بعد نشر 5 كتب تتناول الشأن الفلسفي والثقافي العام، يواصل الكاتب الصحافي العراقي علي حسين مشروعه التنويري التثقيفي العام، بنشره كتاب «أحفاد سقراط: قصة الغرام بالفلسفة من أرسطو إلى ميرلو بونتي». وربما لو دققنا النظر في عناوين كتب علي حسين المنشورة سابقاً، وهي: «في صحبة الكتب»، «دعونا نتفلسف»، «غوايات القراءة»، «سؤال الحب»، «على مائدة كورونا»، ثم قارنا هذه العناوين مع عنوان كتابه الأحدث، فلن يكون عسيراً علينا وضع عنوانٍ عام للجهد المعرفي الذي سعى علي حسين لبلوغه (ولم يزل يفعل)، وهو تيسير سبل الولوج إلى العناوين العامة للموضوعات الثقافية التي تساهم في تنوير عموم القراء، وتثوير ذائقتهم الفلسفية والمعرفية، وتحبيب فعل القراءة الميسرة (لكن الرصينة في الوقت ذاته) لأجيالٍ باتت نهشاً لمعطيات الثقافة الرقمية التي يمكن أن تكون (لو أحسن استغلالها) عامل ارتقاء بالثقافة، لكنها -للأسف- صارت منصات ترويج ثقافة إعلانية تخاطب مكامن الرخاوة الثقافية في نفوس أجيال لم تعتد الرصانة. إن هذه الرخاوة الثقافية هي بعض مفاعيل عصر «التفاهة»، كما يسميها الكاتب الكندي آلان دونو، وليس من سبيل أمامنا سوى محاولة الحفر في صخرة الواقع حتى يلين وينكشف الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
علي حسين كاتبٌ مقراء (لاحظوا القصدية في استخدام صيغة اسم الآلة على زنة «مفعال»)، يعج موقعه الفيسبوكي بقراءات يومية، ومقتبسات من كتب قديمة وحديثة، فضلاً عن قراءات ومراجعات وسِيَر متنوعة حول موضوعات يغلب عليها الطابع الفلسفي، وإن كانت تتناول أحياناً موضوعات وشخوصاً خارج نطاق الفلسفة (الرواية والعلم وتاريخ الأفكار).
خصيصتان يمكن أن يخرج بهما القارئ عقب إنهائه قراءة كل كتاب لعلي حسين: الخصيصة الأولى، قد يرى بعض القرّاء -وهم محقون في رؤيتهم- أن كتابات على حسين تترسم خطى الكتابة الفلسفية التي يكتب بها الكاتب النرويجي جوستين غاردير، وهو -كما نعرف- مَن كتب الرواية المبهرة «عالم صوفي» التي نالت مقروئية مليونية، وتُرجِمت إلى معظم لغات العالم. وجه الشبه هنا واضحٌ: كتابة الفلسفة في سياق مسرودات حكائية لذيذة، لكن يبقى الفرق قائماً بين الكاتبين، إذ يميلُ غاردير إلى توظيف بعض آليات السرد الروائي (وليس التاريخي) في عرض المادة الفلسفية، في الوقت الذي يُبقي فيه علي حسين على طبيعة المادة الفلسفية وتفصيلاتها التاريخية ودقة تواريخها، لكنه يتلاعب بتقنية الربط بين الوقائع، والترحل بين الأزمنة والأمكنة؛ الأمر الذي يخلق لدى القارئ دافعية لمواصلة القراءة بالكيفية ذاتها التي تنتاب المرء عندما ينغمس في قراءة رواية منعشة. هذه الاستراتيجية التي يتبعها علي حسين تدفع القارئ دفعاً للتفكر في تخوم الفكر البشري العابرة لمحدوديات الزمان والمكان والبيئة الثقافية والتمايزات العِرقية والقومية.
أما الخصيصة الثانية، فما زالت الموائل الجامعية والأكاديمية في بيئتنا العربية (في حقل المباحث الفلسفية والإنسانية بعامة) منكفئة في إطار لغة مقعرة لا تجيد وسائل وأساليب مخاطبة القارئ العام بطريقة تنجح في تحقيق موازنة شاقة بين طرفَي معادلة: الإمساك بشغف القارئ وإثارة مكامن الاستزادة من مباهج القراءة لديه، وفي الوقت ذاته الحفاظ على رصانة المادة المكتوبة، وعدم الانزلاق في مهاوي التبسط المخل والرثاثة الضحلة. وأرى أن علي حسين نجح في الإمساك الحاذق بطرفَي هذه المعادلة.
يكتب المؤلف في بداية كتابه ما يؤكد طبيعة مهمته التي انتدب نفسه لتحقيقها في هذا الكتاب، فيقول: «إن كتابي هذا هو حصيلة شغف بالفلسفة، وأدين بالفضل فيه إلى مئات الكتب التي قرأتها، وإلى عشرات كبار الكتاب الذين أخذوا بيدي في هذا الطريق، والتي تجعل من قراءة الفلسفة متعة، وتحولها إلى حكايات ونظريات وأحاديث ومعارك كان الهدف منها نشر المعرفة، وإرساء قيم العدالة، وإشاعة المحبة، وإعلاء شأن العقل».
وقد كتب المؤلف مقدمة لكتابه اختار لها عنواناً مميزاً: «أنا أندهش؛ إذن أنا أتفلسف». وليس عسيراً على القارئ بالطبع معرفة كيف تلاعب المؤلف بالمواضعة الديكارتية ذائعة الصيت، وحورها لتكون دلالة رمزية عن تلازم فعل التفكر الفلسفي بالدهشة الممتدة. وينطلق المؤلف بعد مقدمته في رحلته الفلسفية التي سيطالع فيها القارئ حشداً من أسماء الفلاسفة الذين ساهموا في تشكيل العقل الحديث، ولن يخفى على القارئ النكهة «الدرامية» التي ارتأى المؤلف أن يخلعها على عناوين فصول الكتاب.
سيكون أمراً طبيعياً للغاية أن يبدأ المؤلف بسقراط، أول الفلاسفة، الرجل الذي «أدخل الفلسفة إلى غرفة النوم». يوصفُ سقراط في العادة بأنه هو مَن أراد للفلسفة أن تهبط من السماء إلى الأرض، وأن تتناول الجوانب الإنسانية، بدلاً من انكفائها في عالم الميثولوجيات والآلهة، وأن يتفكر الناس في أنفسهم، بعد أن يستيقظوا من سباتهم المقيم الذي طال أمده، وأن يتعزز الشك والتساؤل، مقابل اليقينية وروح الخذلان والانكفاء والقبول بالراهن السائد. وثمة فصلٌ تالٍ يحكي لنا فيه المؤلف عن سقراط وهو في مجلس الخليفة العباسي المعتصم.
ويواصل المؤلف بعد الجد الأكبر سقراط رحلته مع أحفاده الكثر، فيتناول كلاً من: أرسطو الذي يجعلنا سعداء، وكانْت في زمن «باتمان»، وهيغل ومعطفه الذي أنقذ الفلسفة من الضياع، وسبينوزا (الذي يصفه المؤلف بصديقه المعجزة)، وكيركيغارد (كبير الوجوديين) ومعركة حول قبره، وديكارت وهو يطارد أمير ميكيافيللي، ومونتاني والبحث عن قيمة الحياة، ومونتسكيو وجهوده الحثيثة في إصلاح الوضع البشري، وجون لوك ومحاولة وضع أسس الدولة المدنية الحديثة، وفيتغنشتاين وحيرة الفلسفة.
كانت هذه عيناتٍ تقصدت إيرادها بعناوينها الأصلية في الكتاب لكي يشعر القارئ بدسامة المادة الفلسفية، فضلاً عن تناولها جوانب متعددة في المجتمع البشري. ثم يمضي المؤلف في تناول فلاسفة آخرين: نيتشه، وسارتر، ورولان بارت، وكارل بوبر، وغاستون باشلار، وتوماس كون، وجون رولز، وميرلو بونتي، فضلاً عن آخرين.
ويختم المؤلف كتابه بفصل عنوانه «الطريق إلى قراءة الفلسفة»، وهو فصلٌ وجدته مهماً، فضلاً عن كونه ممتعاً، إذ يقدم فيه المؤلف للقارئ ما يرقى إلى أن يكون «خريطة طريق» لقراءات فلسفية منتخبة تعينه على تلمس طريقه في غابة الفلسفة.
كتاب «أحفاد سقراط» إضافة مهمة لمكتبتنا الفلسفية العربية، وأحسب أنه جاء متوافقاً مع زمنٍ صار فيه العرب أمام مفترق طرق يوجب عليهم إعلاء شأن التفكير الفلسفي الناقد، ومساءلة المواضعات اليقينية، وترسيخ عناصر الحداثة والعقلنة والعلم في العقل العربي المعاصر.
*الشرق الأوسط