لبانة غزلان: بنات الجبل”… التحرر الظاهري والوصاية الذكورية على الدرزيات

0

الزيادة في نسب التزويج الإجباري خلال السنوات الأخيرة للدرزيات في سوريا، وتزويج القاصرات منهن تحديداً، جاءت خوفاً من الاختلاط وارتكاب “المحرمات”.

استوقفتني مداخلة لإحدى الناشطات في اجتماع  يناقش واقع المرأة السورية، ومفادها: “المجتمع الدرزي حاضنة منفتحة تدعم النساء الدرزيات، يمنحنا مساحةً اجتماعية للعمل والحركة والسفر، تعتبر أقل تقييداً من غيرنا”، مستشهدة  بنشاط زميلات عملَت معهن في السابق، وبعدد المتعلمات والجامعيات من النساء الدرزيات… إلخ.

قوبل رأيها بالإجماع والتأييد، ما جعلنا نبدو كنساء درزيات متمتعات بكامل حقوقنا، في حاضنة وردية تفتح لنا باب المشاركة الحرة على مصراعيه، متناسيات واقع الانتماء الضيق لأقلية دينية، ذات طبيعة باطنية غير تبشيرية، تُحكِم الانغلاق على نفسها، وتبني سدوداً أمام كل ما هو دخيل على العرف والثقافة الموروثة.

إذ يتم استخدامنا كنساء، أداةً لإبراز الوجه المتحضر والمعتدل لتطرف طائفي اقصائي منغلق، يقوده سلوك أقلوي، يُجهد نفسه للحفاظ على وجوده، ويستقطب أبناءه  بالوسائل المتاحة للبقاء ضمن الدائرة المغلقة، مواكباً التيار الحضاري ظاهرياً، بعقيدة راسخة لا تمكن مخالفتها.

ولفهم ذلك علينا البدء من أن كونك درزياً أو درزية يستوجب ولادتك من أبوين درزيين حصراً، يصادرك هذا الانتماء دون إرادة من الولادة إلى الموت وإلى الحيوات اللاحقة بحسب العقيدة الدرزية المؤمنة بالتقمص. وهذا تترتب عليه قيود لا حصر لها بخاصة على النساء المسؤولات عن صفاء النسل، وإغناء الطائفة بمزيد من الأبناء، محتكرين الحرية الشخصية للمرأة خدمةً لمصلحة الطائفة العام. نتربى تربية قاسية على الأعراف منذ الصغر، ونكبر فنمارس دورنا المحدد بأطر واضحة راسخة في وعينا الجمعي، دون محاكمة منطقية، شاكرات المساحة الممنوحة لنا شكلياً، ومسلوبات الإرادة في الواقع.

ما يتم تصديره عنا كنساء درزيات، يتوافق مع ما ذكرته الزميلة في الاجتماع، فإذا ما تمت مقارنتنا بغيرنا، تجدنا لا نُحرم من تحصيل العلم، ولا نُمنع من العمل والوقوف على المنابر الثقافية والاجتماعية، نجالس الرجال ونناقشهم، تعتز عائلاتنا بما ننجزه نساءً ورجالاً، أعراسنا مختلطة ولا نُقصى في ركن مخصص للنساء سوى في مراسم العزاء، لا يُفرض علينا الدين أو الحجاب إلا لمن أراد وحقق شروط استلام الدين- ذكوراً وإناثاً على حد سواء- يسمح لنا بالسفر والعيش دون محرم، ويحق للكثيرات منا العزوف عن الزواج أو اختيار الشريك، كما يمنع على رجالنا تعدد الزوجات… وهي من حيث الظاهر حقوق تناضل لأجلها النساء في مجتمعات أخرى.

التعليم والعمل صيرورة طبيعية للتطور وليست منة لأحد علينا

بالعودة إلى التركيبة الاجتماعية للمجتمعات الدرزية، التي وإن اختلفت قليلاً يبقى جوهرها مشتركاً، بين دروز لبنان وفلسطين وسوريا والأردن، وهي مجتمعات زراعية بالأصل، تفرض نمطاً اقتصادياً، علاقاته الاجتماعية محكومة بطبيعة العمل الشاق في الحقل وقساوته، يتشارك فيه الرجل والمرأة العمل، وتتبدل فيه الأدوار الاجتماعية بينهما بحسب الحاجة اليومية. ومع تطور الحياة إلى التمدن، نجد أن النمط الفلاحي المصحوب بعقلية العقيدة تبدل شكلاً وليس مضموناً. حيث احتفظ الفلاح بقيمه ونمطه الاجتماعي باطنياً، ليتماشى بشكل ظاهري مع نمط المدينة الاقتصادي، وما يرافقه من ضغوط النفقات والنظام الاستهلاكي، باحثاً عن الاستقرار المادي الذي كانت جداتنا في السابق شريكات فيه.

يفترض أن نشكل اليوم امتداداً طبيعياً  لجداتنا شريكات الحقل، كشريكات في مقاعد الدراسة وزمالة العمل، في ظل توجه مجتمعي واضح نحو التعليم، لتحصيل وظائف حكومية، أو لتأمين  الاستقرار بعيداً من الزراعة،  فجاء تعليمنا كنساء وعملنا لاحقاً، ليس من باب الحق في التعليم والعمل، بقدر الحاجة الاقتصادية لمردود إضافي، ولمنع النساء اللاتي ناضلن للتعلم من الشذوذ عن القطيع، إذا ما تم قمعهن بصرامة، والاحتيال علينا بالاستقطاب عبر المساحات الممنوحة لتعليم المرأة وعملها، بالقدر الدارج في المجتمعات الشرقية عموماً، فحصرت مشاركاتنا بهيمنة ذكورية في وظائف محددة: كالتدريس، الصيدلة، الأرشيف، طب النساء، وجميع الأعمال المكتبية والثقافية التي تنتهي بعدد ساعات معينة، وهي محببة ومقبولة اجتماعياً، وبقينا مغيبات في الشأن السياسي وحل النزاعات ولو على مستوى محلي. مع وجود استثناءات قليلة حظيت بظروف خاصة.

هل نملك أنفسنا بالفعل؟

من حيث الظاهر نعم، إذ تستطيع كثيرات منا اليوم تفضيل عريس على آخر، أو اختيار الشريك وفقاً لمعايير تناسبها، مع ارتفاع ملحوظ لسن الزواج نتيجة ارتفاع الوعي ونسب المتعلمات، لكن الخيارات مهما تبدلت تبقى أسيرة أبناء الطائفة الذكور فقط، وأي علاقة حب من (خارج الملة) مصيرها الفشل، وأي محاولة للزواج بـ”غريب” تقابل بالرفض القطعي، وتستوجب تحليل الدم والقتل إن حدثت. ولذكور العائلة  دور كبير في خياراتنا كنساء بخاصة إذا ما كنا من عائلات كبيرة في ظل نظام عشائري يترتب عليه الحصول على إذن الزواج بمباركة العائلة الكبرى.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الزيادة في نسب التزويج الإجباري خلال السنوات الأخيرة للدرزيات في سوريا، وتزويج القاصرات منهن تحديداً، جاءت خوفاً من الاختلاط وارتكاب “المحرمات”. 

نتيجة تداعيات الحرب السورية وما رافقها من تهجير قسري للسوريين، الذين اختار كثر منهم السويداء مستقراً، وهي معقل الدروز وتمثل التجمع الأكبر لهم في سوريا، بات الخطر على الطائفة أكبر، وساهم في تعزيزه الفلتان الأمني والوضع الاقتصادي المتردي الذي يدفع البعض إلى تزويج بناتهم لتقليل المصروف.

وبرغم رفض المجتمع الأقلوي ظاهرة العزوف عن الزواج، وتفضيله إكثار النسل، إلا أننا نشهد حالات عدة وبخاصة عند النساء، وسواء كان العزوف عن الزواج بقرار من المرأة أو ببساطة لأنه “ما اجاها نصيب” بحسب الوصف الاجتماعي،  فهذا يعني حصاراً خانقاً من الوصاية المجتمعية عليها، ورقابة صارمة تصادر حريتها الشخصية وتحركاتها، بخاصة لكون غالبيتهن عذراوات.

ولعل الاستقلال المادي يخفف وقع الضغط الاجتماعي عليهن، ولكن لغير المستقلات مادياً وهن كثر،  فغالباً ما يتحولن إلى خادمات حبيسات في منزل الأب، يتولين العناية بالأبوين في الكبر، وبأطفال العائلة وغير ذلك من المهمات الصعبة، ويتم تقديس تضحياتهن، لإرغامهن على الالتزام بها. دون وجود ضامن لحياة هؤلاء النسوة وغيرهن من الأرامل والمطلقات بعد وفاة الأب سوى “غرفة المقاطيع”، التي لا يملكنها بل يملكن حق الانتفاع منها فقط.

الاحتفاء المشروط بإنجازات النساء

وللحديث عن هذا الاحتفاء فسأذكر حالتين: إحداهما لكاتبة درزية من السويداء، صورت مسلسلاً درامياً في قرية الغيضة في ريف المدينة، وأمنت عبره فرص عمل ودخل لأهالي تلك القرية وأهالي المحافظة عموماً، ليسطع اسمها كابنة الجبل البارة، واعتبرت مثالاً لنساء الدروز الناجحات، ثم وبعد أقل من عام كتبت فيلم “دم النخيل” من إخراج نجدة أنزور، يظهر فيه ممثل بدور جندي جبان في جيش النظام، يتحدث بلهجة أهل الجبل، لتقوم القيامة ولا تقعد، إذ وصفت بالعاهرة والعميلة لتحقيرها أبناء جلدتها ووصفهم بالجبن، ونُسف جهدها السابق وسيرتها الجبلية البارة. لتخرج لاحقاً باعتذار عن المساس بشهامة أبناء الطائفة، وتصرح بأنها كتبت المشهد باللهجة البيضاء، وحدث أن كانت لكنة الممثل أقرب للهجة الجبل. 

لست في صدد تقييم العمليين فهما عملان مواليان لنظام الأسد شكلاً ومضموناً، ولكن يمكن إسقاط المثال على جميع إنجازات النساء المشروطة بعدم مخالفة العرف أو المساس بكرامة أبناء الجبل.

كحال الدكتورة والكاتبة آراء الجرماني، التي صرحت منذ فترة على حسابها على “فيسبوك”، عن قدر الظلم والقطيعة والتهديد بالقتل، الذي عانت منه، لأنها اختارت شريك حياتها من خارج الملة، ولم تشفع لها شهاداتها ومكانتها الاجتماعية والعلمية المرموقة في الخارج، في الحصول على عفو عائلتها والطائفة عنها، لتبقى ميتة في حياة أسرتها، وممنوعة من الاتصال حتى بوالدتها.

وعليه فإن الواقع يقول بأننا حرات في فعل ما نشاء بالقدر الذي تسمح لنا حدود طائفتنا وأعرافنا به، وإلا فإن المخالفة تستوجب القتل الاجتماعي أو الفعلي بأبشع أشكاله إن سنحت الفرصة.

“بنت الجبل” / “من جماعتنا” قالب صممته الولاية الدرزية وحشرتنا فيه

لعل المرأة في طوائف أخرى تحتاج محرماً  واحداً للسفر والوصاية، وهو أمر غير عادل بكل تأكيد، لكننا كدرزيات ضحايا محارم الولاية الدرزية علينا أينما حللنا، وفي أي بلد كان، وإن كنا نملك حرية السفر والعيش وحيدات، إلا أننا مكبلات بقيود مقيتة تحكمها هويتنا، واستخدم هنا مصطلح الولاية لمقاربتها قانونياً، غير أن هذا المصطلح غير دقيق فعلياً، فالولاية في القانون السوري تأتي بالولادة وتحصر بولاية الأب على أبنائه القاصرين فقط، وهي ولاية نفس ومال، وتحال إلى الجد العصبي في حال غياب الأب أو وفاته. وعليه يجب أن تكون قاصراً أولاً وعلى الولي أن يكون الأب في الدرجة الأولى أو الجد في الدرجة الثانية، إلا أننا كنساء درزيات نعاني من ولاية أي فرد من أبناء الطائفة علينا بحكم الانتماء والهوية والمونة، وبذلك يتم قمع سلوكياتنا التي تخالف العرف من أي حارس لأخلاق الطائفة.

أصبح تعريف “بنت الجبل” أو “من جماعتنا ” قالباً نلبسه أينما حللنا، فنرزح إلى وصاية أقرب درزي في المكان، كما حدث عام 2012. كنتُ مع مجموعة من صديقاتي في “السيرفيس” العائد بنا من جرمانا  في ساعة متأخرة من الليل، وحين نزلت من السيارة، أمسك بيدي رجل غريب عرفني من لهجتي الجبلية وبخني متسلحاً بولايته الدرزية عليّ لكوني بحسب قوله: ابنة الجبل.

 لم يجد “حارس أخلاق الجبل” حرجاً من اعطائي محاضرة عن خطورة التأخر خارج المنزل، وعن أثر ذلك في تلطيخ سمعة بنات الجبل الشريفات اللاتي يأتين إلى دمشق للعلم وليس للسهر و”طق الحنق”! وأصر، دون أن أتمكن من منعه،  على  توصيلي حتى باب منزلي، تاركاً صديقاتي يعدن وحيدات فلا خوف عليهن إن لم يكن من الجبل.

في مرة أخرى، كنت في زيارة لمنزل صديقة درزية في جرمانا لأول مرة، رحبت بي والدتها المسنة شديد الترحيب، وبعد السؤال والسلام عرفت أنني من السويداء، فتركتنا وحيدتين وهي مطمئنة، لاحقاً دخلت الغرفة لغرض ما، فوجدتني أشعل سيجارة، لتتغير ملامحها بشكل واضح، وتبدأ سلسلة توبيخ وتعليمات عن أخلاق  بنت الجبل الدرزية الصالحة. لتوقفها ابنتها المحرجة وتدّعي أنني من السويداء لكنني مسيحية، فتهدأ حفيظة والدتها، وتحول النهي عن التدخين من المنحى الأخلاقي إلى المنحى الصحي فقط، بعد تنكري لهويتي الدرزية خوفاً.

كثيرة هي الأمثلة التي عايشتها وأخريات، ظننا أننا مستقلات وحرات، لنجد أنفسنا غارقات في عوالم سرية موازية نصنعها لأنفسنا، ونبقي على صورة “بنت الجبل” أمام حراس أخلاق الطائفة، صافية خالية من الشوائب، أو في أحسن الأحوال نتنكر لهويتنا ولهجتنا، لتحصيل مسافة أمان موقتة نتحرر فيها من القيود.

هل نملك أنفسنا بالفعل؟

من حيث الظاهر نعم، إذ تستطيع كثيرات منا اليوم تفضيل عريس على آخر، أو اختيار الشريك وفقاً لمعايير تناسبها، مع ارتفاع ملحوظ لسن الزواج نتيجة ارتفاع الوعي ونسب المتعلمات، لكن الخيارات مهما تبدلت تبقى أسيرة أبناء الطائفة الذكور فقط، وأي علاقة حب من (خارج الملة) مصيرها الفشل، وأي محاولة للزواج بـ”غريب” تقابل بالرفض القطعي، وتستوجب تحليل الدم والقتل إن حدثت. ولذكور العائلة  دور كبير في خياراتنا كنساء بخاصة إذا ما كنا من عائلات كبيرة في ظل نظام عشائري يترتب عليه الحصول على إذن الزواج بمباركة العائلة الكبرى.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الزيادة في نسب التزويج الإجباري خلال السنوات الأخيرة للدرزيات في سوريا، وتزويج القاصرات منهن تحديداً، جاءت خوفاً من الاختلاط وارتكاب “المحرمات”. 

نتيجة تداعيات الحرب السورية وما رافقها من تهجير قسري للسوريين، الذين اختار كثر منهم السويداء مستقراً، وهي معقل الدروز وتمثل التجمع الأكبر لهم في سوريا، بات الخطر على الطائفة أكبر، وساهم في تعزيزه الفلتان الأمني والوضع الاقتصادي المتردي الذي يدفع البعض إلى تزويج بناتهم لتقليل المصروف.

وبرغم رفض المجتمع الأقلوي ظاهرة العزوف عن الزواج، وتفضيله إكثار النسل، إلا أننا نشهد حالات عدة وبخاصة عند النساء، وسواء كان العزوف عن الزواج بقرار من المرأة أو ببساطة لأنه “ما اجاها نصيب” بحسب الوصف الاجتماعي،  فهذا يعني حصاراً خانقاً من الوصاية المجتمعية عليها، ورقابة صارمة تصادر حريتها الشخصية وتحركاتها، بخاصة لكون غالبيتهن عذراوات.

ولعل الاستقلال المادي يخفف وقع الضغط الاجتماعي عليهن، ولكن لغير المستقلات مادياً وهن كثر،  فغالباً ما يتحولن إلى خادمات حبيسات في منزل الأب، يتولين العناية بالأبوين في الكبر، وبأطفال العائلة وغير ذلك من المهمات الصعبة، ويتم تقديس تضحياتهن، لإرغامهن على الالتزام بها. دون وجود ضامن لحياة هؤلاء النسوة وغيرهن من الأرامل والمطلقات بعد وفاة الأب سوى “غرفة المقاطيع”، التي لا يملكنها بل يملكن حق الانتفاع منها فقط.

الاحتفاء المشروط بإنجازات النساء

وللحديث عن هذا الاحتفاء فسأذكر حالتين: إحداهما لكاتبة درزية من السويداء، صورت مسلسلاً درامياً في قرية الغيضة في ريف المدينة، وأمنت عبره فرص عمل ودخل لأهالي تلك القرية وأهالي المحافظة عموماً، ليسطع اسمها كابنة الجبل البارة، واعتبرت مثالاً لنساء الدروز الناجحات، ثم وبعد أقل من عام كتبت فيلم “دم النخيل” من إخراج نجدة أنزور، يظهر فيه ممثل بدور جندي جبان في جيش النظام، يتحدث بلهجة أهل الجبل، لتقوم القيامة ولا تقعد، إذ وصفت بالعاهرة والعميلة لتحقيرها أبناء جلدتها ووصفهم بالجبن، ونُسف جهدها السابق وسيرتها الجبلية البارة. لتخرج لاحقاً باعتذار عن المساس بشهامة أبناء الطائفة، وتصرح بأنها كتبت المشهد باللهجة البيضاء، وحدث أن كانت لكنة الممثل أقرب للهجة الجبل. 

لست في صدد تقييم العمليين فهما عملان مواليان لنظام الأسد شكلاً ومضموناً، ولكن يمكن إسقاط المثال على جميع إنجازات النساء المشروطة بعدم مخالفة العرف أو المساس بكرامة أبناء الجبل.

كحال الدكتورة والكاتبة آراء الجرماني، التي صرحت منذ فترة على حسابها على “فيسبوك”، عن قدر الظلم والقطيعة والتهديد بالقتل، الذي عانت منه، لأنها اختارت شريك حياتها من خارج الملة، ولم تشفع لها شهاداتها ومكانتها الاجتماعية والعلمية المرموقة في الخارج، في الحصول على عفو عائلتها والطائفة عنها، لتبقى ميتة في حياة أسرتها، وممنوعة من الاتصال حتى بوالدتها.

وعليه فإن الواقع يقول بأننا حرات في فعل ما نشاء بالقدر الذي تسمح لنا حدود طائفتنا وأعرافنا به، وإلا فإن المخالفة تستوجب القتل الاجتماعي أو الفعلي بأبشع أشكاله إن سنحت الفرصة.

“بنت الجبل” / “من جماعتنا” قالب صممته الولاية الدرزية وحشرتنا فيه

لعل المرأة في طوائف أخرى تحتاج محرماً  واحداً للسفر والوصاية، وهو أمر غير عادل بكل تأكيد، لكننا كدرزيات ضحايا محارم الولاية الدرزية علينا أينما حللنا، وفي أي بلد كان، وإن كنا نملك حرية السفر والعيش وحيدات، إلا أننا مكبلات بقيود مقيتة تحكمها هويتنا، واستخدم هنا مصطلح الولاية لمقاربتها قانونياً، غير أن هذا المصطلح غير دقيق فعلياً، فالولاية في القانون السوري تأتي بالولادة وتحصر بولاية الأب على أبنائه القاصرين فقط، وهي ولاية نفس ومال، وتحال إلى الجد العصبي في حال غياب الأب أو وفاته. وعليه يجب أن تكون قاصراً أولاً وعلى الولي أن يكون الأب في الدرجة الأولى أو الجد في الدرجة الثانية، إلا أننا كنساء درزيات نعاني من ولاية أي فرد من أبناء الطائفة علينا بحكم الانتماء والهوية والمونة، وبذلك يتم قمع سلوكياتنا التي تخالف العرف من أي حارس لأخلاق الطائفة.

أصبح تعريف “بنت الجبل” أو “من جماعتنا ” قالباً نلبسه أينما حللنا، فنرزح إلى وصاية أقرب درزي في المكان، كما حدث عام 2012. كنتُ مع مجموعة من صديقاتي في “السيرفيس” العائد بنا من جرمانا  في ساعة متأخرة من الليل، وحين نزلت من السيارة، أمسك بيدي رجل غريب عرفني من لهجتي الجبلية وبخني متسلحاً بولايته الدرزية عليّ لكوني بحسب قوله: ابنة الجبل.

 لم يجد “حارس أخلاق الجبل” حرجاً من اعطائي محاضرة عن خطورة التأخر خارج المنزل، وعن أثر ذلك في تلطيخ سمعة بنات الجبل الشريفات اللاتي يأتين إلى دمشق للعلم وليس للسهر و”طق الحنق”! وأصر، دون أن أتمكن من منعه،  على  توصيلي حتى باب منزلي، تاركاً صديقاتي يعدن وحيدات فلا خوف عليهن إن لم يكن من الجبل.

في مرة أخرى، كنت في زيارة لمنزل صديقة درزية في جرمانا لأول مرة، رحبت بي والدتها المسنة شديد الترحيب، وبعد السؤال والسلام عرفت أنني من السويداء، فتركتنا وحيدتين وهي مطمئنة، لاحقاً دخلت الغرفة لغرض ما، فوجدتني أشعل سيجارة، لتتغير ملامحها بشكل واضح، وتبدأ سلسلة توبيخ وتعليمات عن أخلاق  بنت الجبل الدرزية الصالحة. لتوقفها ابنتها المحرجة وتدّعي أنني من السويداء لكنني مسيحية، فتهدأ حفيظة والدتها، وتحول النهي عن التدخين من المنحى الأخلاقي إلى المنحى الصحي فقط، بعد تنكري لهويتي الدرزية خوفاً.

كثيرة هي الأمثلة التي عايشتها وأخريات، ظننا أننا مستقلات وحرات، لنجد أنفسنا غارقات في عوالم سرية موازية نصنعها لأنفسنا، ونبقي على صورة “بنت الجبل” أمام حراس أخلاق الطائفة، صافية خالية من الشوائب، أو في أحسن الأحوال نتنكر لهويتنا ولهجتنا، لتحصيل مسافة أمان موقتة نتحرر فيها من القيود.

*درج