الاشتغال على ثيمات التغرب والصراع مع الجذور وترسابتها المعقدة، ملمح بارز للروايات التي تتناول تجربة المنفى، والتشظي في بنية الهوية، وما يراود الكائن المغترب من أحلام بالبحث عن مصير مختلف في البيئة الجديدة، لكن ذلك الحلم قبل أن يتحول إلى مشروع. ربما يرتطم بجدار الحنين إلى الأصل، يعالج الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي أزمة الاغتراب وإخفاق المحاولات للانفكاك من الجذور وقتامة الحياة، في بيئة المنشأ، في روايته المعنونة «الحب في المنفى» وقد يبدو هذا الموضوع تكراراً، ولا يضيف الكاتب جديداً إلى رصيد سرديات المنفي، لكن يفاجأ صاحب «ملعون دوستويفسكي» المتلقي بتمكنه في صياغة تشكيلته السردية ومناوراته، في إدارة شخصيات الرواية، ناهيك من البنية المتوازية التي ينتظم عليها خط العمل، إذ يتم الانتقال بين الواقعين، ما يعني عدم التقيد بمنظور واحد في السرد، ومن المعلوم أنَّ هذا الترتيب هو ما يضاعف نسبة التشويق في حركة الرواية ويصعد بالمستوى الدرامي في أجزائها، أكثر من ذلك أن ما يكسب النص خصوصية هو، انفتاحه على القصص الفرعية، وتوافد شخصيات جديدة في تضاريسه، كما تتوارد الإشارات إلى المعالم الحضارية في أفغانستان وما شهدته من التحولات التاريخية.
إذن تتشعب مسارات العمل وتتشابك في فضائه الثيمات المتعددة، من الحب والتغرب والتطرف والهروب، إضافة إلى ما سبق، فإنَّ البعد النفسي في تكوين الشخصيات هو ما يكون تحت المجهر أكثر. يوسف الذي ورث من والده مهنة السقاء ليس شخصية سطحية، كما يتخيل الجميع ذلك، بل يفهم من خلال استبطان الراوي لعالمه المتواري بأنَّه يعاني صراعاً نفسياً وتنهشه الغيرة على «شيرين» زوجة شقيقه. وتتخذ شخصية«لالا باهاري» وظيفة رمزية يكون المراد من وجودها في متن العمل الإبانة عن المراحل التاريخية المختلفة في المجتمع الأفغاني، إذ كان التعايش قائماً بين أفراده قبل تفشي التطرف الديني، لكن هذه الصورة تندثر في عهد طالبان.
صراع مركب
كل ما قدم آنفاً هو لمحة عن الجزء الأول من الرواية، أما الجزء الآخر فلا تنبسط وقائعه إلا مع الانتقال نحو ضفة أخرى في فرنسا، حيث ترى وجهاً آخر من الصراع يتمثل في مساعي «تميم» للانسلاخ من هويته الأفغانية، والانصهار في مناخ حضاري مغاير. والسؤال الذي يلوح بين الفصول التي تتناوبها الشخصيتان الرئيسيتان، أين يتقاطع مصير الاثنتين؟ إن كلاً من «يوسف» و»توم» يعيشان صراعاً نفسيا مركباً، فالأخير كما الأول لا يمكنه إعلان حبه لـ»نوريا» المرأة التي يعتبرها النسخة الأصلية لجميع النساء. وإذا كان شبح الأخ الغائب «سليمان» يمنع «يوسف» من الالتذاذ بحب «شيرين» فإنَّ مغامرة الحب الأول مع «ريما» وذكريات الرحلة والهروب عبر باكستان وصحبة الغربة كل ذلك يؤنب ضمير «توم» لذا لا يجد حلاً لأزمته سوى الارتماء في مصير مجهول، والمضي وراء امرأة يصطدم لاحقاً بما يعرفه عن أطوارها الغريبة وتقمصها للأدوار المختلفة. يبدأ المفصل الذي يدور حول لحظة اللقاء بين «توم» و»نوريا» بعبارة مستلة من أغنية أفغانية قديمة «إياك أن تجتاز وادي الحب ما لم يكن لك قلب الأسد» ويفهم مغزى هذا المقتبس ومداليله مع انجرار «توم» إلى الدوامة اللامتناهية من الأسئلة. إذن ينطلق الكاتب من ثيمة الحب لمناقشة إشكالية الهوية وما يشد «توم» إلى «نوريا» سوى الرغبة الواعية لقطع الحبل السري مع أصله ورسم بداية جديدة في حياته، تخلو من مؤثرات الماضي. واللافت في هذا السياق أنَّ توم لا يعود إلى الكتابة باللغة الفارسية إلا عندما يهم بتدوين رسالة لزوجته ليخبرها بما وقع عليه اختياره، بأن يمضي حياته مع امرأة أخرى .هنا يدخل الراوي إلى مدار أقرب إلى مجال فيلولوجي، إذ يذكر خصائص اللغة الفارسية، مشيراً إلى وفرة صيغة الماضي في بنيتها، في ما ليس للمستقبل صيغة خاصة في قواعدها، لذلك يسميها بلغة الحنين.
والأغرب في هذا المنحى أنَّ «توم» يروم نسف الجسور مع الماضي ساعياً إلى تعميد ذاكرته بدفء امرأة من غير أرومته، غير أنَّ معرفته بـ»نوريا» تعود به إلى تراث الشعر الفارسي وهي تبدي إعجابها بما يقرأه في لحظات مشبوبة بالحميمية. وبالتالي ينفتح قوس السرد على الكلمات والأسماء التي تحيل إلى التراث الفارسي. ولا يصح التجاهل عن وظيفة «نوريا» وما تعنيه بالنسبة لخطاب الرواية. وهي تدرس ترميم الآثار الفنية وتمتد هذه العملية لترميم ذاكرة «توم» وما من الأخير إلا وينطق بكلمة فارسية مع كل قبلة على جسدها. يذكر أنَّ المعتقدات البوذية، تعكس في صيغ وعبارات مبثوثة في الرواية، لاسيما في المقاطع التي يلتحم فيها صوت «لالاباهاري» مع أجواء النص، كما توجد إشارات إلى مبدأ الحلول إذ يقول «باهاري» مخاطباً السقاء عندما تمارس الحب تسهم في خلق العالم.
الملمح الحضاري
تمثل الرواية منصة لمناقشة الروافد الحضارية والثقافية، لذلك لا عجبَ من احتشاد الأعمال الروائية بخطابات ومقولات، وهي امتداد لأنساق وخلفيات فكرية متعددة، وما تحفل به رواية «حب في المنفى» من الأقوال المأثورة وهي محملة بخصوصية البيئة، إضافة إلى وجود شخصيات تنبسط قصصها على بساط السرد. كل ذلك يزيد النص تشويقاً وينزل به ضمن الأعمال الملحمية، أو روايات الأطروحة، وما يشد الانتباه للنص أكثر هو المعمار المحكم والأدوار المحددة للشخصيات، وعدم الاستغراق في المعلومات التاريخية، بل يكون الإيماء إلى بعض المعالم والمزارات كفيلاً بالإبانة عن البعد التاريخي للبيئات، والحال هذه فإنَّ رحلةَ توم إلى هولندا تتزامن مع الاهتمام العالمي بقرار طالبان بنسف تماثيل بوذا في أفغانستان وما أن يسمع «توم» الخبر حتى تتداعى إلى ذهنه حيثيات نقاشه مع «نوريا» بشأن قيمة الأعمال الفنية واعترافها بأن استمتاعها باللوحات الفنية لا يعادلها إلا الارتشاف بالحب.
وبهذا يتواصل النص مع الفن التشكيلي، ما يفتح مجالاً للتخييل أكثر. والأهم في أجندة الكاتب هو الدفع بشخصية جديدة إلى حلبة السرد يسند إليها رفع الغطاء عن هوية رينا التي كانت تنتحل نسباً غير حقيقي، وما أن يكشفَ توم حقيقة اللعبة، حتى يتخيل نفسه قصة «رجل مضحك» لدوستويفسكي،إذ تسرد «روسبينوزا» تفاصيل حياة «نوريا» وهي من أصل أفغاني والدها كاتب مشهور مضى ردحاً من عمره في المنفى قبل العودة إلى بلاده، وتلحق به زوجته، وما يرشح من محتوى «روسبينوزا» أنَّ والد «رينا» كان يفرض على زوجته ارتداء الزي التقليدي في هولندا، وهو يكره النساء. تتسلسل أحداث الرواية والنسق المتوازي الذي ينتظم عليه السرد، يسكب مزيداً من جرعات التشويق والإثارة في جسد النص، كما أن التنوع في توظيف الضمائر يظهر تمكن الكاتب في حياكة مادته الروائية. كما هناك ميل إلى التجريب، خصوصاً في المقطع الذي يستبطن فيه الراوي تخيلات توم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، إذ تتبدى له لحظة وصول رسالته إلى زوجته، وما يقوم به لإصلاح ذات البين مدعياً بأن ما وصله ما هو إلا جزء من مشروع الرواية.
يسدل الستار على فصول الرواية بالإشارة إلى مصير ثلاث شخصيات بصيغة الخبر الصحافي العثور على جثة السقاء ورجم امرأة حتى الموت وشنق عشيقها الهندي وموت رجل أفغاني على طريق باريس إمستردام بحادث السير.
*القدس العربي