قصة قصيرة، وقصص قصيرة جداً

0

 زهرة أحمد، حقوقية وناشطة وروائية وكاتبة لها عدد من الكتب في الرواية والقصة والشعر.

مجلة أوراق العدد 13

قصص

بوح الذكريات

نافذتها، تلك التي أغلقها الألم ذات رحيل، لم تنفتح على الصباح بعد !!!!!!

جلستْ بالقرب من مكتبتها الصغيرة، كانت صورة والدها المعلقة على جدار غرفتها، ابتسامتها تظلل الأرض طويلاً…. طويلاً.

على شفة ليلة من الاغتراب، بدأت الذكريات تنهش ذاكرتها، في ظل الصمت الذي كان تعج به الغرفة، لاشي سوى رائحة القهوة، تفوح بخجل دافئ.

أمعنت النظر في مكتبتها الصامتة، كل شيء فيه يوحي بالنسيان، دفترها القابع في حضن المكتبة، الدفتر المغلق على نفسه حزناً وانتظاراً. الدفتر المكتنز بظل الكلمات، قد أتقن حكايات الصمت، وتأقلم مع رتابة النسيان.

في شريط من الضوء الهارب، يتعثر الألم بحروفه المبعثرة، لا يجمعها سوى بعض الذكريات، المفرحة منها والمحزنة.

بابتسامة مخفية أخذت دفترها، حضنته طويلاً، استعادت فصولاً متراكمة من الذكريات.
كان غبار النسيان يكاد يمحي عنوانه.

لم تتعود أن تنسى ما يخصها، يخص روحها وكل تفاصيل مكتبتها.

ربما هو التّناسي وليس النسيان.

هذا ما فرضته آلام الرحيل .. هكذا بررت لنفسها …!!!!!

ما إن فتحت دفتر ذكرياتها حتى عبقت ابتسامة والدها على مساحات الحروف، لا تزال بعض فصوله مبللة بالألم.

هناك على صفحاتها تكاثف الألم، تنتظر عناوين مشرقة لتذوب ثلوج الرحيل.

سنتان في العتمة، قضتها الذكريات وهي تجتر الغياب، تنتظر ذلك البوح الذي رحل وذاك اللحن المشرق من عينيه، ليكون اللحن الأخير.

وهي تقلب الصفحات، كان المطر يهطل طويلاً من عينيها، على المرمى القريب من الذكريات.
الليلة وبعد سنتين من التيه عادت لتغوص في ذكريات لا تزال تتنفس في العتمة، تفك ضفائرها، تلك

التي جدلتها بمهارة تحت الشمس.

عادت تختفي بين ثناياها، تحتفي بكل الألم بين حروفها.

فتحت دفترها على فصل الشتاء، إنه برد كانون.

كم كان قاسياً..!!!

هناك حين ودعت والدها، تركت آخر ابتسامتها ومضت في التيه.

لم يتجمّد عطرُ الذكريات في الشتاء ولم يتناثر في الخريف، بقي أخضراً وربيع دائم.

إنها الذكريات عندما تغلب الزمن.

بين أوراقها الحزينة، ذكريات لم تكتمل.

عزفت مع والدها كل الأمنيات.

هل خانها اللحن، وتركها تعزف لوحدها ؟؟

لم تعزف بعد ..!!!!

كان يعتني حتى بأشيائها الصغيرة، ليتركها تهتم بكل أشيائه الكبيرة، تلك التي تركها في رحيله الأبدي.

قرأت آخر جملة كتبتها في دفترها:

أبحث عنك فأجدني فيك، صمتاً يبوح بحكايات لم تكتمل بعد.

أبي .. أبي .. أبي 

إنها الذكريات حين تصبح هي نفسها كل اللغات.

انتقلت بين الفصول بحثاً عن الضوء، فكان الأخضر طاغياً، ارتسم في عينيها وروحها منذ أن كانت صغيرة.

من خلال الأخضر كانت صورة والدها تخيم على الصفحات، إنها بداية قصتها مع الأخضر، عندما سرح والدها شعرها الأشقر، ألبسها فستانها الأخضر الذي يحبه كثيراً، منذ ذلك اليوم وهي تحب اللون الأخضر.

أمسك بيدها وأخذها إلى مدينة ديرك “المالكية “لأخذ صورة شخصية لها في أحد محلات التصوير، للتسجيل في المدرسة.

تلك الصورة ارتسمت في عينيها وكأنها الآن في اليوم الأول في المدرسة.

بدأت تغني أغنية والدها المفضلة، كان يغنيها لها عندما كانت تجلس في حضنه وهو يهزها بحركات متناغمة مع صوته الحنون “Nazê” نازي، أصبحت أغنيتها المفضلة.

اللون الأخضر كان يوحي لها الكثير من الذكريات، بل يتربع على عرش مملكة الذكريات.

آخر مرة لبست فيه الأخضر كان في عيد النوروز القومي قبل سنتين.

في تلك السنة كان الربيع مميزاً، أكثر خضرة من كل السنوات السابقة.

خاصة عندما تضحك لها عين الشمس لتعكس كل الأناقة.

برغبة من والدها لبست زيها الكوردي الأخضر وكأنها جزء مكمل للطبيعة.

كانت ابتسامته تُشع ألقاً كلما نظر إلى ثوبها، يكرر لها دائماُ: كم يليق بك الأخضر .. !!!!!

الأخضر نفسه استقر في خزانة ملابسها، لم تلبسه منذ سنتين.

في كل ربيع كانت تبحث عن أزهار خضراء لتهديها لوالدها. تحزن عندما تخفق كل مرة، لكن سرعان ما يتبدد حزنها وتشرق ابتسامتها عندما يخبرها والدها: يكفي للون الأخضر تمييزاً إنه يحمل على أكتافه كل ألوان الأزهار.  لولا الأخضر لما ازدادت الأزهار ألقاً، بالاضافة إلى رمزيته وهو يكمل مع الألوان الأخرى هويتها، باتحاده مع الآمال والآلام وعبق الروح في شموخها عند الشمس. كانت تقول دائماً: أورثني أبي كل ذلك الحب لشعبي، لقضيتي، وكل تلك القيم.

كان والدها يحب النرجس كثيراً، وهذا ما جعلها ترى كل الأزهار نرجساً، كل الشوق نرجساً، لذلك زرعت النرجس على قبره، النرجس نفسه أصبح ديواناً للذكريات الجميلة في قصائدها.

تذكرت يوم تخرجها من الجامعة، كلية الحقوق، عندما أهدت شهادة تخرجها إلى والدها. كان حضنه أكثر دفئاً من أي وقت مضى، لم ينطق بأي كلمة، كانت ابتسامته أبجدية من الفرح.

هذا ما رسمته على حروفها تلك التي لا تزال تنبض بالفرح والدموع معاً.

الذكريات ليست عابرة كما يقولون، تنهمر هكذا دائماً حتى في فصول العتمة .لم تنم بعد، أشرقت الشمس وهي لاتزال تقرأ في دفتر ذكرياتها، غارقة في أعماقها اللامتناهية .تذكرت نظرته الأخيرة، كلمته الأخيرة، ابتسامته الأخيرة، لكنها الباقية في روحها.

آخر مرة قبلت جبينه، آخر مرة نادته أبي “يابو”.

مضت سنتان لم تكتب في دفتر مذكراتها، أعادت قراءة آخر كلمة كتبتها مرات عديدة أبي، أبي، أبي…

مع آخر مرة نطقت يابو “أبي”، بدأت تكتبها على دفترها أبي..  كان قلمها يتدفق حروفاً بعد الجفاف، ونظراتها تشع طيفاً هادئاً.

بدأ قلمها يكتب، كتبت لوالدها: “أبي”

سأنهض من جديد، أعدك.

سأكتب كل الشوق من جديد، أعدك.

لتنمو قصيدتي من جديد، ليتمزق الصمت بالصدى.

كم صمتك يمزق روحي، وأنا التي أتقن الصمت…!!

أقتفي بك كما أقتفي آثارك، هناك تحت شجرة التوت في حوش بيتنا الطيني.

في مناسباتك المحببة في عيد النوروز، لتكون كل المكان في تحرره من قيود دفتري.

أراك في ضوء تلك النجمة التي اعتلت عرش السماء، فأحاول الإمساك بها.

أشتاق إليك وأنت في روحي، أراك حين لا يراك سواي، حين ينهمر حضورك سيلاً يجرفني إليك.

لا يكفيني كل الصمت لأسمع ذكرياتك لأقول لك :يابووو” أبي”.

ليكن الانتصار.

إنه الانتصار على الألم بالكتابة.

انتبهت إلى الشمس وخيوط إشراقتها تُصرُّ على الدخول عبر نافذتها المغلقة. نهضت من ألمها، لتنفض كل الحزن عن نفسها، فتحت النافذة ليدخل الصباح بحرية إلى غرفتها، إلى عالمها الداكن.
ثوبها الأخضر، كان لا يزال محتفظاً بعبق ابتسامته، وما تعلق به من الألحان، حتى اللحن الأخير.

لبست ثوبها الأخضر، حملت دفترها ومضت إلى حيث ودعت آخر ابتسامتها، إلى قبر والدها، حين هاجرت الذكريات.

لتكتب ذكريات الفصل القادم … !!!!

*****

قصص قصيرة جدا جداً:

أحلام تحت الأنقاض

أبى أنْ يداوي جرحَه، حبُّه لها جعلَهُ يقاوِمُ الألم. الأشلاءُ المتناثرة أعاقَتْ بحثَه الدَّامي، بعد ساعاتٍ من الزّمن الجريح، اهتدى على أنفاسٍ مغبرة تشهقُ اسمَهُ باستمرار.

زحفَ على بطنِهِ، الدّماء ترسمُ لوحة عشقٍ تئن تحت الأنقاض.

بصعوبةٍ بالغةٍ أمسكَ بيدِها، امتزجَتْ دماؤهما، ابتسمَتْ لرؤية الحياة على وجهه، وأشرقَتْ عيناها في زحمة الألم، لآخر مرَّة نطقَتْ باسمِه واغمضَتْ عينيها على تفاصيل وجهٍ وأدَتْهُ الأنقاضُ، وبقيت ابتسامتُها الجريحة محفورةً في روحه!!

*****

وبقي حلماً

تحت شجرة التوت يرسم خطوطاً متعرجة، لا تلتقي في نهاياتها، فراغات تملؤها ألحان من بقايا طفولته، في غفلةٍ من التقويم، يحضن ثوب أمه، يغفو في فضاء من تفاصيلها اللامنسية.

فجأة تقذفه أمواج الرحيل على ضفاف تعج بالغربة، ليجد نفسه في غرفته، ومحيط من الوحدة يفك حلمه ألماً ألماً.

كانت رائحة خبز التنور لا تزال تُدفئُ أنفاسه.

*****

تقويم الرحيل

في حقيبته المثقوبة، أنقاض من مدينته، حفنة من رماد السنابل وسماء من الهموم.

في غفلة من أزيز الرصاص، خبأ أنفاسه في كف الليل، وقطع مسافات عقيمة، يُحصي خطوات الألم.
على حدود التيه وقبل أن يكمل القمر حكايته، كانت خطواته تجتر عاصفة من الحزن.

من دون حائط، في خيمته الباردة، علق ساعة أمه، لتعد سنوات الحرب في ذلك التقويم الجريح..!!