قضاء الوطر: قصة لم يكتبها عزيز نسين

0

أحمد عمر

مجلة أوراق العدد 13

قصص

كبرنا، واكتهلنا بسرعة، وأصبحنا نخجل من أجسامنا الكبيرة، ينظر إلينا آباؤنا متحسرين، فيغضّون الطرف عنّا، فهم يعرفون الحال، ويعلمون أن ليس لنا سوى جمع الحطب في الغابة أو الانتساب إلى الجيش أو أن يضحوا بنا فيقذفوننا إلى المدن الكبيرة فيخسروننا فالمدن الكبيرة مفترسة. وهم يضنّون بنا على مهنة الجيش القاسية، والحطب رخيص فأهل البلدة فقراء، وهم يجمعون الحطب بأنفسهم.

 نحن شباب هدر.

 كنا ثلاثة أصدقاء وأحيانا نصير خمسة، نجتمع كل مساء فنلعب الكوتشينة، والكوتشنية صور شياطين وملوك متصارعين، هي لعبة شعوذة، فنتخاصم على الربح والخسارة، بعد أن ينزغ الجوكر بيننا، ونشرب الشاي حتى  نتضلّع منه، والشاي والسكر من كدّة آبائنا، وآباؤنا من عصر السلطان عبد الحميد، لهم بيوت كبيرة وفي بيوتهم أمتعة  كثيرة يمكن بيعها في سوق الشرقيات في المدن الكبرى، ولم نكن نفكر في شيء سوى قضاء الوطر، الوطن امرأة، كنا نبعث بالرسائل إلى أصحابنا الذين هاجروا إلى بلاد الروم، يالجين أصبح في أمريكا و مراد في ألمانيا و ميمد في السويد، وكانوا يرسلون لنا صورهم مع سياراتهم أو كلابهم أو نسائهم الشقراوات، فنتلمظ حسدا وغبطة ونفكر في الهجرة، لكن لم نكن نجيد السباحة، وليس عندنا أجرة العبور وأتعاب المهربين ولا جرأة لنا على المغامرة، ولم نكن نثق بهم، فنسأل في الرسالة يالجين الأمريكي ونحن نحدُّ النظر في صورة الشقراء إلى جانبه التي يفيض جمالها حتى يكاد يحرقنا.

 يالجين الزفت أهذه مضيفة طيران؟ هل هي صديقتك أم أنك استوقفت صبية في الشارع وسألتها الصورة؟ نحن نعرفك أنت مخادع ومحتال وباذنجانة مشوية.

 فيرسل صورة جديدة وهو يضمها، فنحدُّ النظر بحثا عن غشٍّ في الصور، ونتأكد أنها صورة حقيقية فيسقط في أيدينا. قال إن بلاد الروم كلها تطير، هي قارة تطير، ثم نسأله هل تقضي الوطر يالجين الباذنجانة المشوية فيقول: إنَّ ظهره يؤلمه من قضاء الأوطار، ليس أسهل من قضاء الوطر، لقد أصيب بالتخمة الوطرية، وبات يهرب من الصديقات الجشعات الطامعات في الوطر.

 ويرسل لنا مراد المدحلة صورة مع سيارته الحديثة التي لا يركبها حتى الوالي في الولاية أو ميمد كعب الدست الذي يعمل في خدمة الكلاب، كلاب لها أطواق، وقلائد في رقابها، وصالونات تجميل، ومسابقات جمال، وجري، ويقول لنا في الرسالة أنَّ طعام كلبه يعادل راتب الوالي عندنا فنكاد نموت من الحسرة والكمد.

 يقول صاحبنا ايردال وهو يدقِّق النظر في الصور: يجب أنَّ نعترف أنهم صادقون، صورٌ حقيقيّة لا شك فيها. لقد غلبنا الروم وسبقونا هذا المرة.

 ونرسل رسالة جديدة ونقول في كل رسالة: ساعدونا في الوصول إلى بلادكم الكافرة. فيرسلون لنا رسائل فيها كثير من الشتائم يقول لنا يالجين أننا جبناء، ويقول ميمد كعب الدست أنَّ الحياة السعيدة لا يستحقها سوى الشجعان الذين يعبرون البحار ويكاسرون الأهوال، ويقول مراد المدحلة أنَّ بنا سخطة، ونسألهم عن صديقاتهم الجميلات، مضيفات الطيران، فيقولون إنهن صديقات بلا مهور، مثل العافية في البدن، وقد قبلن بصداقتهم بلا أجر، يا عزيز نحن مثل ذكور النحل والدبابير، ونكرِّر القراءة: من غير مهر! فنتحسر فالزواج هنا مستحيل، لارتفاع المهور ويبدو أنّنا سنموت قبل أن نقضي الوطر.

 طلبنا من يالجين الباذنجانة أن يرسل صورة لنساء عاريات، ففعل، وحمدنا الله أنَّ الدولة التي تتجسس على كل شيء، وتسرق كل شيء، عفت عن سرقة الصورة فوصلت إلينا، وعرفنا أنها فتحت المغلّف، وحمدنا لها هذا الكرم.

 قال صاحبنا أيوب أوغلو:

 الحقيقة ليس أمامنا سوى مهنتين أمّا أن نمسح الأحذية وإمّا أن نعتكف للعبادة.

 ولم يكن في بلدتنا سوى ماسح أحذية وحيد، هو إسكافي وينّظف الأحذية، ولم تكن الناس تنظف أحذيتها فهي بلدة موحلة شتاء مغبّرة صيفا لكن يبدو أنَّ بعض الرجال كانوا ينظفون أحذيتهم لمناسبة العرس أو الموالد، أما مهنة الاعتكاف فكانت الحكومة العلمانية التي أسقطت الخلافة قد أغلقت المسجد، ونزح إمامها إلى الغابة وكان يتحين الفرص فيغير على البلدة في غياب الحامية العسكرية ويؤذن كل شهر مرة ثم يهرب مرة ثانية إلى الغابة.

 أمسى أيوب مدرسا، لكنَّ أجره قليل، ويقول إنّه يخجل من الطلاب، ويحتاج الى سنين ضوئية لقضاء الوطر وقال لنا في درس الجغرافية: أنَّ بلادنا تشتهر بكثرة ثرواتها المائية والطبيعية وبحارها وثروتها السمكية وكاد أن يقول: وتشتهر بانحباس المطر ولا يُقضى فيها الوطر. خطب أيوب جارته فطلب والدها مهرا كبيرا فقال أيوب: انا سأتزوج يا مولانا ولن أشتري طائرة! هذا سعر طائرة.

 أخبرنا يالجين في رسالة إنّه هاجر إلى أمريكا مختبئا في حاوية بضائع، صام أسبوعاً كاملاً في العلبة الحديدية الى جانب البضائع وعندما فتحها عمال الميناء وجدوا عفريتا من الإنس، هكذا وصل إلى أمريكا اما الآخران فهاجرا بحيل مهربين كبيرين وأجور كبيرة.

عدنا الى لعب الكوتشينة، وشربنا كثيرا من الشاي حتى تضلّعنا، وخرجنا في آخر الليل بعد معارك حول الربح والهزائم فوجدنا كلبين يقضيان الوطر متعانقين، الكلاب تتعانق على عكس البشر فتلتصق ببضعها ظهرا لظهر، كانت مؤخرتا الكلبين متلاصقتين وقد اجتمعت حولهما كلاب كثير حاقدة تريد أن تفترس الكلبين، ففزعنا الى الكلبين وأجلينا الكلاب من حولهما، وشعرنا بالسعادة بعد أن شتمنا يالجين الأمريكي ومراد السويدي وميمد راعي الكلاب في السويد، ووقفنا في البرد نحن الثلاثة ننظر إلى الكلبين ساعة، والريح تجلدنا، إلى أن قضيّا الوطر، وغَسَلنا المطر.