كمال الرياحي: الرواية والاستسهال القاتل

0

“ينبغي للإنسان ألّا يكتب إلّا إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي.

صار التطاول على “فنّ الرواية” ظاهرة عالمية في ظل انحسار الشعر وإعراض دور النشر عنه، ويزداد بؤس هذه الظاهرة في العالم العربي، الذي صار يدعي فيه الجميع قدرته على كتابة الرواية، دون معرفة بها ودون امتلاك لأي قدرة إبداعية تؤهله اقتحام أسوارها. ما حوّل هذا الجنس الأدبي الصعب إلى أكثر الأجناس الأدبية انتهاكاً في العصر الحاضر.

فتكتب الكتب في أشهر قليلة وتدفع إلى دور النشر التي تكاثرت، فلا يسقط كتاب رديء من دار حتى يجد داراً أقل شأناً تدعمه وتنشره وتوزعه، وإذا رُفض من كل دور النشر يتجرّأ كاتبه وينشره على حسابه مطلقا عليه “رواية”، عوض أن يرجع إلى نصّه فيعيد كتابته أو يتركه لعمل آخر.

هذا الاستعجال في الكتابة والنشر واحد من أهم المخاطر التي تدفع بفن الرواية إلى التهلكة، فالكاتب أصبح الحكم لأعماله وهو الذي يجيزها في غياب المحرر الأدبي ولجان القراءة الحقيقية. ما أسقط المشهد الروائي في رداءة غير مسبوقة، وأُغرقت السوق بكتب تدّعي الروائية وهي أبعد ما تكون عن الرواية.  

حري بنا أن نذكر بمثال على جدية الكتابة الروائية وصعوبتها وكيف كان الروائي يكتب رواياته. يقول إميل زولا كما جاء في كتاب “في الرواية ومسائل أخرى”، متحدثاً عن فلوبير:” اللحظة التي كان فيها موضوع ذلك الكتاب قد استقر نوعاً ما في ذهنه، وكان قد وضع مخططه على الورق. منذ ذلك الحين، كان يقوم بتجهيز حفاظات الأوراق، ثم ينطلق للبحث عن الوثائق، بالطريقة الأكثر انتظاماً.

كان يقرأ كمّاً هائلاً من الأعمال، وينبغي القول إنه كان في الحقيقة يتصفحها، ذهباً، بذلك الحدس الذي يتفاخر به، إلى الصفحة، أو بالأحرى إلى الجملة التي وحدها نافعة له. كذلك علينا القول إنه لم يكن يحصل، في الغالب، من عمل بخمسمائة صفحة إلا على ملاحظة واحدة، يسجّلها بعناية، أو لا يحصل على أي شيء.

هنا نعرف على تفسير تلك الأعوام السبعة، على أقل تقدير، التي ينفقها على كل واحد من كتبه، ذلك أنه كان يمضي أربعة منها في قراءات تحضيرية. هكذا كان ينجرف، يقذف به مجلد نحو آخر، وملاحظة في أسفل صفحة تحيله على دراسات خاصة، أي نحو مصادر تولد لديه في حينها رغبة في التعرف عليها، وبالتالي تكون مكتبة بكاملها مرت في عمله، كل ذلك يجري أحياناً من أجل مفردة واحدة لم يكن متأكداً منها”.

نشأ مصطلح “التخييل الذاتي” من مثل هذا الشك؛ حيرة كاتب جدي أمام نصه وتردده في أن يطلق عليه عبارة رواية، كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، عندما راسل سارج دبروفسكي، فيليب لوجون (كتاب “هكذا تحدث فيليب لوجون “) ليقول إنه كتب كتاباً لا يبدو أنه سيرة ذاتية ولا يبدو أنه رواية وكأنه شيء من التخييل الذاتي، وهكذا ظهر المصطلح وظهر تيار كامل في الكتابة الابداعية.

ما يعنينا في هذه القصة  هو هذه الجدية التي يتعامل فيها  الكاتب مع نصه ولم يتسرع في تصنيف نصه ولم يتجرأ على وضع كلمة رواية على عمله  وفضّل استشارة كبار النقاد في عصره.

تقدّم لنا القصتان مثالين واضحين على جدية التعامل مع الكتابة، الأولى تذكر بالبحث وضرورة التشبّع بالمعرفة من ناحية، وحاجة العمل الروائي إلى وقت كاف لينضج، بينما تشير القصة الثانية إلى قيمة استشارة الخبراء في علم السرد ومنها لجان القراءة والتحرير الأدبي.

إن التسرّع الذي نراه في الأعمال المنشورة يبدو أشبه بالخروج إلى الصيد دون معرفة بفنونه، فيرتد الرصاص أو السلاح على صاحبه فيصيبه، لأنه لا يكفي أن تملك بندقية جيدة وباهظة الثمن لتكون صياداً ماهراً أو لتنجح في الصيد. فلا يمكن أن تنجح إلا بعد حصص من التمارين التي تؤهلك للخروج إلى الصيد.

وكلما كثّف الكاتب من التمارين صارت قدراته أفضل، لأن التخييل يشبه العضلة التي تحتاج إلى تمرين مستمر لتكتسب مقدرتها وتحافظ على لياقتها. يذكرنا هذا التشبيه بقصة أخرى، هي قصة الروائي الياباني هاروكي موراكامي بالكتابة. يقول في كتابه “عمّ أتحدث حين أتحدث عن الجري”:” بالنسبة إلي، الجري هو تمرين واستعارة.

أركض يوماً بعد يوم، وأقوم بتكديس السباقات، شيئاً فشيئاً، أرفع المستوى، ومن خلال مسح كل مستوى أرتقي بنفسي. على الأقل لهذا السبب أبذل الجهد يوماً بعد يوم: لرفع مستواي. أنا لست عداءً رائعاً بأي حال من الأحوال. أنا في مستوى عادي – أو ربما أشبه بالمستوى المتوسط. ولكن هذا ليس مهماً. المهم هو ما إذا كنت قد تحسنت مقارنة بالأمس أم لا. في الجري لمسافات طويلة، فإن الخصم الوحيد الذي يتعين عليك التغلب عليه هو نفسك، بالطريقة التي اعتدت أن تكون عليه”.

هنا نحن أمام نقطة مهمة وهي المنافسة وانتزاع الاعتراف، فموراكامي هنا، وفي مواطن أخرى من الكتاب، يؤكد على ضرورة منافسة الذات والتغلب عليها. فلا يمكنك أن تخدع نفسك. كل كاتب يعرف مواطن ضعف عمله لكنه يريد في نفس الوقت التخلص منه، لذلك يبقى يطرق أبواب الناشرين عوض أن يرجع إلى نصّه. هذا الكاتب لم يتعود على الركض من أجل تجويد آدائه. 

ومن الأمور التي تضلل كتّاب الرواية هو ما يكتبه عنهم النقاد وخاصة الأكاديميين منهم، فهم يلجؤون إليهم لتقديم أعمالهم ويتباهون بحرف “الدال” أمام اسم المقدم. كما يسارعون إلى إرسال أعمالهم إليهم إثر الطبع أو النشر، ويظل الكاتب يتباهى بتلك المراجعة اللطيفة والكلمات الناعمة التي يغمره بها الأكاديمي.

أغلب الأكاديميين يعيشون على الأضواء، وتقديم الكتب فرصة بعضهم للظهور، لذلك لا يتوقفون عن كتابة مقدمات مجاملة للمبدعين، ونادراً ما تجد تقديماً يتناغم مع مستوى النص. وهكذا يغشّ المبدع نفسه قبل النشر وبعده. وإذا ما كان محظوظاً في بيع عدد مهم من النسخ لاعتبارات غير أدبية، كشهرته في مجال آخر أو عبر ماكينة إشهار أو لإغراء موضوع العمل الروائي، سواء أكان الأغراء دينياً، جنسياً أو أيديولوجياً، فسيزداد ثقة بما كتب ولن يرده عن ذلك الوهم شيء.

يقول هاروكي موراكامي: “في مهنة الروائي، بالنسبة إلي، لا يوجد شيء اسمه الفوز أو الخسارة. ربما تكون أعداد النسخ المباعة، الجوائز التي تم الفوز بها ومدح النقاد بمثابة معايير خارجية للإنجاز في الأدب، لكن لا شيء منها مهم حقاً. المهم هو ما إذا كانت كتاباتك تحقق المعايير التي حددتها لنفسك.

إن الفشل في الوصول إلى هذا الشريط ليس شيئاً يمكنك تفسيره بسهولة. عندما يتعلق الأمر بأشخاص آخرين، يمكنك دائماً التوصل إلى تفسير معقول، ولكن لا يمكنك أن تخدع نفسك. بهذا المعنى، فإن كتابة الروايات وتشغيل الماراثون الكامل أمران متشابهان إلى حد كبير. يمتلك الكاتب في الأساس دافعاً داخلياً هادئاً، ولا يسعى إلى التحقق من صحة ما هو مرئي ظاهرياً”.

إن فلوبير الذي يقضي سنوات أحياناً في تشذيب عمله، والذي لا يريد أن يخدع نفسه، فكأنما يريد أن يكتب كتاباً واحداً يخرجه للناس، كما يقول إميل زولا، هو نفسه الذي يكون في حوزته “قبل أن يكتب الكلمة الأولى من كتابه، ملاحظات مرتبة ومصنفة تكفي لخمسة مجلدات أو ستة”.

بعيداً عن فرنسا وعن اليابان، هناك في أمريكا يعرض لنا فيلم عبقري يتناول سيرة المحرر الأدبي الشهير، ماكس بيركنز، الذاتية، المراحل التي يمر بها العمل الروائي ليصل إلى الناس، وخاصة تلك المرحلة ما بعد الكتابة؛ مرحلة المحرر الأدبي في دار النشر والذي يستعيد كتابة الرواية من جديد أحياناً.

حدث ذلك مع كبار أدباء أمريكا في عشرينيات القرن العشرين كهيمنجواي، وسكوت فيتزجيرالد وتوماس وولف. فإذا كان هؤلاء العظام يستعينون بمحررين أدبيين لكي يشذبوا نصوصهم حتى تجهز للنشر، فما بالك بالهواة اليوم الراكضين نحو المطابع بدفاتر شيكاتهم.

إن كتابة الرواية ليست بالسهولة التي يرفع بها المرء فنجان القهوة، كما يقول موراكامي، بل تحتاج طاقة جسدية وذهنية قصوى وعملاً مضنياً ومتواصلاً يومياً لمدة أشهر، وأحياناً سنوات، لكي يتشكل العمل وينضج. لعل النظر في مخطوط رواية “مدام بوفاري” لغاستون فلوبير، وما اعتراها من تشطيب لآخر نسخة، لدليل أن الكتابة الروائية شطب ومحو وليست تحبيراً.

أما ما عدا ذلك فليس سوى أعمال نيئة وأشبه بالجنين المشوه الذي تحدث عنه ديفيد فوستر والاس؛ أعمال تعجل باندثار الرواية وموتها ميتة شنيعة. فالأجناس الأدبية تتدهور وتنحط قبل أن تغرب غروبها الأخير.

(رصيف 22)