حمزة رستناوي
طبيب وشاعر وكاتب سوري
أوراق 11
أوراق الدراسات
(1)
يُستخدم مُصطلح العقيدة في سياقات مختلفة منها ايجابي من قبيل “نحن المؤمنون بالعقيدة الصحيحة – فلان عقيدته قويّة وراسخة و قد مات شهيدا في سبيل الله ونشر عقيدة الاسلام” الخ. ومنها ما هو سلبي “هو يعتقد بذلك اعتقادًا راسخًا، وليس ثمّة فائدة من نقاشه! – العقائديون لا يصلحون للعمل السياسي وخدمة المجتمع” الخ. ويستخدم مُصطلح العقيدة كذلك إما في سياق ثقافي اجتماعي عام، أو سياق فئوي ديني خاص حيث يصنّف رجالُ الدين العقيدةَ الاسلاميّةَ كمقابلٍ للشريعة الاسلامية، الأولى ذهنية ذاتية أم الثانية فهي عملية وقائعية مُصدّقة للعقيدة. يُعرّف المعجم الفلسفي العقيدة (دوغما) بكونها “الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده و يرادفها الاعتقاد والمُعتقد وجمعها عقائد، والعقيدة هي الرأي المُعترف به بين أفراد مذهب واحد كالعقيدة الرواقية والعقيدة الماركسية ..والاعتقادية أو الوثوقية مذهب الذين يؤمنون بقدرة العقل على الوصول الى اليقين؛ وهي ضد الريبية والانتقادية” (المعجم الفلسفي – جميل صليبا- ج2- ص92).
بمراجعة المعاني والدلالات المختلفة لمفهوم العقيدة يمكن الاتفاق على ما يلي :
أوّلا- لا يوجد عقيدة واحدة، أو اعتقاد واحد شامل لكلّ البشر. دائمًا هناك عقائد واعتقادات ومعتقدات تختلف بين شخص وآخر، بين مجتمع وآخر، بين عصر وآخر، أو حتى عند الشخص نفسه قد تختلف بمرور الوقت.
ثانيا- يقوم الاعتقاد على الإيمان بالغيب، وموضوعات العقيدة غير تجريبية أو غير قابلة للتجريب، وبالتالي يمكن تعريفها كنقيض أو كمُنفصِل عن مجال العلم التجريبي أو القابل للتجريب بالضرورة، و في الفلسفة يطلق مصطلح الميتافيزيقيا , أي ما وراء الواقع وغير التجريبي, على أبحاث العقائد الدينية وغير الدينية بما يشمل الفلسفات المثالية و المادية معا.
ثالثًا- ترتبط العقيدة والاعتقاد عادة و في العموم، بادعاء الجزم واليقين واحتكار حقيقة تخصّ المؤمنين بها دون غيرهم، فالعقيدة الفئوية هي ذات توتّر و ايقاع عال وامتداد انغلاقي على جماعة المؤمنين.
(2)
العقائد اللا- دينية, هي أشكال عقائدية دنيوية لا تُعنى بمواضيع الألوهية وحياة ما بعد الموت, ولكنّها تسلك سلوكا مشابها للعقائد الدينية ,في إيمانها و تأكيدها على يقينيات فئوية مشتركة بين جماعة المؤمنين بها, ورفضها التشكيك في هذه اليقينيات, وانغلاقها على أفكار وطقوس و شعارات خاصة تقدّسها جماعة المؤمنين.. لا يوجد فروقات جوهرانية بين العقائد الدينية والعقائد اللا- دينية، كلاهما يقوم على اعتقاد و يحتوي جانب ميتافيزيقي صريح أو خفي، حيث يمكن للإنسان أن يُضحي بنفسه في سبيل الله أو الإسلام أو المسيح أو البروليتاريا أو القبيلة أو سوريا الكبرى أو كردستان الكبرى أو الوطن ..الخ.
للعقائد اللاـ دينية أشكال متعددة منها (العقائد القومية – العقائد الحزبية – العقائد العائلية – العقائد الشخصية وعقيدة الوطنية وعقيدة العلمانوية ..الخ( التكفير في العقائد الدينية قد يصبح تخوين في العقائد اللا دينية, والنبي أو الإمام في العقائد الدينية قد يصبح زعيمًا مُلهَمًا في العقائد اللا دينية, وطقوس العبادات والشعائر الدينية تصبح أناشيدَ وشعاراتٍ وسلوكيات مُلزمة للجماعة.. مثلا شعار ” أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة ” في العقيدة القوميّة البعثيّة، سوف يشابه شعار ” لا إله إلا الله، محمد رسول الله ” في العقائد الدينية الأسلاموية، ومن يرفض ترديد الشعارين في النُّظم الشّمولية البعثية أو الإسلامويّة سوف يتعرّض للنبذ الاجتماعي والسياسي، و بما قد يصل إلى عقوبات بدنية قاسية. لنلاحظ أيضًا السياقات المتشابهة في استخدام ثنائيات من قبيل تقدّمي / رجعي أو اشتراكي / رأسمالي في النظم الماركسية، أو ثنائية مؤمن/ كافر في النظم الدينية الاسلاموية، أو ثنائية مستضعفين / مستكبرين في أدبيات الثورة الاسلامية الخمينية مثلا، أو ثنائية وطني / خائن .. الخ في العقائد الوطنية و القومية مثلا.
(3)
كلّ العقائد الجوهرانية – الدينية منها والدنيويّة – تقوم على فكرة المظلومية التاريخية والتفوق الحضاري، من خلال قراءات انتقائية للتاريخ وتزويره لإثبات هذه المظلومية والتفوق المزعوم. ومن هنا كانت الحرّية والبحث العلمي الرصين هما من ألدِّ أعداء العقائد الجوهرانية وسائر أصناف الأشخاص العقائديين والأحزاب الشمولية.. تستند العقائد الجوهرانية إلى مفهوم القطيعة المعرفية والقطيعة التاريخية مع العقائد والتاريخ السابق لها، حيث تصوّر نفسها كفتح تاريخي جديد غير مسبوق مع المبالغة في تقديم إيجابيات نفسها، والمبالغة في تقديم سلبيات التاريخ السابق لها، ونجد ذلك في أدبيات العقيدة الأسلامية مثلا في تفريغ تاريخ العرب والعالم قبل الاسلام من أي محتوى إيجابي وحضاري.. ووصفه بالظلام والجاهلية؛ وكونهم مجرّد كافرين ومشركين وإظهاره على أنه عصر “أبو جهل وظاهرة وأد البنات” ونجد ذلك في أدبيات العقيدة اليهودية؛ في اختصار حضارات المصريين الفراعنة والكنعانيين والبابليين إلى مجرد كفار من عبدة أوثان، ونجد ذلك في الماركسية عبر شيطنة الرأسمالية وتصوير الشيوعية كخلاص مشترك ونهائي للبشرية بقوة الحتمية التاريخية! و نجد ذلك في العقيدة البعثية في سوريا مثلا؛ عبر إخفاء وإهمال ذكر التاريخ السوري ما قبل انقلاب آذار 1963عندما استلم الضباط البعثيون السلطة، واختصار هذا التاريخ في عبارة (الانقلابات العسكرية) حيث يجري إهمال ذكر تجربة ديمقراطية غنية مهمة عاشها السوريون في حقبة الخمسينات، تجربة ديمقراطية أتاحت لحزب البعث العربي الاشتراكي المشاركة في انتخابات تنافسية والمشاركة البرلمان وصنع القرار السياسي، وعلى النقيض من ذلك حالما استلم الضباط البعثيون السلطة في انقلاب آذار أصبح الانتساب إلى أي حزب سياسي غير حزب البعث العربي الاشتراكي بمثابة خيانة وطنية أو جريمة تعرّض صاحبها لمخاطر بما قد يصل إلى التصفية الجسدية، ولو سألتَ عموم و حتى المثقفين السوريين من كان رئيس سوريا قبل حافظ الأسد ..الغالبية العظمى لن تعرف الإجابة!
(4)
العقائد الدينية بدورها قد تتحوّى عقائدا لا- دينية ضمنها كما في حالة اشتقاق الصهيونية من اليهودية؛ أو في حالة الأشكال الطائفية للعقائد الدينية .. حيث نجد مثلًا مسلمًا سنّيًّا أو شيعيًّا أو مسلمًا علويًّا غير مُتديّن يؤمن ومتحمس لعقائد فئوية سياسية (إيديولوجيات) في فهم أقرب إلى القومية والعصبية الاجتماعية السياسية، وفي ضوء هذا يمكن فهم ظاهرة ( العلوية السياسية).
(5)
من الضرورة بمكان التأكيد على ما يلي عند تناول موضوعات العقائد الدينية و اللا-دينية أيضا:
أ – العقيدة – أيعقيدة –توجد و بأشكال و صيغ و تفسيرات متعدّدة, منها ما هو أكثر أو أقل حيويّة بالمقارنة , ولا توجد عقيدة صالحة بالمطلق أو عقيدة قاصرة بالمطلق.
ب- لا يوجد جوهر ثابت لأيّ عقيدة، فكل العقائد في النهاية – وفقا لنظرية المنطق الحيوي – هي أشكال حركية احتوائية احتمالية نسبية، تؤثّر وتتأثّر بالأبعاد الأخرى للكينونة الاجتماعية من سياسة واقتصاد واجتماع وجغرافيا وديموغرافيا وتكنلوجيا وتاريخ ولغة وغيرها.
ج- الفهم العنصري المُغلق أو الشكل الجوهراني، ليس هو الشكل الوحيد للعقيدة, و لكنّه في الحالة السورية والعربية هو الأكثر حضورًا، بما يشتمله من العقائد الدينية و اللا- دينية ايضا.
د- ليس ثمّة قصورٌ في اللجوء الى العقائد والغيبيات مادامتْ هذه العقائد لا تتعارض أو تؤكّد على أولوية الحياة والعدل والحرية وتحترم حقوق الانسان والآخر المُختلف.
في النهاية من الضروري تحاشي التعميم لكون تعميم القصور على أي عقيدة دينية أو غير دينية هو بحدّ ذاته ازدواجيّة معايير، وقد تطرّقنا في هذه العجالة الى الأشكال الجوهرانية الانغلاقية للعقائد فقط، لكونها أكثر خطورة على المؤمنين بها قبل غيرهم .. وفقط للتأكيد على ضرورة تجاوزها باتجاه انفتاحي أكثر انسانية وأكثر حيوية.