدد دينياً، اللواطي الذي يستمتع بالمؤخرات، وعملت أجهزة المخابرات على ترويج القصص والطرائف والنكت التي تصب ضمن هذا الإطار في حالة من الترسيخ الدائم لهذه الصورة حتى باتت في أذهان معظم السوريين، وأسهم الكثير من السوريين البسطاء والسذج والمثقفين أحياناً في استمرارية تداول هذه الصورة، إن بوعي أو بغير وعي، إلى أن جاءت الثورة التي فاجأت النخبة المثقفة قبل غيرها، فأذهلتهم لافتات كفرنبل التي تخاطب العالم بوعي متقدم وراق وباللغتين العربية والإنكليزية، وكذلك فعلت جداريات سراقب، برسوميات إبداعية ورؤية فكرية واضحة، وأيضاً قدمت مظاهرات المحافظة القيمَ ذاتها بشكل عام. ووجد أصحاب الصورة النمطية أنفسهم أمام حركة تُظهر عكس الصورة المستقرة في أذهانهم، أما صانعو الصورة أنفسهم (النظام ومخابراته) فقد سعوا بكل ما يمتلكون من قوة تدميرية إلى نسف كل من يسعى إلى تكذيبهم.
لماذا إدلب؟
يستطيع المتتبع لوقائع الأحداث القول إن فرع حزب البعث في إدلب كان آخر فرع في سوريا يرضخ لسلطة الأسد، إذ لم يعترف بانقلابه إلا بعد مناورات كثيرة لعبها الرفاق على بعضهم البعض في حينه، لكننا ببساطة شديدة نستطيع القول في الجواب عن السؤال السابق: لأن حافظ أسد أول رئيس في العصر الحديث يتلقى صفعة بحذاء على وجهه أثناء إلقاء كلمته أمام جماهير المحافظة في زيارته اليتيمة إلى مدينة إدلب سنة 1971، كان عبدالله الأحمر إلى جانبه يومئذ، وهو من منع الحذاء من الوصول إلى وجه الرئيس. ولم تمض بضع سنوات أخرى على الحادثة حتى ألقى عليه أحد أبناء “كفرنبل” قنبلة في محاولة اغتيال كادت أن تودي بحياته، وإذا أردنا البحث أكثر لاستطعنا أن نستعيد أحداث مظاهرة سنة 1974 حدثت في إدلب احتجاجاً على غلاء الخبز.
فإذا كانت الحادثة الأولى (الضرب بالحذاء) قد تركت في نفس حافظ أسد ندبة لا تزول وعقدة لا فكاك لها ولا يمكن إخفاؤها، وكان من أولى نتائجها تحويل الخط الدولي بين دمشق وحلب والذي كان من المفترض أن يمرّ في إدلب المدينة ليبتعد عنها شرقاً مسافة ثلاث عشرة كيلومتراً ويعزلها اقتصادياً، فإن الحادثة الثانية (محاولة الاغتيال) قد أسست لحالة قمع تام لأي معارضة يمينية كانت أو يسارية بحيث تتصحر البلاد سياسياً كما جرى في مطلع الثمانينات. وتمّ بعد ذلك التعتيم الشامل على كل ما يحدث في المحافظة حتى أن التاريخ يذكر مجازر النظام في حلب وحماه ويتغافل عن مجازره في إدلب وأريحا وجسر الشغور، ولم يقتصر الأمر على الحالة السياسية أو الاقتصادية، بل طاول التعتيم الحالة الثقافية برمتها.
لم تكن صورةً حسنةً من وجهة نظر النظام أن يخرج مجموعة من الشباب في سراقب في مظاهرة يحملون فيها لافتات واضحة تقول (أنا كردي،ـ أنا مسيحي، أنا علوي، أنا درزي، أنا اسماعيلي) تلخصها لافتة تقول (أنا سوري)، وعندما بدأت لافتات كفرنبل بالظهور بدأ بعض الرماديين بمحاولة النيل من هذه البلدة (المتخلفة) لكنهم صمتوا بمجرد علمهم أن هذه البلدة الصغيرة تحوي أكثر من مئتي شهادة عليا، كذلك لم يعرف أياً منهم أن الروائي عبد العزيز الموسى الحائز على جائزة نجيب محفوظ هو ابن هذه البلدة، وهو المهمش مرتين الأولى لأنه ابن المحافظة والثانية بسبب آرائه الجريئة، كان من الممكن لصحافة النظام آنذاك أن تحتفل بفوزه لكنها انشغلت بالاحتفال بمن جاء بعده بالترتيب (حسن حميد) المقرب جداً من علي عقلة عرسان المفروض قسراً على اتحاد الكتاب العرب لأكثر من ربع قرن مضى.
وإذا عدنا في الذاكرة قليلاً إلى الوراء، واستحضرنا شيخ الأدب الساخر حسيب كيالي لأدركنا قصدية التهميش، إذ بقي هذا الأديب الكبير خارج اهتمامات السلطة ومثقفيها إلى أن توفي سنة 1993، ومرّ خبر وفاته في حينها كأي خبر اعتيادي، وبقي طيّ التهميش إلى أن أصبح رياض نعسان آغا وزيراً للثقافة، وبسبب قربه الشديد من بشار أسد استطاع أن يُذكّر النخبة المثقفة به، ويعيد طباعة أعماله ضمن بدعة احتفالية خاصة عُرفت في حينها باسم احتفالية (المدن المنسية)، وإذا كان شيخ الأدب الساخر قد استطاع أن يجد لنفسه موطئ قدم بين الأعلام الكبار قبل وصول البعث وأمينه العام إلى السلطة فإن مبدعين كثر من أبناء المحافظة قد جرى طمس أسمائهم في الداخل السوري رغم شهرتهم النوعية في الخارج، ويأتي في مقدمتهم الفنان التشكيلي عبد القادر النائب ابن مدينة أريحا.
لم يكن التهميش -بالطبع- علنياً، وغالباً كان يتم عبر أسلوب المنع، فالمخرج السينمائي منير فنري لم يستطع استكمال فيلمه عن الشمال السوري بسبب القصور المقصود في الدعم المادي من قبل المؤسسة العامة للسينما، وكاتب هذه السطور لم يُمنح الموافقة على سيناريو (جبل السماق) الذي يحكي بطولات ثورة الشمال ضد الاحتلال الفرنسي، بحجة أن التلفزيون السوري أنتج مسلسلاً عن نفس الفترة الزمنية. ولم تتوقف طرق التهميش عند هذا الأسلوب بل قد يصل الأمر إلى التهديد المبطن، ولا أنس يوم زارني رئيس فرع إدلب لاتحاد الكتاب العرب سابقاً (م. ق) بعد أن قرأ روايتي الأولى قلاع ضامرة 2007، ليمنحني نصيحة لوجه الله بألا أُهدي نسخة من الرواية للشاعر (م. خ) مخافة أن يكتب تقريراً ناعماً لفرع الأمن فيلحقني أذى ما. أجبته يومها بأني أعطيت الشاعر نسخة قبل سنة فإن لحقني أذى فمن غيره. في الوقت ذاته كان بعض الأدباء في مقاهي حلب يتهامسون حول روايتي بأنها ما كانت لتطبع لولا وساطة صاحب دار الحوار كونه المستفيد الأول مادياً منها. وقد أسرّ لي أحدهم بخوفه من الكتابة عنها، ولولا خوفي أنا عليه لذكرت الأحرف الأولى من اسمه.
ضمن هذه الأطر الأمنية كان التهميش والاستبعاد يجريان على قدم وساق، حتى أن أحد أساتذة الجامعة في جامعة تشرين أبدى ذهوله ودهشته عندما علم أن ثمة أنثى من محافظة إدلب تكتب الرواية، كان ذلك في 2010 عندما دخلت (عين الشمس) للروائية السورية إبتسام تريسي القائمة الطويلة لجائزة البوكر، وعندما أرادت إحدى مذيعات التلفزيون أن تجري حواراً معها أخبرتها بأنها مصدومة بالفعل كيف لم يسمع بها أحد بعد ثلاث مجموعات قصصية وأربع روايات. المذيعة لم تستوعب الأمر بالتأكيد لأنها لا تعلم أن هذه الروائية هي ذاتها المدرسة التي فصلت من التدريس بسبب رأي لها في الرفيقة المظلية ألماظة خليل، كانت يومئذ مُدرّسة خارج الملاك وعندما تقدمت لمسابقة تعيين في وزارة التربية رُفضت أيضاً بسبب انتماء أبناء عمها لجماعة الأخوان، وربما لمواقف أبيها الذي خلّدت كفاحه فيما بعد بالجزء الثاني من جبل السماق.
أما عن الوجه المشرق الحقيقي لهذه المحافظة فقد تجلى واضحاً جلياً في المواقف الوطنية والرؤى الفكرية في بدايات الثورة السورية لأبناء وبنات المحافظة ويكفي أن نذكر بالمظاهرة النسائية الضخمة التي قامت بها نساء (معرة النعمان) ضد جبهة النصرة عندما استفحل توحش هذا الفصيل في القضاء على كل ما يمتّ للثورة السورية.
لقد شاءت أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية أن تجعل من هذه المحافظة بؤرة لكل أشكال التطرف الديني، وذلك بأضخم عملية دعم لنظام الأسد إذ كادت هذه المحافظة أن تُسقط النظام الذي يحاول العالم اليوم إعادة تدويره، وبسواعد أبنائها فقط وبما تغتنمه من الجيش العربي السوري الذي انقسم برضوخه للسيادتين الإيرانية والروسية، لذلك حقّ عليها القول من الإدارة الأمريكية التي شاءت تعفين الوضع ولم تسمح بأي انتصار وأعلن أكثر من متحدث في الإدارة أن إدلب ستكون المحرقة، فضخوا فيها كل حثالات التشدد الديني ووجهوا إليها كل الباصات الخضر، وقضوا على كل أمل مشرق لدى أبنائها، والفصائل الإسلامية التي ادعت نصرة الشعب السوري اتضح أنها مصنعة بشكل أو بآخر للقضاء على ما أنجزته الثورة في البدايات، وماتزال سجون جبهة النصرة على سبيل المثال تغص بشباب لم يستطع النظام اعتقالهم فغيبتهم في سجونها.
اليوم نستطيع القول بعد كل هذه المجازر بحق محافظة إدلب أننا لن نرى على أرض المحافظة في المستقبل القريب حلقات الدبكة المشتركة بين الشباب والصبايا، فقد أتمّ الإرهاب فكره. وغُيّب المتنورون، لن نرى كتاباً وأدباء لأن الأطفال في المخيمات ينتظرون السلال الغذائية ويمرحون في الطين، في ظل غياب التعليم، لن نرى لوحات فنية تشكيلية لأن الرسم حرام، ولن نرى مسرحاً لأن التشخيص حرام، ستغيب الفنون والآداب طويلاً وتغيب العلوم طويلاً ويبقى الأمل منعقداً على الأجيال القادمة عندما يعود المهجرون قسرياً إلى بيوتهم، ومثلما استطاعت مدن المحافظة أن تنجو من مرحلة الثمانينات بكل ما فيها من قهر وكبت وحصار، ستنجو كذلك من هذا الموات وسيخرج من أصلاب أبنائها الكثير من المبدعين والمبدعات.