قصص قصيرة للكاتبة هيفي قجو: بعد آخر.. يحمل أبعاداً كثيرة.

0

مصطفى الولي، كاتب وقاص وناقد فلسطيني سوري.

مجلة أوراق العدد 13

الملف

يعدُ الجنس الأدبي- السردي، لفن القصة القصيرة، وحسب عدد كبير من النقاد، أنه الأصعب من بين الأجناس الأدبية الأخرى، ومع ولادة “ابن آخر” للقصة القصيرة، أطلق علية “القصة القصيرة جداً”، بات موقف النقاد الأدبيين أكثر إشكالية.

القاصة هيفي قجو، في مجموعتها القصصية “بعد آخر” وضعت تعريفها لعملها على الغلاف أنه: (هوامش سردية- قصص قصيرة).

بعد أن قرأت المجموعة من الغلاف حتى الغلاف، عثرت على “الابن الآخر” للقصة القصيرة، أقصد “القصيرة جداً”.  لم تشر هيفي إلى تلك الحقيقة التي سيقف أمامها القارئ، لعلها تركت المتلقي للحيرة والغموض في الربط بين القصص التي في المجموعة، وبين ما أسميه القصص القصيرة جدا بين دفتي الكتاب، بل وعلى غلافه الأخير. وزادت على المتلقي عبء المتعة في البحث عن عناوين لقصصها القصيرة جدا، فهي تركت “المقاطع” التي تتخلل قصتين بلا عنوان. وبدوري أتساءل:

 هل بياض- غياب عناوين لتلك “المقاطع” من القصة القصيرة جدا كان متعمدا؟ 

في الحالتين، إن كان مهملا دون قصد أو متعمدا، فبظني يمكن اعتباره تقنية جديدة في فن القصة القصيرة جدا، تهدف، أو تفضي، إلى زج مخيلة المتلقي، وتنشيطها لتوليد العنوان لكل نص، وهكذا يكون لكل قارئ عنوانه الأثير.

سأثبت هنا للقارئ، مقطعا مكثفا، لأقصى درجة من الاقتصاد باللغة لأوضح ما ذهبت إليه بأن الكتاب، فيه إلى جانب القصص، قصص قصيرة جداً:

ثبتت نيفين على ظهر الغلاف الأخير للمجموعة هذا النص، نص أسميه: “قصة قصيرة جداً”.

(تأخرت عمراً كاملاً، قالها وشرد في الأفق، ثم أكمل: ربما هي لعبة القدر، وجدتك لكن ليس باستطاعتي شيئ، سوى أن أحبك عن بعد، في العلن صديقة، وفي السر حبيبة، إنه حظي العاثر فحسب، وربما حظك السيئ أيضاً، أعدك أنك ستكونين كذبتي الأولى والأخيرة). يبقي على كل قارئ أن يضع عنوان هذه القصة، المكتملة الأسس والبناء الفني، وذات القوام اللغوي السلس.

أعود إلى المجموعة “بعد آخر” الذي دفعته، ليصبح في عنوان المقال، أبعاداً أخرى. وأقصد أن القصص المنشورة في المجموعة، تنفتح على فضاءات واسعة، متصلة، ومنفصلة أحياناً. جميع تلك الفضاءات تشف عن الهم الإنساني المؤسس على الاغتراب في الوطن، والمتداعي إلى الاغتراب في “المنافي” بلدان اللجوء. وفيهما يتركز ثقل الاضطهاد على المرأة غالبا، اضطهاد المجتمع الذكوري في “الوطن”، والاضطهاد السياسي المضاعف على إنسانية المرأة.

تبدأ الكاتبة مجموعتها بقصة عن الأيام الأولى في بلدان اللجوء، فتستدعي من الذاكرة الفرق بين قسوة الطبيعة حين يهطل الثلج في بلدها الأصلي، وبين بهجة الحياة في مكان إقامتها الجديد. وفي توغل للعمق تأتي قصة “أين رست بنا السفينة”، فنعرف من الحوار داخل القطار أن الحدث هناك في كمب للاجئين. ويعرفنا الحوار عن انتماء الشخصيات في القصة إلى الشعب الكردي. وفي قصة أخرى تتحدد أكثر هوية الشخصيات، بانتمائها إلى مدينة عفرين، المدينة الكردية الموجودة في سوريا. وثمة أحداث أخرى تجري في بعض القصص، تحيلنا إلى الأماكن التي يقطنها الأكراد السوريون في أقصى الشمال الشرقي “جبل سنجار وشاطئ دجلة”.

تحمل القصص جميعها، هماً إنسانيا واجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا، مركزه المرأة في بلادنا، فتكون المرأة المسحوقة بقبضات الأخوة من أجل حرمانها من الميراث، وهو ما نقرأه في قصة “صحوة”، كما في قصة “سكاكين”، فتتحسر المرأة في القصة “لأنها تعيش في الشرق حيث القضاء الذي حكم عليها أن تكون دوماً الضحية”.

 تُشكل السلطة السياسية، المغتصبة للفضاء العام، مصدراً لأبشع أنواع القمع والاغتصاب لجسد المرأة، والدوس على كرامتها الإنسانية، وهو ما نلحظه في قصة “حافة النهوض”، عندما يساومها رجل السلطة السياسية الأمنية على حياة ابنها المريض مقابل افتراس جسدها داخل مقر المخابرات، فتعترف بما يريدون لتحمي ابنها، وتمسي “بين عشية وضحاها … مومساً يلعق بين فخذيك رجال القائد”. والفاجعة الأشد بعد الإفراج عنها “طلاق زوجها لها ومنعها من رؤية الأولاد… وحين تذهب إلى أهلها لم يعترفوا بها” وتسألنا في نهاية القصة، وبحرقة ومرارة: هل هناك عذاب وقهر أكثر من الذي عانيته؟.

هي لم تسألنا بل تصفعنا جميعاُ الزوج والاخوة والأم والأب والمجتمع بأكمله.

لقد نجح مئات الآلاف من بلاد الشرق، ومنهم الكورد، بالنجاة بأرواحهم وأطفالهم، غير أن المرأة لم تنج من استبداد سلطة الذكورة حتى في بلاد اللجوء، بيد أن الفرق بين اضطهاد الشرق ومشكلات المرأة في الغرب، في بلدان اللجوء، أن القانون في الثانية يعاقب المذنب وينصف المظلوم والمضطهد. لكن يحدث أحياناً أن دهاء الرجل، وإيغاله في قهر المرأة للحفاظ على سلطته المطلقة، يوفر له فرصا للاحتيال والتزييف لإبقاء المرأة- الزوجة خاضعة لإملاءاته ورغباته ونزواته.

في قصة “المرأة المطيعة” لهيفي قجو نمسك بالرجل موغلا في أسوأ أشكال قهر المرأة، حين يحرمها من أبنائها لأنها طلبت الطلاق منه، وهو حقها تحصل عليه بسهولة في بلدان اللجوء، وقوانينها المدنية المتقدمة “العادلة” إلى حد بعيد. لكن ما حصل، وفي يوم اللقاء بينهما أمام القضاء للبت بالقضية المتعلقة بحقها في الأولاد الخمسة وحضانتها لهم، قدَم “الزوج أوراقاً(مزيفة) تثبت أن … زوجته قامت بالتنازل عن الأولاد طوعاً وبرغبتها. ما جعلها تصاب بصدمة، دخلت على إثرها مشفى الأمراض النفسية، وما زالت هناك تسرد لكل من يمر بها قصتها الموجعة”.

في بلاد الشرق، يبدأ ظلم الأنثى منذ الولادة، ويستمر مع النضج والمراهقة وعند الزواج والإنجاب، إن جسد المرأة كونه موضوع متعة لا صلة لها بها، وإنجاب لأولاد تعود “ملكيتهم للذكر الأب”، يجد القارئ، لمجموعة هيفي قجو القصصية، أن جهل المجتمع، يفرض على المرأة جهلاُ أشد فتكاً. وهو ما يُلحق الأذى بها جسدياً ونفسياً بدءاً من الختان، الذي تحدثت عنه هيفي في قصتها قمرة .. ياقمرة، “وبلمح البصر بتروا جزءاً من أنوثتها… الدم بات ينزف من الجرح دون توقف، أغمي على الفتاة الصغيرة، صرخت الأم: قمر .. قمر، لتوقظها من غيبوبتها والفتاة تنظر من نافذة الغرفة الصغيرة إلى القمر البعيد عن يديها الصغيرتين، وظلت هكذا بضع دقائق حيث سقط القمر على الأرض ليحدث دوياً عاتماً”. لم أكن أعلم أن ختان البنات تتم ممارسته في سوريا وبلاد الشام، هل لدى القاصة معرفة بتجارب في بيئة معينة تمارس ختان البنات؟

أما على المستوى الثقافي وزيف الادعاءات التحررية وكذبة الادعاءات بالوقوف مع حقوق المرأة، التي يشهدها المجتمع الشرقي بمسمياته القومية والإثنية المختلفة، نجد في المجموعة قصتين تتصلان بهذا الموضوع.

قصة “حب عابر” تقدم لنا نموذجا عن الخداع الذكوري للمرأة “بدأ يكلمها عن نفسه وعن نظرته للمجتمع كأغلبية المثقفين الذين يسيل لعابهم عند رؤية أنثى معجبة بهم…فيكثر الحديث عن حقوق المرأة وكيفية تعامله مع الأنثى… وأنه يقدسها” وتنتهي القصة برسالة منها تتركها لأهلها مكتوب فيها” لا تبحثوا عني وداعاُ”، في ردة فعل منها على تخليه عنها بعد أن أمضى فترة في علاقته بها نال فيه ما أراد.

أما القصة النقدية الصارمة لمواقف الهيئات السياسية والحزبية من قضية المرأة، فقد جاءت تحت عنوان “للمرأة بعد آخر”، فنجد كيف رفضت امرأة أم لشهداء كل العبارات الخطابية التي وردت في حفل تكريمها، لتقول لمنظمي الحفل التكريمي، في ختام كلمة لها، “لكن شعاراتكم لا تضمن لي أن أفكر لأسهم ولو بجزء صغير معكم، أعتذر لقد فهمت اللعبة وليس عندي استعداد لأخسر أكثر… لكن الندوة مع ذلك استمرت بتكرار الشعارات السابقة والتصفيق الحاد”.

مجموعة هيفي قجو “بُعد آخر”، جاءت لتقدم هموم المرأة في مجتمع وبلاد يسود فيها الاستبداد والظلم بألوان مختلفة، وبتقنيات سردية تتناسب وموضوع كل قصة، مع قليل من اللغة الشاعرية، والصياغة الدرامية لبعض المواقف والتداعيات، وكانت قصصها متحررة من الإنشاء اللغوي الاستعراضي، مكتفية باللغة الواقعية المتقنة والمفهومة دون تعقيد.

لكن ثمة ثغرة ظهرت في قصتين، حيث تغلب في السرد العبارات التقريرية الخطابية، وهما “ذريعة حرب” و”بعد آخر”، على أهمية مضمونهما النقدي للواقع، الأولى “ذريعة حرب” عن ارتكابات داعش في زمن “الدولة الإسلامية” المزعومة، والثانية “بعد آخر” التي تكشف مرض وعجز الهيئات الحزبية والسياسية عن المهام التي تخدم المجتمع والشعب، حين تتشدق بتحرر المرأة دون أن تجسد عملياً فكرة الانتصار لحقوق المرأة وحريتها في الحياة.

وفي الختام أرغب بالإشارة إلى اثنتين وثلاثين “قصة قصيرة جدا” تضمنتهم المجموعة، لم أشملهم بالتناول، علماً بأن فيهم من الفن والإدهاش والرمزية والمفارقة والتكثيف السردي وشاعرية اللغة، بما يسمح بتأويلات متعددة، وهو ما يحتاج إلى تناول خاص.