تحقيق: حمدي عابدين
طغت كتابة السيرة الذاتية على أعمال روائية وقصصية لكتاب مصريين ينتمون لأجيال أدبية مختلفة، وأصبحت السيرة بوقائعها وأحداثها ورموزها مادة صريحة للكتابة لدى البعض، بينما استخدمها آخرون بحذر شديد، باعتبارها مجرد رافد مهم لصناعة عمل إبداعي يتجاوز نطاق السيرة ذاتها، ليحلق في آفاق أرحب فكرياً وجمالياً.
في هذه التحقيق آراء لكتاب خاضوا هذه التجربة، ولأحد النقاد المختصين الذين انشغلوا برصد وتحليل هذه الظاهرة.
– الدكتور إيمان يحيى (روائي): مخزن أسرار الكاتب
سيرة الروائي الذاتية هي خزانته ومخزن أسراره الذي يلجأ إليه في أعماله الإبداعية، ليسترجع بعض اللحظات أو التجارب، أو حتى وصف الأماكن بعين الروائي في زمانها. بعض الروائيين يكون إنتاجهم غزيراً، فيضفروه بلقطات من سيرهم الذاتية وسير الآخرين. وهناك روائيون يضعون إلى جانب رواياتهم تجاربهم الذاتية، وذكرياتهم في صيغ أدبية. لعل أهمهم في مصر نجيب محفوظ ويحيى حقي. وهناك روائيون مصريون أخرجوا سيرتهم عبر قالب روائي، ولعلهم الأغلبية. وهذه الأغلبية تحافظ وتتمسك لآخر لحظة في الحياة بذلك المخزون لإبداعاتهم، لعل أشهرهم صنع الله إبراهيم، وفتحي غانم، ومحمد المخزنجي، وبهاء طاهر.
الرواية هنا تعطي للأديب فرصة ليسرد من حياته وتجربته الذاتية دون أن يظهر مباشرة للقارئ. إنها وسيلة للتخفي عند البوح. ولكن دائماً نجد قراء أذكياء يستطيعون اكتشاف ذلك. في روايتي الأولى «الكتابة بالمشرط» وضعت جزءاً كاملاً من حياتي المهنية، وفي روايتي الثانية «الزوجة المكسيكية» كتبت لمحات من سيرتي وتجارب ذاتية، ومشاهدات ذاتية على لسان أبطال عاشوا في زمن غير زماني، ولكنها التجربة الإنسانية التي تأخذ سمات عامة بين حيوات البشر!
أعتقد جازماً أن كتب السيرة الذاتية هي أهم ما يقتنيه الروائي؛ لأنها تعطيه الفرصة للعيش في حيوات أخرى، بإحساسه الذاتي وانفعالاته. وتهبه سرداً موازياً وتاريخاً للمشاعر والأحاسيس والهواجس والأفكار. ليس التاريخ البشري تاريخ أحداث سياسية أو اجتماعية محضة؛ بل هو تاريخ الذات أيضاً.
– صفاء عبد المنعم (روائية): ذات الكاتب مفاجئة
عندما يكتب الكاتب جزءاً من سيرته الذاتية، فهو يراها ذاتاً لا تنفصل عن الواقع، مثلما يكتب عن أي شخصيات أخرى عرفها أو قابلها، وعندما يكتب عن ذاته داخل أي عمل، سواء قصة أو رواية، تكون هذه الذات مستقلة بنفسها عن شخصية الكاتب (المبدع) أو تكون ذاته ذاتاً ممتلئة، أو مرت بتجارب قاسية أو عنيفة، مثل تجربة الموت أو الحب، وهو هنا لا يدخل العمل بنية أنه سوف يكتب عن نفسه، ولكن هي ذات خرجت منه وفوجئ بوجودها.
وأحيانا الكاتب يكتب جزءاً أو مناطق في حياته دون تصريح مباشر، قد يخفي بعض المعلومات أو المناطق لسببين: الأول أنه ربما لا يريد أن يجرح شخصيات تتماس مع هذا الموقف، أو يفضحها بشكل كامل، والثاني حتى لا يفهمه البعض بشكل خاطئ لو فرض وكتب عن خيبة تعرض لها؛ لأن الكاتب إنسان قد يخطئ وقد يصيب.
– أحمد فضل شبلول (شاعر وروائي): تطفئ حرائق المبدع
ربما تكون الرغبة في أن يقول الكاتب شيئاً عن نفسه وعن البيئة التي نشأ فيها، وعما لاقاه في حياته من أحداث، ربما يريد أن يؤشر على مفاصل معينة ووقائع محددة في حياته، ويرغب في أن يطلع الآخرون عليها، وهذا سبب آخر من أسباب كتابة السيرة الذاتية.
في روايتي «رئيس التحرير… أهواء السيرة الذاتية» دُفعت دفعاً نفسياً لأن أكتب جزءاً من سيرتي الذاتية، حتى أستطيع أن أطفئ بعض الحرائق المشتعلة بداخلي التي بدأ لهيبها يخبو بعد كتابة هذا الجزء الذي أضفتُ عليه بعض الخيال، ليصبح عملاً روائياً، وليس مجرد سرد أحداث ووقائع حدثت دون أن يكون لها أدنى صلة بالفن الروائي. لكنني لم أجنح في هذا الجزء إلى الفانتازيا والغرائبي كما حدث في رواية «الماء العاشق» على سبيل المثال؛ خشية أن يخرج العمل من كونه جزءاً من السيرة إلى عوالم أخرى، قد تتعارض مع مفهوم السيرة الذاتية الأدبية. كما أن حياة الكاتب السارد ليست مرتبطة بهذا الجانب فقط، المعني بالصحافة والثقافة والسفر والعمل داخل المطبخ الصحافي. وبالتأكيد هذا الانتقاء كان مقصوداً، فلم يتعرض السارد إلى جوانب أخرى من حياته؛ خصوصاً العاطفية. ولعل فكرة الانتقائية جاءت لتحافظ على قوام العمل وتماسكه في اتجاه معين، أيضاً هناك مناطق لا يستطيع السارد البوح بها؛ لأنها ربما تمثل فضائح لأناس معينين في حياته، لا يملك شجاعة الكتابة عنهم.
– الدكتورة نجاة علي (شاعرة): الكتابة مرآة لسيرة الكاتب
لدي اعتقاد قديم بأن كل كتابة أدبية تحمل في طياتها أطرافاً من سيرة الكاتب الذاتية أو الفكرية، وأنه يمكننا من خلال القراءة أن نرسم صورة متخيلة عن مؤلف العمل في أذهاننا، وإنْ ظلت صورة غير مكتملة. وحين يقرر الكاتب أن يكتب سيرته الذاتية فإنه يمنحنا بذلك فرصة لاستكمال هذه الصورة الناقصة التي رسمناها له من قبل. هناك من يرى أن كتابة السيرة الذاتية تنهض بالأساس على تقديم عصارة أو خلاصة تجربة أو تجارب إنسانية عاشها الكاتب؛ لذا فإن هناك عدداً من المبدعين يرون أن كتابة السيرة الذاتية في وقت مبكر من العمر هي كتابة ينقصها كثير من العمق والخبرة في التجربة، وتحرم الكاتب من أن يجعل عمله أكثر ثراءً لو أنه تمهل حتى ينضج وعيه الجمالي وتجربته الحياتية.
من يكتبون سيرتهم مبكراً يقعون تحت هوس الرغبة أو الاعتقاد بأن كتابة سيرة ذاتية مليئة بالنميمة والفضائح، تجلب لهم الشهرة، وهو أمر به استسهال واستهانة بقيمة الأدب.
وهناك كتاب أيضاً يندفعون إلى كتابة السيرة الذاتية بغرض تقديم كتابة أقرب للكتابة الاعترافية، رغم أن هناك قيوداً كثيرة ما زالت موجودة على الإبداع في العالم العربي، لأي كتابة تخترق التابوهات. وفي تصوري الشخصي أن أي كاتب يُقدم على كتابة سيرته الذاتية أو أي عمل أدبي آخر، لديه بالتأكيد دوافع خاصة؛ سواء جمالية أو نفسية، أو حتى الرغبة في التعبير عما يعتمل داخله ولا يجد شكلاً أدبياً ملائماً له سوى السيرة الذاتية، وكل ما يكتبه عن حياته يحمل وجهة نظره ورؤيته للعالم خاصة، فهو ينتقي الزوايا والأحداث والأسلوب الذي يساعده على إيصال وجهة نظره.
لكن ينبغي أن ننحي عن أذهاننا تصور أن الكتابة لا بد من أن تحاكي الواقع؛ لأن الكاتب لا يقول الحقيقة الحرفية عن نفسه أو العالم من حوله، ولا ينقل الواقع أو يسجله؛ بل يسعى إلى تفكيكه وإعادة رؤيته من خلال وعيه ومنظوره الجمالي. هناك مبدعون يسعون لإظهار سيرتهم الذاتية بقدر من المثالية، وهناك مبدعون على العكس تماماً يكتبون بعصب عارٍ، ورغبة محمومة في اكتشاف ذواتهم أو علاقتهم بالعالم. وبالنسبة لي حين أقدمتُ على كتابة يوميات «الطريق إلى التحرير» كنت مدفوعة برغبة عارمة في تسجيل لحظات استثنائية عشتها لأول مرة في حياتي، وكنت شاهدة عليها، فجاء الكتاب مزجاً بين أطراف من سيرتي الذاتية وبعض الأحداث التاريخية في ثورة يناير (كانون الثاني).
– الدكتور خيري دومة (ناقد أدبي): دوافع متشابهة
كتابة السيرة الذاتية على هذا النحو الروائي، أمر حديث نسبياً، ومختلف عن كتابة القدماء لترجمة حياتهم. كان القدماء يكتبون في العادة الحقائق الثابتة عن حياتهم ومؤلفاتهم، أما المحدثون فيستعيدون حياتهم من البداية معتمدين اعتماداً كبيراً جداً على الذاكرة، ولهذا تلعب الذاكرة الدور الأكبر في اختياراتهم، وفي تلوين الذكريات بلون الحاضر.
ربما كانت دوافع كتابة السيرة الذاتية لدى القدماء والمحدثين متشابهة، وهي فكرة ترك أثر يبقى، وتستطيع الأجيال القادمة أن تلمسه، وربما تفيد منه؛ لكن الطريقة التي يستعيد بها المحدثون سيرهم تفتح مساحة واسعة للمراجعة الخيالية مع الذات أحياناً، وللرد والانتقام أحياناً ممن أعاق رحلتهم. وهذه الاستعادة تحركها دوافع قوية، محسوسة أحياناً، وغير محسوسة أحياناً أخرى.
والمثال الشهير على ذلك «أيام» طه حسين التي يستعيدها بعد أزمة كتاب «الشعر الجاهلي» رداً على القوى التي يراها مسؤولة عما وقع له، وكيف تغلب عليها حتى يصل إلى هذه النقطة من حياته. والمثال الثاني الدال الكتاب الصغير الجميل الذي كتبته لطيفة الزيات تحت عنوان «حملة تفتيش أوراق شخصية»، وبدأت كتابته في أعقاب سجنها عام 1981، ليصير مراجعة عميقة لنفسها، واكتشافاً لمنحنيات حياتها.
وطبعاً حين نفتح صندوق الذاكرة يأخذنا إلى مناطق لم نخطط لها ولم نكن نراها، تماماً كما يحدث في كل كتابة إبداعية، وتتدخل القوة المنظمة لتعيد ترتيب الوقائع التي تترى على الذاكرة، وتضعها في نسق دال أقرب إلى الرواية في حبكتها العامة وفي تفاصيلها أيضاً. لذة الاستعادة هذه واللعب بها، هي ما يدفع الكتاب المحدثين إلى كتابة سيرتهم الروائية، حتى لو كانوا في مقتبل حياتهم. والأمثلة كثيرة جداً لدى جيل الكتاب والكاتبات المعاصرات اللواتي استعدن وقائع شخصية وحولنها إلى «رواية»، مثل «دنيا زاد» لمي التلمساني، و«قميص وردي فارغ» لنورا أمين… وغيرهما.
في هذه الكتابات تنمحي الحدود تقريباً بين الكتابة الإبداعية عموماً، شعراً ورواية وقصة وسينما ومسرحاً ومقالات، وبين عناصر من السيرة الذاتية تستعاد من الذاكرة، فتصبح أوغل في الخيال. والمسألة لا علاقة لها بالأمانة، ولا حتى بالانتقام من أحد، ولا بعملية إخفاء ناتجة عن مخاوف من الفضائح والمواجهات مع الأحياء المذكورين في السيرة، وإنما منبعها هذا الإيمان بانمحاء المسافة فعلاً بين الواقع والخيال.
أعتقد أن كتابة السيرة الذاتية كانت حاضرة على مدار التاريخ؛ لكنها تحولت في العصور الحديثة، وأفسحت للخيال الإبداعي مساحة أوسع وأعمق وأكثر تأثيراً. فحولت نصوص السيرة الذاتية من وثائق نعود إليها إلى روايات لا يمكن الاعتداد بواقعية ما يجري فيها.
*الشرق الأوسط