محمد قنطار
كاتب سوري
مجلة أوراق العدد 12
الملف
لا زلت استذكر الأيام الأولى للثورة السورية، وما قبلها ببضعة أشهر.
كنت قد بدأت ألاحظ أن ملامح الناس بدأت تتغيّر، نظراتهم لبعضهم البعض وإلى ما حولهم باتت مرتابةً وحائرة، ربما فرحة، أو متلهفة بانتظار شيءٍ ما، أو ربما كنت واهماً، وإنما هي بواعث الأمل في داخلي التي جعلتني أرى الأشياء بشكلٍ مختلف، لم أكن متيقّناً ولكن الأكيد أن هنالك شيءٌ قد بدأ يتغيّر إلى الأبد.
لا زلت أتذكر أول مظاهرةٍ قمنا بها بساحة كلية الآداب بجامعة حلب كان ذلك بتاريخ 13-4-2011، اتخذ القرار قبل أيامٍ في غرفة كانت تحمل رقم 332 بالوحدة السكنية الثامنة بالمدينة الجامعية في مدينة حلب.
كنّا مجموعةً صغيرةً جداً، كان الموقف مهيباً لحظة تحلّقنا حول بعضنا البعض وسط ساحة الكلّية لنبدأ بالمظاهرة، ولا أبالغ مطلقاً ولا أجد حرجاً بالوقت ذاته لأخبركم أن وجوهنا جميعاً كانت شاحبةً نتلفّت حولنا وكأننا نودّع العالم، وخصوصاً أن معظم الطلاب ممكن كانوا متواجدين في الساحة والحدائق المحيطة بها، يعلمون، أو كانوا قد أتوا لأنهم يعلمون، أن هنالك مظاهرةً مناهضةً للنظام ستنطلق بهذه اللحظة في ساحة الكلية، فزادنا وجود كل تلك الحشود إرباكاً، لكن لم يعد هنالك من مجال للتراجع، فصرنا ننمّي الأمل في نفوسنا، أنّ لعلهم جاؤوا للمشاركة فيما نحن عازمون عليه، وليس عكس ذلك.
كان عدد كبير منهم قد افترشوا عشب الحدائق المحيطة بالساحة، وآخرين كانوا يتظاهرون أنهم يتجوّلون داخلها بشكلٍ عفوي، يمكن لأي شخص حينها أن يرى بعينه المجردة في ذلك الموقف، الأدرينالين وهو يتصاعد من أجساد الطلاب المتواجدين بالمكان، وكأنه بخار حار يتصاعد من أجساد يلهبها الحماس والفضول والخوف وربما الرغبة بالمشاركة فيما لو سارت الأمور على ما يرام.
حينها كانت أبصار الجميع شاخصة، جميع من كانوا موجودين بالساحة، بمن فيهم نحن، تلك المجموعة الصغيرة التي ستطلق المظاهرة بعد لحظات، نتلّفت بريبةٍ حولنا وكأنّنا سقطنا بالفراغ، نحاول البحث عن شيء نتمسك به ليُعيدَ لنا توازننا الذي فقدناه نتيجة شعورٍ غريبٍ لم يكن أحد قادراً على تفسيره.
“مظاهرة”!!
حتى الكلمة ذاتها كانت غريبة، غريبة فعلاً على ثقافتنا وتراثنا وأدبياتنا وشعرنا وموروثنا وتراثنا الديني والاجتماعي منذ عقود طويلة بالفعل.
لم أسمع تلك الكلمة بحياتي كلها بشكلٍ مباشر، حتى ما قبل عزمنا على التظاهر ببضعة أيامٍ فقط، كنا حينما نردد تلك الكلمة فيما بيننا عندما كنا بصدد “الدعوة السرية” للمقربين من أصدقائنا لمشاركتنا بالتظاهر، نرددها بشيءٍ من الارتباك الذي يشوبه ذات القدر العظيم من الفرح والخوف.
لحظة تحلّقنا في تلك الساحة لنطلق تلك التظاهرة، وقفنا لدقائق -لا أعرف لماذا- ننظر لبعضنا البعض.
كان السؤال الجوهري الذي بدأ يجول ضمنياً في أذهاننا في لحظة الحقيقة تلك، هو كيف نتظاهر؟!
ماذا يفعل المتظاهرون؟ ثم ماذا سنقول؟ أين سنتجه؟ كيف سنختتم تلك المظاهرة؟
كانت الإجابات حول كل تلك الأسئلة جاهزةً ومدروسةً قبل المظاهرة بأيام، كنا نعيد الخطة فيما بيننا وبأذهاننا كمن يذاكر درساً ويستعد لامتحانٍ نهائيٍ سيحدد مصيره ومصير من سيلحق به لاحقاً لأجيال طويلة قادمة، فلا مجال للرسوب ولا مجال للنسيان أو فقدان التركيز.
ولكن رهبة الامتحان كانت كأشد ما يمكن أن يشعر به أي شخص يخضع لامتحان بالمطلق، حيث تبخّرت الإجابات لدقائق لحظة تجمعنا تلك.
كان أول هتافٍ أطلقناه، هو “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.
لا أدري حينها بتلك اللحظة بالتحديد فيما إذا كنا قد أطلقنا ذلك الهتاف، لنوصل فعلاً رسالة لمن حولنا وللسوريين والعالم بأننا نؤكد على وحدتنا الوطنية، أم أننا أطلقنا ذلك الهتاف لنطمئن بعضنا البعض، ولنطمئن من حولنا، برسالةٍ “دفاعية” مفادها: أننا لسنا ضدكم، فلا تكونوا ضدنا، وأننا ولو بدونا مختلفين في عيونكم أنتم يا من اعتادت عيونكم على رؤية الحياة بلون واحد، لكننا لا زلنا منكم، مع فارقٍ بسيطٍ هو أننا نريد أن نعبّر بشكل علني على أننا نريد مستقبلاً أفضل.
انطلقت المظاهرة، وبدأ مئات الطلاب بالتحشّد حولنا، لكننا ورغم ذلك كنا وحدنا من يهتف، وكانت الحشود حولنا فقط تتدافع باتجاهنا حيث بتنا نشكل المركز، كما الفراشات التي لا تعرف سبب اندفاعها التلقائي لمصدر النور حتى لو احترقت به، وكأن النور يغريها فلا تستطيع مقاومته، حتى لو كان التصاقها به سيسبب هلاكها، كانت الحشود فقط تتدافع باتجاهنا ويضغطوننا أكثر فأكثر باتجاه المركز، لا أدري سبب ذلك التدافع باتجاهنا من كل الاتجاهات لدرجة أننا لم نستطع التحرك ولا خطوة بأي اتجاه إلا بعد دقائق، استطعنا خلالها، أن نشق طريقاً باتجاه باب الكلية الذي أغلقه حرس الجامعة وعناصر الأمن في وجوهنا لمنعنا من الخروج.
ربما كان ذلك التدافع غريزياً بدافع الخوف والحماية، وربما كان الفضول والرغبة العارمة بالانضمام التي تحول دونها الجرأة على فعل ذلك.
عندما بدأنا الهتاف، شعرت أنني أهيم بالفضاء، رأيت الخوف شاخصاً أمامي، رأيته بأم عيني، صرخت بوجهه، انتشيت بصراخي بوجهه حتى تلاشى تماماً، بدأ فرحٌ غامر يتملّكني، شعرت بأنني أرغب بشدة بالرقص، والقفز، والصراخ.
شعرت أنني أصبحت مرئياً، لم يكن مهماً أبداً بصراحةٍ ماذا نهتف، والحقيقة أنني لا أذكر سوى أننا هتفنا “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، لا أدري ما هي الهتافات التالية التي رددناها، ولم أكن أكترث أصلاً.
كانت الرغبة بالصراخ بالنسبة لي أشد بكثيرٍ من الرغبة في إيصال أي رسالة لأي أحد، شعرت أنني بحاجة للصراخ، أحببت صوتي حينها كثيراً، وبعبارةٍ أدق، لا أبالغ أنني أدركت حينها، أنني تفاجأت بصوتي الذي شعرت أنني بدأت أسمعه للمرة الأولى بحياتي كلها.
كنت مدركاً بأن السلطة لم تكشر عن أنيابها بوجه الشعب فقط لأنه كان يهتف “الشعب السوري واحد” أو “حرية” أو “الشعب السوري ما بينذل”، أقصد أنه ليست تلك العبارات بذاتها هي من أثارت كل بواعث التوحش لدى السلطة، بقدر ما كان صوت الناس، بغض النظر عما يقولون، هو ما يرعب السلطة ويثير جنونها، تلك السلطة التي لم تعتد سماع صوتهم منذ استيلائها على دولتهم، وهيمنتها على مجتمعهم.
بدأت نشوتي تتبدد شيئاً فشيئاً كلما عَلتْ أصواتٌ، بدأت خافتةً تأتي وكأنها من وادٍ سحيق، لتعلو فتطرق الأسماع بصخبٍ أكبر.
أصواتٌ لطالما سمعناها، تهتف بحياة المجرم وتفديه وتفدي نظامه، كانت وجوههم قبيحة بكل بساطة.
كانوا يهتفون للنظام بمنتهى الشراسة، بحقدٍ لم أره متجلياً على وجه شخص ما بحياتي كلها مثلما رأيته متجلياً في وجوههم.
كيف تفجّر كل ذلك الحقد فجأةً؟ كيف يستطيع شخص أن يظهر على وجهه ذلك القدر من الشراسة والاستكلاب؟ كنت مذهولاً تماماً، لكنهم بدوا مخيفين بالفعل.
انقضت التظاهرة، لألتقي مع مجموعةٍ من الأصدقاء ممن شاركوا بها، في منزل أحدهم، ضحكنا كما لم نفعل من قبل، ربما -وهو ما أرجحه- كان الفرح بنجاتنا كما لم نكن نتوقع، جلسنا ساعاتٍ طويلةٍ نستذكر تفاصيل التفاصيل كلّ لحظةٍ، نستذكر بسخريةٍ ملامح وجوه بعضنا البعض كيف بدت بنظر كلٍ منا في كل لحظةٍ، ورغم أننا وببساطة شديدةٍ، كنا قد اخذنا سيارات الأجرة لنبتعد عن المظاهرة بعد انفضاضها، لننطلق مباشرة لمنزل صديقنا، دون أن يحدث أي شيء استثنائي، لكننا روينا سرديّاتنا لتلك اللحظات حتى وصولنا لمنزل صديقنا وكأنها مغامرةٌ هوليودية قلّ من يستطيع الإقدام على فعلها.
عندما ذهبت إلى الجامعة في اليوم التالي، كان كل شيء أجمل بطريقةٍ سحريةٍ فعلاً، أحببت الناس والأماكن وما أنا عليه أكثر، صار الأمل يتراءى لي في الأجواء أينما نظرت، استعيد بنشوةٍ تلك اللحظات التي تجرأت فيها مع زملائي على ثقافة القطيع، لم أعد جزءاً من القطيع، شعرت أنني أصبحت معرّفاً بذاتي، أصبحت حراً رغم أنف المجتمع والسلطة، وصَارتْ هويتيّ مُذ ذاك “حرية للأبد”، لقد انتصرت حقاً.