لا أريد لهذه الثورة أن تنتهي*

0

عبد الله الحريري

شاعر سوري

مجلة أوراق العدد 12

الملف

بيني وبين الرقم (10) صداقة قديمة، ابتدأت منذ ولدت في العاشر من تشرين الأول (10/10)، كانت أمي مع ساعات الفجر تصيح: “لا أريده.. خلصوني” وهي في عتبة البيت الأوسط من منزلنا المكون آنذاك من ثلاثة بيوت على استقامة واحدة بين شرق وغرب (كنا نسمي الغرفة بيت: بيت غربي- بيت نُصّاني- بيت شرقي)، على ما يبدو أنها لم تكن ولادة سهلة بالرغم من كوني العاشر والأخير بين إخوتي بجنسَيهم، لكن لأبوين لم يعودا شابين كما في السابق؛ هكذا تقص أمي روايتها الثانية عن ولادتي، بعد أن أفرط جدائلها وأغسل شعرها بالشامبو والماء الساخن تتشهد بالرتابة المعتادة وتحكيها بتفاصيلها أثناء تسريحي لشعرها بمشطها الذي يحمل الذاكرة نفسها منذ ذلك الوقت، أما فيما سبق فكان لأمي رواية أولى عن ولادتي: كانت تقول إن امرأة عجوزاً من قريباتها رأتني في الحلم ولمّا أزل جنيناً في بطنها، وقالت لها: “اسم ابنك أبو علاء”، وعن الولادة قالت إنها جاءت مفاجئة وسلسلة أثناء استحمامها في عتبة البيت الأوسط بعد ساعات طويلة من العمل على ترميم سقوف البيوت قبيل شتاء كان قاسياً تلك السنة؛ الحلم (المنام) جزء أصيل من حياة الريفيين، يجاري أحزانهم الصغيرة ويلبي آمالهم، نحن مرتبطون بشيء أفضل آت لا انفكاك لنا عنه، هو ذاته الذي يذكي في نفوسنا الكرم والإيجابية تجاه الآخر وتوقع الأفضل منه ما يسميه البعض (طيبة الريفيين)؛ نحن نسميها شهامة، ويذكي أيضاً الغضب والعناد ما يسميه البعض (حيونة الريفيين)؛ نحن نسميها كرامة، ونرى في ذلك ميزة قيمية (روحية وأخلاقية) لصالحنا عن المدن التي تصهر أبناءها في حسابات مادية تنطرح أكثر ما تنطرح تحت مسننات الكسب في مركزها، والبقاء في أطرافها، والعلاقات المحكومة بالمصلحة مع الآخر؛ هناك فارق جشع بين الحياتين يأكل من الطبيعة لصالح الحياة الإسمنتية والعلاقات المعدنية والانفعالات المروّضة.

حين دخلتُ دمشق من بابها الجنوبي فرحاً كأي ريفي أصبح طالباً في كلية الطب البشري، لم أنتبه للحُلة المتشبثة بجدران أبنيتها كصدأ رمادي، ولم يثر هواؤها الملوث سعالي، حتى إن ازدحام شوارعها بالسيارات كان من المثيرات التي لم أعتدها من قبل، أنا ابن الفضاء المفتوح والاتجاهات المتاحة، هكذا أسلمت يدي لقيد دمشق حتى تعلقت بها وانصرفت عن الريف إليها فلم أعد أزور القرية إلا كل عدة شهور، في دمشق المنقسمة بين خطي دوار شمالي ودوار جنوبي انقسامات أخرى كثيرة بين منطقة وأخرى وشارع وآخر، أما نحن الحالمين فقد ضمتنا المدينة العجوز من شتى بقاع الريف والمدن الصغيرة في غرف سرية كأعشاش العصافير في مخيم اليرموك وجرمانا وجديدة عرطوز وعش الورور والصناعة ودويلعا …إلخ، لم نكن لنكترث بانقساماتها إنما نغشى شوارعها وحاراتها آناء الليل وأطراف النهار، نمر في أسواقها وساحاتها، قرب فروع المخابرات ودور السينما ومبنى الإذاعة والتلفزيون والنهر الذي أصبح ساقية قاذورات كالحياديين الباحثين عن أماكنهم الحيادية متكررين عليها يزيدون كل عام قليلاً وينقصون قليلاً، هكذا تركتنا أمنا نلهو في خبأة جلبابها حتى فهمناها من مطلع الحجارة حتى غياهب السجون.

سنة 2004 عاد سالار إلى غرفته كحلياً من ضرب عناصر المخابرات كما سأصبح سنة 2011، جمعتني بصديقي الكردي من ريف الحسكة كلية الطب والسكن الطلابي، يملأ نصف كأس البيرة ملحاً كلما هم بالدراسة، وحين يذهب إلى قريته في ريف الحسكة يعود بأقراص أمه من البسكويت (الكليجة)، كنت أحب أن أزوره، فلغرف الأكراد رائحة خاصة، ربما تأتي من صابونهم أو ربما من جلودهم التي تبدو وكأنها نبتت من التراب لا من الأرحام، لا يقص الكردي، كأغلب أبناء الريف، جذوره لكي يصبح لائقاً بشوارع المدن الكبيرة وبأهلها الذين يجيدون لف ربطات العنق، لذلك يبقون كعلامات فارقة هنا وهناك، تعرفهم بالشكل أو لون اللباس أو اللهجة، عناصر الأمن كالكلاب تشم روائحهم عن بعد، حين غاب سالار عن السكن الجامعي ظننت أنه سافر إلى قريته في الأيام التي اشتد فيها التدقيق الأمني على مداخل الجامعة والسكن الجامعي، بعد أسبوعين عاد سالار كحلياً، شرب الكثير من البيرة المالحة وبكى أكثر مما شرب، أحسست برغبة عارمة بالبكاء، لكني لم أفعل، حين انتهى من نشيج طويل أشار إلى حذائه المرمي عند الباب وقال: “أخذوا رباط الحذاء أولاد الشرموطة، هل تعلم أن هناك سجناً وراء مبنى الإذاعة والتلفزيون؟”، هكذا يعلم الكردي أن طريقه طويلة وأن رباط حذائه أهم ما في الأمر! أما طريق ذلك السجن فلن يعبره بعد الآن.

تعلمت من الأكراد أن أحب بصدق، وأن أكره بصدق، تعلمت ان هناك (لا) يمكن التصريح بها، لا أقول إنه لم تكن هناك (لاءات) في الريف، على العكس، فجارنا ابن عم أبي كان يسب حافظ الأسد على الدوام، وإخوتي أقاموا حفل شواء كبير حين مات باسل الأسد وتبادلوا التهاني عند وفاة حافظ الأسد -بالنسبة لي كان موت حافظ الأسد يعني راحة يوم من سقاية أشجار الزيتون- بل أقصد (لا) بعينها تقال في وقتها كلما دعت الضرورة لذلك دون تحسب لسامعيها، وهذا ما فعلته بيريفان الفتاة الكردية أمام الوحدة السابعة قبيل استفتاء 2007 لرئاسة الجمهورية، في ذلك اليوم أوقف الدوام الجامعي وأغلقت الأبواب الرئيسية للسكن الطلابي، ودُعيَ بمكبرات الصوت للاجتماع من أجل مسيرة الوفاء الطلابية لبشار الأسد، ذهبت إلى الوحدة السابعة لاصطحاب صديقتي معتبراً المسيرة حالة سيران، وهناك صادفت بيريفان شريكة صديقتي في الغرفة، حين رأتني خلعتْ عنها قميصاً أبيض عليه صورة بشار الأسد وقالت: “كس إختو”، لم تكن بريفان واثقة بي بقدر ما كانت تريد إثبات كرديتها لنفسها، إنها لا تساوم، حين نزلنا سوياً في مجموعة واحدة انحرفنا أنا وبريفان تدريجياً حتى تسللنا ووقفنا فوق الجسر أمام وزارة التعليم العالي ننظر إلى آلاف الطلاب المجتمعين يحملون مشاعل كان الكثير منها مثقوباً ما أدى لتسرب الوقود وحرائق صغيرة، وقفنا لوقت طويل ولم نقل شيئاً.

أصبح للجامعة نكهة أخرى منذ ذلك اليوم، فأنا لم أشارك في المسيرة، يا الله كم كنا مقموعين لنرى في عدم المشاركة في مسيرة موقفاً! لكن أصدقائي في اتحاد الطلبة دعوني لإلقاء قصيدة في خيمة حزب البعث أمام مدرج الجامعة بعد أيام من المسيرة، أتذكر أن شاعرة سورية ألقت قصيدة ثم أتى دوري فألقيت قصيدة عن القدس وقبل أن أنهي قاطعني الدكتور فرح مطلق وقال لي بعد فترة التقينا فيها: “إنت بدك تروّح حالك وتروّحنا”، وبشكل تدريجي قادتني النقاشات الجريئة إلى خسارة بعض الأصدقاء وكسب الآخرين، فأصبح نقاشي مع عدنان كرداس وعمر سليمان يذهب إلى زوايا الأحزاب وتاريخها والمادة الثامنة من الدستور وجمال الأتاسي …إلخ، بينما يأخذني النقاش مع وائل سعد الدين وعدنان حمدان وأحمد عزام إلى الأدب كأداة تغيير وتشكيل للوعي والمكتب السوري لحقوق الإنسان وجدالنا حول حقيقة حرب تموز وحزب الله اللبناني، وأحد نقاشاتي مع ممثل طلبة حزب الله الدارسين في كلية الطب البشري (محمد باقر) قادني إلى عدة ايام من التحقيق في فرع المنطقة 2006، ولا أقول إني كنت جاهزاً للمشاركة في الثورة لولا مخيم اليرموك، الشباب الفلسطيني يفضل الهامش على التصالح مع هوية مشوهة يفرضها الواقع، علموني أن سطح المستنقع وقاعه سيان، يجب أن تفكر بالخروج منه بأي وسيلة.

والآن تفصلني عن ذلك المحكوم بوعورة الطريق والحلم والأصدقاء ودمشق عشر سنوات، فما الذي تغير؟

أكثر ما يصح في وصف الثورة بالنسبة لي هو (الولادة الثانية) بمخاض طويل استغرق سنوات، لكنه لم يكن عسيراً لأنه واضح الوجهة والمسار، دوران وانقلاب ثم خروج الرأس ثم باقي الجسد، ثم صفعة على شكل فيديو سيء الصورة يُقتل فيه متظاهرون بإطلاق نار مباشر من عناصر الأمن، وهكذا تماماً، بعد بكاء ونشيج محتقن فيّ منذ اعتقال سالار، أصبحت سورية أمي، من وقتها تغير كل شيء، لذلك لم يكن محيراً أو مجالاً للتردد انخراطي في الثورة ومظاهراتها، كانت الثورة جزءاً من المشروع الأدبي ذاته، إذ كيف لي أن أكتب للحرية دون تذوق طعمها؛ المتشوق إلى شيء يكتب عن تصوره الخاص حوله، أما السائر إلى شيء يكتب على الأقل عن طريقه إليه، وفي هذه الطريق تتالت القرارات التي ازدادت صعوبة مع تحول الثورة إلى حرب عاتية، في البدء كانت الفكرة: الثورة، السوريون، سورية، ثم برزت الهويات الأصغر من مناطقية وطائفية وقومية …إلخ، ثم الجيوش المحتلة، بالنسبة لي اعتقلت مرتين وشاركت في المظاهرات والتنسيقيات والعمل الإغاثي وعملت في المشافي الميدانية وحين أوجدتْ داعش وجبهة النصرة ساهمتُ في تنظيم الجيش الحر ومثلته في (مفاوضات) محلية للمناطق المحاصرة جنوبي دمشق، في الحقيقة لم تكن مفاوضات بقدر ما كانت مواجهة لهزيمتنا في جنوب دمشق التي انتهت بتهجيرنا إلى الشمال السوري. فما الذي تغير؟

كم هو قاس هذا (الآن)، انفرط عقد الاصدقاء، أصبحنا موجودات منقولة رقمياً على شاشات مستطيلة لا نستطيع فيها ضرب كف بكف ولا سرقة ضمة على سبيل المساندة أو قبلة على سبيل الحب، نخوض نقاشات كثيرة تفتقد للحيوية والإدراك اليقيني لموقف أي منا، كأننا بحاجة لمواقف افتراضية يمكن تغييرها بين حين وآخر، على ما يبدو أن (خارج المكان) يحول الجذرية إلى أداة والمبدئية إلى ماركة غير مسجلة! طاولاتنا المفضلة في البارات، نمطيتنا التي اكتشفنا زيفها، ثقافة العناوين التي تنمرنا بها على زملائنا في الجامعة، كل ذلك أصبح أثراً بعد عين، غرباء في بلاد كنا نحلم بأن تقبل طلبات لجوئنا لننعم بالحربة، لكننا لا نحبها مهجرين.. لاجئين حقيقيين، بهذه الكثرة الموحية بالكارثة، وكل شيء مختلف في الجوار، خارج سورية، أي خارج القضية، حتى السوريون أنفسهم، أصبح الوجود عربياً في المنافي كهاربين من حقيقتنا، من هوياتنا التي شربناها منذ مائة عام، هل كان كل شيء فاسداً من أصله؟! هل خدعنا إلى هذا الحد؟! إذا لم نكن كذلك، فلماذا تستمر دائرة الفساد والضياع والارتهان إلى كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، في السياسة والإعلام والأدب والمنظمات والعلاقات الاجتماعية والمصلحية الطاغية على كل ردود أفعالنا؟! لماذا نخلع عنا كل شيء لنمشي في العواصم كسياح فارين من اكتئاب الرخاء وبلادة الحياد؟!

عشر سنوات علمتني أن الثورة أكبر من مفهومها السياسي الذي تحصده الأحزاب والتيارات (الوطنية منها وغير الوطنية)، وأنها بطبيعتها خير باهظ الثمن، من دونه لا حركة في عجلة التاريخ، ولا حركة دون محاكمة التاريخ نفسه قريبه وبعيده ودون وقوف واضح أمام الهوية المثالية/المبدئية أو الواقعية الناتجة عنه وأمام المطلب/الهدف الناتج عن الهوية، إذاً كيف لي أن أفسر سعي وتقبل الثورات العربية لدعم أمريكا التي تدعم إسرائيل (العدو المفترض) ومن ثم لدعم إسرائيل ذاتها؟ فهل كانت الديمقراطية المنشودة انتماء فوق قومي أو ديني؟ وكيف تنصهر الأقلية الدينية أو القومية في الحراك على أنها ليست أقلية؟ فالثائر الحقيقي من يحمل من سمات النبوة (بما تعنيه من جدة الفكرة وتضحية وتحمل) ما يؤهله لإحداث انقلاب فكري في من حوله قبل أن يضمن تضافرهم معه، والانقلاب الفكري لا يكون دون وقوف واضح أمام القضايا الإشكالية، والثورة بلا حامل فكري واضح لا تفقد من صدقيتها وأحقيتها لكنها ستحيد بالضرورة عن المسار الغائب أساساً، ومن هنا أخالف مقولة المعارض السوري المعتقل (أتمنى سلامته وإطلاق سراحه قريباً) الدكتور عبد العزيز الخير: “إذا تسلحت الثورة تأسلمت، وإذا تأسلمت تطيفت” وبغض النظر عن قناعتي بأنه لا قوة كانت ستمنع حمل السلاح في الثورة السورية إلا تنحي بشار الأسد منذ 2011 عن السلطة وأن بقاءه مرهون بقدوم إيران وحزب الله إلى سورية (تصريحات حسن نصر الله ونوري المالكي أثبتت ذلك بعد عشر سنوات) ما يعني أنها معركة دفاع وتحرير من أساسها، وأن إنكار هذه الحقيقة كان شكلاً من أشكال الانسحاب من تحمل أعباء القيادة الميدانية من قبل المعارضة التي تعودت على المعارضة لا الطموح إلى السلطة، فأرى أن الطريق كانت مؤدية بكل الحالات إلى التطيف والانشطار العمودي لأن الشعب السوري منقسم بالأساس عمودياً، ولكل جماعة من جماعاته رموزها وتاريخها الخاص غير المنصهر في شخصية وطنية كلية، وكم لمسنا ذلك في انتخابات اتحاد الطلبة في الجامعة قبل الثورة بعشر سنين، كان الصدع ممتداً أعمق مما يمكن تجاهله؛ يمكنني ببساطة أن أقارن بين طبيعة العمل المسلح وطبيعة العمل غير المسلح (السياسي وغير السياسي الذي نشط خارج سورية على وجه الخصوص)، فأول بنى المعارضة قامت على تفاهمات المحاصصة، ثم ضمت الفصائل العسكرية ضمنها على أساس قوة الفصيل ودعمه الدولي لا وطنيته، وإذا توافقنا مع من يقول (إن الكلمة أفتك من رصاصة) لشهدنا على الكثير من المعارك (بين الإخوة كما يقال) بين معارضين وأحزاب وإعلاميين وشبكات إعلامية ومنظمات ومجالس وأفراد كانت الشائعة والتخوين وتشويه السمعة أداة التنافس/الصراع المتبادلة بينهم على حد السواء بدوافع مصلحية أو خدمية لوكالات الاستخبارات، وإن كانت هذه الحرب توقفت نسبياً في الميدان العسكري بسبب انحسار مناطق السيطرة فهي ما زالت مستعرة الأوار هنا: خارج الميدان بحكم مصالح معقدة ومتشابكة وتدخل إقليمي ودولي؛ صحيح أنها قامرت بحياة السوريين عسكرياً لكنها قامرت أيضاً بمستقبلهم وبسورية كاملة خارجه، سؤالي هو: “لو لم تتسلح الثورة، ما الذي كان سيحصل؟ هل ستفشل خطة النظام في التجييش الطائفي؟ هل سيمتنع حزب الله وإيران عن التدخل عسكرياً في سورية؟ وهل كان يراهن على موقف الجيش السوري أو مجلس الأمن إذا تدخلا؟ هل ستكون هناك عملية سياسية وتداول سلمي للسلطة بعيداً عن الانقسامات الجماعاتية؟ هل سنعتبر وصول الإسلاميين إلى السلطة ديمقراطية لا تطرفاً؟ الصحيح أن ندرة القيادات الوطنية (وبالتالي غياب الرؤية) في ميدان الثورة يؤدي إلى انحرافها سواء كانت مسلحة أم غير مسلحة، لأنها في شعب عمل على تمزيقه خلال عقود من الديكتاتورية العميلة؛ إذاً: هل كانت المشكلة في حمل السلاح؟ّ! أم في من تأخر عن إدراك حتمية فرض السلاح فتخلّف عن حمله، وبعدها قَبِله شريكاً مفروضاً بالقوة لا بتوجهاته الوطنية؟!

هارباً من تردي الواقع، أتساءل: ماذا لو كان الشعراء قادة في الجيش الحر، والروائيون يكتبون من خلف البندقية الوطنية ويسقطون البندقية الأخرى؟ ماذا لو عاش كاتب السيناريو مع المحاصرين؟ هل يمكننا تخيل الشعر والأغاني والدراما ووسائل التواصل الاجتماعي ومسار الثورة لو حصل ذلك؟ فيلم واحد مثل (من أجل سما) يرينا الفارق المحتمل، أتخيل ثورة من المفكرين والشعراء والروائيين والقصاصين والفنانين والصحافيين، ليسوا كشهود عيان وضحايا خارج المكان، بل كفاعلين، حيت يتحد الراوي بشخوصه والشاعر بصوره، ألم تكن تلك رسالة المتنبي حين مات ببيته الشهير:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

لكنها علة التاريخ في نجاة الكتّاب شهوداً، ليحكوا سير الأبطال الحقيقيين، نعم، إنه موت الأبطال بداية الثورات، والكتابة استمرارها في تحد لغوي للغة ذاتها كمشَكِّلة للثقافة أو ناتجة عنها، الشعراء على وجه الخصوص يجيدون تكريس القضايا، فالشاعر أحد الأبطال الدائمين على مسرح قصائده، انفرد بنفسه حين حاصرته الديكتاتورية، وعودته إلى مسارح مشرعة الأبواب بين الذاتي والعام إحدى علامات التحول الثوري على مستوى المجتمع، وارتقاء النص إلى حالة المجزرة بلغة مواكبة تعطي الموت قدسية وجمالية في الطريق إلى حياة مشتهاة هي الحرية عينها، هو الذي يجعل (الثورة فعلاً مضارعاً)، وماذا يريد الكاتب غير الحرية؟! هكذا يتقاطر الأبطال نحو حريتهم. وليس المطلوب من الكاتب أن يكون بطلاً؛ فالمتخيل عن المفاهيم، العلاقة بين الشخص وقيمه الخاصة، ستتغير بالحتمية عند وقوفه مباشرة أمامها، والأكثر بطولة لا ينجون عادة، وقليل من الكتاب والفنانين والشعراء من يختار المواجهة المباشرة مع موته كما وقف فرج بيرقدار أمام محكمته أو بشير العاني أمام داعش، فالموت الطارئ المباغت يبقى أقل مخاطرة: عبوة، رصاصة من خلف كاتم صوت؛ يعطينا نجاة واهمة، وهكذا نموت غير قاصدين وإن كنا نعي تماماً أننا أهداف قريبة سهلة، إذا كان ولا بد منه فليكن مثل موت بشير العاني أو مثل حياة فرج بيرقدار، فرج بيرقدار يقول:

“من ليس نهراً

أين تدفن ضفتاه؟!”

وبشير العاني يقول:

“منذه..

منذ كرباج يلعلع فوق أجساد الصحاب..

تنثقب الروح

تداهم القلب دوريات الحزن

ويندس الشعراء في الكتب الصفراء

يندسون..

شاعراً إثر شاعر.

 يفتنني أولئك الذين يسيرون إلى موتهم كل يوم كأنه عمل اعتيادي في مظاهرة أو على خط اشتباك، الذين يواجهون قذائف الجلاد وسياطه وسيوفه وسكاكينه بجسارة الباحث عن نهاية لائقة، فيحطمون أرقاماً قياسية لا فائدة من محاولة كسرها، أما أنا فنجوت! لكنني أحمل كيس الذكريات على ظهري لأبطال مروا إلى حتفهم قاصدين، يصدق فيهم ما جاء في مقدمة (التغريبة الفلسطينية) للمخرج حاتم علي والكاتب وليد سيف على لسان (الدكتور علي) حين مات أبو صالح: “رحل الرجل الكبير، وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخي أحمد، أبو صالح، لن تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات ولن يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريباً يموت آخر الشهود المجهولين آخر الرواة المنسيين، أولئك الذين عرفوه أيام شبابه جواداً برياً لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبء الذاكرة، ومن يكتب سيرة من لا سيرة لهم في بطون الكتب، أولئك الذين قسموا أجسامهم على جسوم الناس، وخلفوا آثاراً عميقة تدل على غيرهم ولكنها لا تدل عليهم”.

الثورة لا تعد أحداً بالنصر بقدر ما تطالبه بالتضحية، والتضحية فعل إنساني بامتياز إذا كان واعياً في توجهه للآخر، والانفتاح على الآخر كشريك مكافئ، ضمن عملية عطاء متبادل متوقعة، هو الأساس في بناء المجتمع، ومهما عظمت التضحية، فهي خسارة للديكتاتور وكسب للمجتمع، وهنا لا يصح في تحويل المضحين إلى ضحايا أي مبرر، ولكن حين تكون التضحية ضمن فهم فردي أو فئوي أو مصلحي فيكون الجميع خاسرين لأن النتيجة ستكون زوال كل شيء، والكل في هذه الحال ضحايا، هناك ضحايا الديكتاتور نفسه الذين يقضون في المعتقلات وتحت القصف والتجويع ..إلخ أو حتى في زبانيته وأتباعه فهم ضحايا اغترارهم به، وهناك ضحايا أنفسهم بما يعنيه من دوافعهم للتضحية (ثأراً، من أجل المال، طفيليو الحروب، من أجل الشهرة، من أجل السلطة …إلخ)، ولا يوجد رابح في هذه المعادلة، لذلك عندما تطول الثورات وتعظم التضحيات يترتب على الكتّاب تقديم الرؤية الواعية والموجهة من أجل الحفاظ على رغبة الأجيال في التغيير المستمر كأسلوب حياة، وعدم زجهم في دوائر المظلوميات التي تورث العداء التوحشي تجاه آخر ينبغي أن يكون في يوم من الأيام شريكاً مساهماً في بناء المجتمع، الشاعر كثيراً ما يرتبك –خصوصاً بعد المعارك الخاسرة- بين الذاتي والعام، بين الوطني والإنساني، بين القيمي والوصفي/التفسيري، بين الجمالي والمادي، وهنا وقفت طويلاً أمام عبارة وردت في مجموعة الشاعر السوري (حسن إبراهيم الحسن) يقول فيها:

(في الثورة انتصر الجميع

وعدت  وحدي خاسراً)

وكنت أتساءل: من المؤكد أن هناك الكثير من الخاسرين أو المضحين في الثورات، ولكن، كيف يمكن لثورة أن ينتصر فيها الجميع؟! حتى وجدت ضالتي في (حيرة العائد) لمحمود درويش: (… حين يطول زمن الطوارئ، يجد كل شاعر وقتاً للتأمل في خصوصيته، وليدرك أن فاعلية الشعر تأتي من جماليته، وأن جمالية الشعر تأتي من طريقته الخاصة في التعامل مع الواقع العيني، وتحويله إلى واقع لغوي مجازي.) أي أن مصدر الجمالية هو الواقع العيني لا المتخيل، الواعي لا الحالم؛ هو الفارق البسيط بين المتخيل والمجازي.

عندما يموت الأبطال تبدأ الثورات، وحين يموت آخر الشعراء تموت القضايا، هكذا تصبح الحياة بلا قصيدة منتظرة في جريدة، بديهية متوقعة غير مفاجئة، لا غضب فيها ولا غيرة ولا عنف (إيجابي)، وأنا على المستوى الشخصي أخاف على أمي التي بدأت تخلط بين قصص ولادة أبنائها المتناثرين على خطوط الطول والعرض، وأخشى أن يكون موت مريد البرغوثي علامة موت المرحلة، ولا أريد لهذه الثورة أن تنتهي، أفهم ذلك جيداً حين ترك المعلم الكبير رسالته الأخيرة لشاعر سيأتي بعده.

*العنوان عن (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي)