كاتيا الطويل: الخياطة الصغيرة لا تجرؤ على الحلم في مجتمع ذكوري

0

قارئ رواية “حلم ماكينة الخياطة” للكاتبة الإيطالية بيانكا بيتسورنو (Bianca Pitzorno)  في ترجمتها العربية الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط (ترجمة وفاء عبد الرؤوف البيه)، يجد نفسه منهمكاً بأخبار مدينة بعيدة في جنوب إيطاليا منتصف القرن العشرين. فبين قصة خياطة صغيرة لا تجرؤ على الحلم، وقصة ماكينة خياطة، تحمل الرواية بين خيوطها أخبار مجتمع ثرثار محافظ أسير صراع الطبقات، يتجلى الاستبداد اللاحق بالنساء وحلمهن الخجول بإيجاد الحب والاستقرار والسعادة.

تخبر الكاتبة بيتسورنو، المعروفة عموماً بكتاباتها في أدب الأطفال واليافعين قصة راوية ومدينة وحقبة محافظة من تاريخ إيطاليا، وذلك بأريحية وسلاسة تُخرجان الرواية من أي تصنيف، فلا هي رواية واقعية تماماً، ولا هي قصة حب، ولا هي رواية سياسية أيديولوجية تشكو صراع الطبقات. هي ببساطة رواية عن زمن ولى، قصة بسيطة إنما مشوقة ومثيرة للاهتمام والفضول.

تنقل المترجمة وفاء عبد الرؤوف البيه، بلغة جميلة جزلة قصة راوية خياطة وقصص النساء المحيطات بها. رواية “منسوجة” بجمالية وحنين وبساطة تتلاءم والراوية، ليكون النص هو المتحدث بلسان حال هذه الخياطة البسيطة ولسان حال أهل طبقتها الاجتماعية من فقراء المدينة ومهمشيها.

وبعيداً عن أي وعظ أو مواجهة مباشرة مع القارئ أو حتى أي إشارة لمرسلة سوسيو- أدبية واضحة ومحفزة بشكل صارخ، تتمكن الراوية من نقل حال نساء جنوب إيطاليا منتصف القرن الماضي، وحال فقراء ذلك العصر الذين يعيشون في ظروف صعبة ويضطرون لاحتمال ضروب الذل والظلم ليؤمنوا خبزهم، فتقول الراوية بكل بساطة وكأن المسألة مفروغ منها، “من المعروف أن السادة يتحكمون والخدم يتحملون”. (ص: 200). وبين أمراض السل والكوليرا وداء الرئة، بين الفقر والبرد والعوز يصبح الحلم نفسه بعيد المنال، حلم الخياطة الشابة بالخلاص والاكتفاء والحب، فكيف ينجو الحلم من براثن الأرستقراطية والذكورية؟

نساء في مجتمع محافظ

يتعرف القارئ في رواية “حلم ماكينة الخياطة” إلى الفتاة الخياطة الطيبة الفقيرة التي ربتها جدتها وعلمتها مهنتها، ألا وهي الخياطة طبعاً. سبعة فصول آخرها بعنوان “الخاتمة” تنقل أخبار راوية صغيرة تكبر على صفحات الرواية، وتكتشف المجتمع المحيط بها. وبينما هي تنمو وتكتشف وتسير مع ماكينتها في أزقة مدينتها، يكتشف القارئ هو الآخر جوانب هذه المدينة الأكثر قتامة وبؤساً وفقراً. ويكتشف النساء والرجال والأحكام المسبقة والأحكام الظالمة والمؤامرات وخبايا البيوت. ويكتشف الذكورية والتعنت والتقليدية القاتلة للأحلام.

وعلى اختلاف طبقاتهن الاجتماعية ومستويات تعلميهن، تخضع نساء “حلم ماكينة الخياطة” لأنظمة مجتمع ذكوري لا يمنح المرأة حرية وحقوقاً تضاهي تلك التي يملكها الرجل، حتى نساء الطبقة المخملية من المجتمع يخضعن لأعراف تقليدية متفق عليها بشكل ضمني، أعراف يجب أن ينصعن لها لحماية سمعتهن وتأمين زوج ثري وملائم من عائلة مناسبة.

تقدم بيتسورنو على لسان راويتها الخياطة، نساءً من الطبقة الأرستقراطية كمثل الآنسة إستر وسيدات عائلة آل بروفيرا والصحافية الأميركية. جميعهن نساء متمردات متعلمات مثقفات، إنما يتحركن في إطار مجتمع بطريركي ذكوري يحدد أطر المقبول والمرفوض. وعندما يتمردن، نادراً ما يمر الأمر من دون عقاب. ففساتين سيدات آل بروفيرا يكلفنهن حياتهن الاجتماعية ومستقبلهن بأسره، وثقة الصحافية الأميركية بنفسها ورغبتها في تحقيق العدالة الاجتماعية، تكلفها إهانة علنية عندما يرمي بوجهها أحد السادة جملة بذيئة مضيفًا، “هؤلاء الأميركيون همج حقيقيون” (ص: 100)، والآنسة إستر بحاجة دوماً لحماية والدها ليكفيها المجتمع شره. فإن كانت هذه حال نساء أبرز عائلات المدينة، كيف بالفقيرات المعدمات؟ كيف هي أمور شبيهات الراوية الفقيرة المسكينة؟ هل يجرؤن على الحلم؟

وكيف يجوز الحلم في عالم تصبح القراءة نفسها فيه تهمة موجهة ضد النساء، جريمة يجب إخفاؤها عن العيون، فتقول الراوية عندما كانت تتحضر لتمضية عدة أيام في دير قرب البحر، “وضعتُ في السلة أولاً إحدى الروايات، بدلاً من المناديل. ثم فكرت أنها لن تترك انطباعاً جيداً لدى الأخوات، الخياطة أفضل” (ص: 149)، فقد كانت القراءة آنذاك بحسب المجتمع مؤذية، لأنها تجعل القارئة حالمة لا تستطيع التفرقة بين الروايات والواقع. وكأن الواقع بمآسيه لا يكفي، فتصبح القراءة نفسها مأخذاً لا مخرجاً.

وكما يقول المثل “ألد عدو للمرأة إنما هو المرأة نفسها”، تظهر الدونا ليتشينا لتجسد بكل قسوتها وجبروتها وعنجهيتها ظلم المجتمع الذكوري التقليدي المتحجر الذي يجلد ويحكم ويبطش من دون رأفة أو تعاطف. تجسد الدونا ليتشينا الطبقة الأرستقراطية العتيقة المتمسكة بعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها التي تمسك بقبضتها مصير طبقة اجتماعية بأسرها.

صراع الطبقات

تُجسد الراوية التي يجهل القارئ اسمها واسم جدتها التي ربتها، مأساة صراع الطبقات الاجتماعية في أوجها، وذلك بلغة سردية زاخرة بالحنين والتمرد الساذج. إن نظرية ماركس وفلسفته التي تفسر قضايا المجتمع وانقسامه إلى طبقات بحسب الثروات والممتلكات جزء لا يُستهان به من الفضاء السردي الذي يؤطر أحداث الرواية ويحركها، وإن حبكت الكاتبة هذه المسألة بحنكة سردية هادئة لامرئية.

يلاحظ القارئ انقسام المجتمع الإيطالي الموجود في الرواية إلى أغنياء وفقراء، أولاً عبر اللغة التي تبدو ساذجة هادئة، ولكنها مطعمة بالتوترات القائمة بين الطبقة الحاكمة في المجتمع، وهي الطبقة المخملية أو الأرستقراطية، وبين طبقة العمال الكادحين من عامة الشعب أو البروليتاريا، فيحفل النص بعبارات كمثل، “نحن وأفراد طبقتنا” أو “نساء طبقتي الاجتماعية”، أو “كنتُ واعية بالمسافة الاجتماعية الشاسعة التي تفصل بيننا، وما هية موقعي”. فتكثر التعابير التي تشير ببساطة إلى “ضفتي الهوة التي تفصل بيننا” (ص: 192) أي بين الأغنياء والفقراء.

وإضافة إلى هذه التعابير، يقع القارئ على كتابة مشبعة بالـ “نحن” أي طبقة العمال الكادحين من المجتمع والـ”هم” أي علية القوم وأغنياء المدينة، ليحصل اصطفاف عفوي سريع للقارئ في لاوعيه. يرى القارئ نفسه منحازاً إلى الطبقة الكادحة من المجتمع، فيضحك إلى جانب الجدة في كل مرة تقول فيها بشيء من السخرية اللاذعة “كلما امتلكوا نقوداً أكثر، زاد جنونهم” (ص: 15).

تتمكن راوية “حلم ماكينة الخياطة” من جر القارئ إلى صفها الاجتماعي وصراعها، بلغتها الهادئة والأحداث التي تتناولها وقصة الحب التي تعيشها والتي يرى القارئ نفسه يتحالف معها لإنجاحها. ولا تتوانى الراوية في إدخال القارئ إلى فضاء الرواية الداخلي ونسيجه، فتروح تتحدث إليه مباشرة في عدة مواضع قائلة، “سيغفر لي القارئ” (ص: 29) ؛ “ستغفر لي، أيها القارئ، إذا بدأت أنا أيضاً” (ص: 164) ؛ “تريد، أيها القارئ، أن تعرف ما حدث لي بعد الوقائع التي قرأتها للتو،” (ص: 246)؛ يتحول القارئ إلى شخصية من شخصيات الرواية، شخصية تسأل وتستفهم وتعترض وتنحاز، وكأن الراوية أرادته شاهداً وحليفاً وحكماً.

وبين نساء يحاولن الحلم وبلوغ السعادة والاستقرار، وطبقة من الفقراء المهمشين الذين يكدحون ليل نهار للحصول على لقمة عيشهم، ماكينة خياطة صغيرة وفتاة حالمة وقصة حب يلتهم القارئ الصفحات ليعرف كيف ستنتهي. فهل يتحقق الحلم؟

*اندبندنت