الأحداث التاريخية تقرأ نقدياً بعد انصرامها، توضع على محك العقلانية النقدية فينكشف ما لحق بها من تفسيرات خاطئة أو تأويلات مخلة. تحال بعد ذلك إلى حكم التاريخ ليدينها أو ينصفها. هل هي شكلت تحولاً في الواقع الإنساني، السياسي والاجتماعي، أم أنها أعادته إلى الوراء، وكانت أقرب إلى العبث والفوضى، منها إلى بناء توجهات جديدة ومسارات مختلفة للمجتمع والدولة والنظام. هكذا قرئت ثورة 1789 الفرنسية وثورة أكتوبر الروسية وسواهما من الحركات الثورية في العالم وفي عالمنا العربي، الذي عرف في تاريخه كثيراً من الانتفاضات والانقلابات والحركات الشعبية والاحتجاجية.
ينطبق ذلك على الانتفاضات التي عرفها العالم العربي منذ عام 2011 في تونس ومصر وليبيا والسودان والعراق وسورية، فقد انبعثت مع هذه الانتفاضات أحلام ما سمي بـ”الربيع العربي” في ما بدا تصويباً للمسار الديمقراطي الخائب في تاريخنا المعاصر، أو كأننا عشية صوغ فعل جماعي يعيد بناء مجال سياسي ديمقراطي قائم على عقد اجتماعي وسياسي جديد. وقد أفرط بعضهم في التفاؤل بهذا الربيع المزعوم، حتى أنهم ألفوا شبهاً بينه وبين الثورات الفرنسية والروسية والصينية. ومنهم من رأى فيه “نهضة ثانية” ستضع العرب في قلب السياسة الدولية بعد ما أخفقت في ذلك نهضتهم الأولى في القرن التاسع عشر.
إلا أن موجة التفاؤل التي أعقبت سقوط أنظمة تسلطية في غير قطر عربي، سرعان ما تحولت إلى شعور بالإحباط والأسى إزاء المآلات المربكة للانتفاضات العربية. أعرب كثيرون عن الخيبة والحرج في ما اندفعوا إليه من تهليل واحتفاء بهذه الانتفاضات، فرأى فيها بعضهم “جحيماً عربياً” فيما اعتبرها آخرون خياراً بين السيء والأسوأ أو بين “الهواء الأصفر والطاعون” على حد تعبير أحد كبار الناشطين في الانتفاضة التونسية.
بعيداً من هذه التوصيفات المفرطة في التفاؤل أو التشاؤم، نرى أن ثمة في سلوك الانتفاضات العربية وخلفياتها الإيديولوجية ما أسس لمآلها الخائب. فهي أولاً لم تعبأ بهشاشة الاندماج الوطني في العالم العربي وتردي الدولة التسلطية العربية في بناء العصبة المواطنية وانكشاف قعرها الملغوم بالعصبيات، فكان أن فاجأتها الشروخ المذهبية والطائفية والقبلية مربكة حراكها وتوجهاتها في اتجاه بناء مجتمع ديمقراطي جديد. وهي ثانياً لم تتكئ على خلفية أيديولوجية تغييرية كتلك التي رفدت التحولات الثورية الظافرة في عالمنا الحديث والمعاصر، فلم يكن ثمة قبول لدى جماهيرها أو حتى لدى نخبها، بالمبادئ التأسيسية للديمقراطية، ناهيك بتصور حداثي لأسس السلطة ودور الحاكم وموقعه في المجتمع والدولة. وهي ثالثاً لم تأخذ في الاعتبار التماهي الحاصل في العالم العربي بين الدولة والنظام، الأمر الذي أسس لتقويض الدول في مواجهة الانتفاضات وبرر زعم الأنظمة إلزامية الترابط بينها وبين الذود عن الوحدة الوطنية. وهي رابعاً لم تبن خطابها وتوجهاتها على تصور للعدل الطبقي والاجتماعي، فكان أن بات العالم العربي بجماهيره الكاسحة والفقيرة ساحة للأصوليات التي حاصرت الحراك الديمقراطي.
إلا أن هذه الانحرافات والمثالب التي أحاقت بالانتفاضات وأجهضت وعودها، يجب ألا تطمس مفاعيلها الكبرى والتحولات التغييرية الثورية التي خلفتها في الفكر السياسي والاجتماعي، ما سيمهد مستقبلاً للتغيير المنشود الذي أخفقت في إرسائه. ومن هذه المفاعيل والتحولات:
إعادة الاعتبار إلى مقولة “الجماهير” التي طالما تم الازدراء بها لصالح مقولات “القائد الفذ” أو “الحزب الطليعي” أو “المثقف التنويري”، وألقيت على هؤلاء كل مهام التقدم والتحول الديمقراطي والوحدة القومية والنهوض بالمجتمع المدني. على الضد من هذه التصورات التي سادت المرحلة الأيديولوجية الآفلة، أعادت الانتفاضات العربية الجماهير إلى الصدارة في حركة التاريخ. عادت هي صاحبة القرار في المشهد السياسي، وعاد القائد أو المثقف أو الحزب يلتمس منها المشروعية، جازعاً من مساءلتها ومحاسبتها، راجياً رضاها.
النهضة والتقدم
استعادة الخطاب التأسيسي لليبرالية العربية بتأكيد الحرية شرطاً أولياً للنهضة والتقدم، ما تم تجاوزه في الحقبة الأيديولوجية، حيث أجلت الحرية إلى ما بعد الوحدة العربية أو إلى ما بعد تحقيق الاندماج الوطني، أو إلى ما بعد إقامة المجتمع اللاطبقي. من جديد طرحت الانتفاضات أولوية الحرية وحقوق الإنسان الطبيعية، بوصفهما مناط قيمة الإنسان وجوهر وجوده التاريخي، ما شكّل تحولاً نوعياً في الخطاب السياسي العربي المعاصر.
ج- انكشاف الدولة التسلطية العربية وتناقضها وتهافت شرعيتها. فهي دولة ضارية مدججة بالعسكر والاستخبارات، تقبض على كل مفاصل المجتمع وتصادر قراره وتتوغل في صميم تكويناته الأهلية والسياسية والاجتماعية، وهي في آن دولة خاوية خائرة تخشى مجتمعها وتراقب مذعورة أي تحول ديمقراطي. وقد وضعت الانتفاضات هذه الدولة وجهاً لوجه أمام مأزقها ولم يعد في إمكانها تغطية “لا شرعيتها” بالقوة السافرة، وباتت مجبرة على التماس الشرعية المفتقدة من خلال عقد ديمقراطي جديد.
د- برهنت الانتفاضات للحكام العرب أن سنة التحول والتطور لا بد من أن تكتسح في طريقها كل ما عدّ عصياً على السقوط. أدركوا متأخرين أن السلطة عقد بين حكام وبين مواطنين لهم حقوق وإرادات، وأنها لا بد أن تقيد بقوانين من صنع هؤلاء.
هـ- أكدت الانتفاضات أن مواجهة أصولية المجتمع بتسلطية الدولة تفضي إلى استبداد مزدوج، فطالما خرج الإرهاب الأصولي من تسلطية الدولة. إن التسلطية لا تنجب إلا التسلطية، وطالما كان ثمة اتفاق بين الأصولية والتسلطية، إن في الخطاب الأحادي الإقصائي الرافض للآخر، أو في آلية التعامل مع المجتمع والناس.
هذه العبر والدروس تكفي في رأينا لقراءة الانتفاضات العربية من منظور آخر، وإنصافها تالياً باعتبارها حراكاً تغييرياً لا بد أن تكون له نتائج جذرية في مسار التاريخ العربي على الرغم من كل الشوائب والإخفاقات.
المصدر: اندبندنت