أندريه شينكِل ولد أندريه شينكِل في آيلِن بورغ(2) القريبة من مدينة لايبزغ عام 1972. يعيش الشاعر في مدينة هالِّه على نهر زالِه(3) ويعمل حالياً كاتباً ومحرّراً أدبياً. بعد تخرجه من مدرسة الزّراعة درس شينكل هندسة البيئة وعلم الآثار ثمّ تابع فيما بعد دراسة تاريخ الفنّ واللّغة الألمانيّة في فيرنِه جيرودِه(4) و هالِّه. أصدر حتّى الآن أكثر من ثلاثين كتاباً، كان آخرها كتابُه “جبل الذهب” حول نقوشات الفنانة التشكيليّة سوزانه ثويمر 2020. صدرت أوائل كتب الشّاعر أثناء دراسته الجامعية، وكرّم عليها أيضاً بجائزة جورج قيصر(5) التشجيعيّة لولاية ساكسونيا أنهالت عام 1998. منذ عام 2005 يرأس تحرير صحيفة المجلّة الأدبية “موطنُ الأعين(6)“. وهو عضو في رئاسة تحرير مارجيناليا (هوامش) المتخصصة في فنون الكتب والولع بها. أندريه شينكل منشغلٌ، فوق كلّ هذا وذاك، علميّاً بقضايا المقاربة بين الأدب والأركيولوجيا أو علم الآثار، سيّما ما يتعلّق منها بأسئلة العصر الحجريّ الحديث ضمن جغرافيّة وسط أوروبا، وهي مسألة تنعكس في قصائدة بشكلٍ شديد الوضوح. حصل الشاعر أندريه شينكل عام 2006، وباقتراح من صاحب الجائزة الذي سبقه، كاتب الأغاني، المغنيّ والملحّن الشهير فولف بيرمان Wolf Biermann، على جائزة يواخيم رينجِل ناتس(7) للشّعراء الشّباب. كما مُنح عام 2012 جائزة فالتر باور(8). اشتغل الشاعر كاتباً لعدّة مدن مثل: هالّه قلعة رانيس و يينّا، و حصل مرّاتٍ عديدة على منح أدبيّة أقام خلالها متفرغاً للكتابة في مقارّ وبيوت تشجّع الفنّ وتموّله. كما شارك في مهرجانات ولقاءات شعرية كثيرة منها مهرجان الشّعر في البوسنة والهرسك وفي بلغاريا وأرمينيا وإيطاليا. أمّا نصوصه الشّعرية فقد ترجمت إلى أكثر من ستّ عشرة لغة بينها العربية. تولّى الشّاعر عام 2016 مهمة إصدار أنطولوجيا شعراء ولاية تورنغِن الألمانية التي تصدر عن دار فايمار وَ فارت بورغ. الشاعر أندريه شينكل عضو في اتّحاد القلم العالميّ، مركز ألمانيا. كما أنّه عضو في أكاديميتيّ ساكسونيا وساكسونيا أنهالت للفنون. حصل الكاتب عام 2016 على منحة ولاية تورينغن للآداب “هارالد غيرلاخ”(9).
د. وحيد نادر شاعرٌ ومترجم وأستاذ جامعي من أصل سوريّ يعيش في ألمانيا. حاصل على جائزة الشعر للجامعات السورية عام 1978، وجائزة معهد غوته للترجمة عام 2012، عضو في اتحاد الكتاب الألمان وفي رابطة الكتاب السوريين، يكتب باللغتين العربية والألمانية. لوحيد نادر ديوانا شعرٍ بالعربية: – الأول بعنوان “كيف سأنفق هذا الجوع” الصادر عام 1984 بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب في دمشق – والثاني بعنوان “الحمد للرب، لم يلد وخلف لي حبيبتي” الصادر عن دار التوحيدي في حمص عام 2000. كما صدر له بدعم من وزارة الثقافة في ولاية ساكسونيا أنهالت ديوانان شعريّان باللغة الألمانية عن دار “هانز شيلر” في برلين: – الأول عام 2010 بعنوان “نجوم ليلٍ سكران” – الثاني عام 2019 بعنوان “احتراق الريحانة”. ترجم الدكتور نادر العديد من الروايات والدواوين الشعرية من الألمانية إلى العربية منها: “أرجوحة النفس” و “الملك ينحني ليقتل” للكاتبة العالمية هيرتا موللر، و “بحر بنطس” لدانييلا دانتس و “مساجلات” للنمساوي إيريش فريد و”لن تموتي” لكاترين شميدت وَ “برلين تقع في الشرق” للكتابة الألمانية من أصل روسي نيليا فيريميه. كما أنّ للشاعر العديد من القصائد والترجمات والمقالات المنشورة في الصحف والدوريّات العربية والألمانية. كما ترجمت قصائده إلى لغات أخرى مثل الأرمنية والصربية وغيرها.
إلى ن. سنتان وأنتِ بعيدة عنّي، أنت مسروقةٌ منّي، كأنّك كنتِ مختبئة في بيوت الأرانبِ في بلدات ريفِك البعيد، حيث تنعقد الهضاب في ضفائر حول البحيرات. فمنذ ذلك الوقت خسرنا حبّنا بقساوة موحشة. اذهبي إذن وَ استريحي في قيعان العقل، في غابات مضائق الجبال العالية – واصغي إلى لهاث رَجُلِكِ وهو يبحث عن شُغل، اصغي إلى صوت ذلك اليوم، الذي سيتركك فيه ويرحل لاهثاً خلف سراب ورشات عمله – … خلال هذا الوقت سأحضّر لكِ القبلات والنظرات وأشعلها، وَ سوف يضيء ما أشعله، سوف أداري شعلة القبلة المقدّسة على جبيني، حين يطبعها ملاكُ الوقت النّازل عن عرشه الملكيّ فوق جبل رانيس(10) … وأهبط من جروف أحلامي بك، كي أتسلّق أبراجَ نوركِ الحجرية في سردينيا. “نعم، عقلٌ وأطفال”، تقولين أو تصمتين وترمين خطاطيفكِ في سراب البعد، في البعد الأكثر بعداً، تلك مخالبُ عليها أن تكون قويّة رغم يأسها، ففي أغصان نبتة الزّيزفون المنزليّة أرى كيف يلهف حبّك إليّ ويشدّني مرتبكاً إلى العالم السفليّ، حيث وديان الموتى الباكية. صدّقيني، أنت ستمنحينني نظرة تنقذني يوماً ما، وستصبح قبلاتُنا أكثر ملوحة على شفاهنا، لأنّها ستكون وقتئذٍ أكثر نضوجاً وعقلاً. سوف تعتلي نظراتك روحينا الممشوقين مثل سهمين في أوّل عاصفةٍ نجتازها – … ومثل حركتين عروضيّتين قاسيتين، سوف ينغرز عطرُكِ كالعلّيق في جسدي، وستضطرّين إلى مراقبتي بإعجاب، بينما أتبختر أنا في اللّمعانات الخضر المعتمة للآثار الباقية من سمك موسى في الشّجيرات الطّالعة فوق ضفاف أيّامنا القادمة، لحظة تراقبينني بلا كلمات، وآخذك إليّ وأغطّيك بكلام قبلاتي، وأنت تبحثين عنّي في نصوصي، التي تلاحق أضواء عينيك وهي تتراقص فوق الكلمات مثل عصافير الدوري، وتكتبها.
1
أعشاب مجفّفة أعشاب أجفّفها لأصنعَ منها الشّايَ ولكي يمنحني يباسها الإيمانَ بأنّك ستعودين – فأمامي سيقانٌ من النبت وحبالٌ من القنّب، أريدُ تقييدكِ بها، بعد أن يخدّركِ حبّي … وَ هنا بعض عشب مطحون خلطتّه مع طعامِك – مخدّر سيجعلُ عينيكِ تريان نظرتي و جسدي عظيمَين … لا يُقاومان – إنّه الطّين الذي عجنتهُ وربطتُّكِ به على قامتي – إنّها بتلاتُ الزّهر التي ستزيّن يوماً نعشينا في مملكة طيبة(11)، بين يديّ الملوك، على البحر أو في غابات الشّمال المظلمة، حيث لا طُرقَ تكسر حصار أمواجِ السّرخس، الذي يزيّنُ صفحاتِ دفاتري – إنّها “الآه” التي تزقو بها القمم، تلك الذّرى التي انحنت متأوّهة وجاءت معي إليك – إنّه ضياءُ حدقات العيون إذا انفجرت، وقتَ يمرحُ فيكِ الغرور، ويحاصرُك الحبّ، فلا تعرفين تحت إرهاقه دخولاً أو خروجاً، وحين تبدأ نظراتي تجفّ عليك، تتوتّر وهي تعدّ لخَلاصٍ رحبٍ سوف يصيبنا لا شكّ! أنت تتعبين تحت ثقل النظرات، أنتِ تتسلّقين عليها، كي تشبعي عينيك من ذلك الفَرَج القريب … رغم أنّي سأستخدمُ أعشاب سعادتنا المجفّفة بشكلٍ لا تسطيعين من خلاله التعرّف على شيء ممّا يحصل، ورغم أنّ أوراق دفاتر شِعري تسقط عنّي وتتركني عارياً وضيّقاً، وأنت تستلقين واسعةً أمامي، ورغم هذا الخارج، حيث تبكي العاصفةُ فوق راحتيّ الأرض، يتقصّف على عجرِ صفحات كتابي عالم مختلفٌ في سكره … رغم ذلك نحن نستريح في وئام، لولبان في مسودّة مجموعتي الشعريّة المندّاة بدخان الماء المؤقّت، ماء يحضرُه آخرُ حرّاسكِ في إبريق شايه وهو يبربر محتجّاً. هذه هي الأوراق التي أجفّفها الآن للشّاي، ومن أجل بقاء إيماني متماسكاً، أنّك ستعودين …
2
نفرتيتي تغنّي أين هو الحبيب، الذي تأخّر آتون(12) في إرساله إليّ، وأين تلك البهجة التي ستبرّد لي جسدي بالحبِّ أخيراً، قبل أن تأتي الرّيحُ من عالم الموتى؟ ما أكثر ما يعِدُ به هذا الملك المتوّجُ، قبل أن تنادينا أمكنة الغياب، حين يغنّي عن ركوب كتفيّ النيل الصحراويّين. أمّا أنا فلا دافع عندي سوى الشّوق وإدمانِ شبقي عليه، على ضوء عينيّ وابن حبيبي المندفع السبّاق دائماً؛ حتّى الحَبيبات في معبدهنّ يتكلّمنَ صامتات إليّ – فيحترق في الشّهوة جسدي، وينطوي على نفسه، حين يشتعل في ضوء ضلالةٍ مشغولة بأيدٍ لا تفعل شيئاً سوى البحث عن أصابعها. أهديته وحدة البلاد وأهداب أشعّة العين كي يُحضرَ لي آتونُ حبيبيَ: آتون آتون آتون! آخ، فعبر نباتاتِ القصبِ تتسرّب الرغبةُ وتهربُ، حيث يرسو شراعُ القلب ذهبيّ اللون وَ يرمي تاج البابويّة إليّ مع أشعّة الشمس.
3
أمام القمر * من كتاب القمر، تصّاعد الطيور تطير مختفية في لازورد السّماء/حلمك، و تصرخ – “سْريْ يِيْ ييْ”، صرخة باشقٍ تختلط بغناء الإوزّ البوقيّ. الببغاء الأزرق يزهرُ فيكَ والكناري، وتنقضُّ النّعامات غاضبةً على ضّوء بشرتك الذّابل. تجمّل بالشّجاعة! هي الحكمة أن ترتدي المعطفَ الرماديّ المزرقّ، معطفَ الكرامة الدّاكن، وكأنّ لا شيء آخر قد قُدّر لك. قطعانٌ من جبال الحجر النحاسيّ اللّين تجوب البلادَ تجرّها أنفاسها، وحدأة ليليّةٌ تمطرُنا بعويلها، إنّها تباشيرُ الحبّ الأولى. ** طّير يغرقُ في ضوء القمر، و يحاكي صدراً ناهداً في طيرانه المترنّح، حين يرتفع وينخفض في ليلٍ يذوب فيه المرء ويزول أمام شهوة لا يريد الاعترافَ بها. وهذه الوشوشة: “استرحِ الآن في جروحِك” القادمة من فم غلام هلاميّ البللّور يثرثر ساقطاً بجناحيّ الحصان بيغاسوس(13) اللذين ألصقهما على جنبيه بما تجمّع لديه من قوّة الألم الضاغط في صدور الكواكب تحجّرٌ وإنهاك، ولا أجنحة … لكنّه تكسّرُ أمواجٍ أيضاً ذلك الغضب الذي يعصفُ بالمُهْمَلين … مرتبكاً يخطو القيقبُ وكأنّه يذبلُ تحت طيران الموج على صدر السّماء. *** الأغصان المنفوشة تتحرّك، وكأنّ حراثة مدار الأرض بالطّيور ممكنة: سنونوات اللّيل والبوم، إزارٌ من الطّير، عصافير يمكنكَ شراؤها، سنونوات الليل وبوميّاته، كأنّه الكون: جُمع وارتفع على هذه المليارات التي لا تحصى من الرّيش والأجنحة! كأنّه الكون، أحاط نفسه بالزّينة ليهرب إلى هدوءٍ لن يجده، فالغدُ يومٌ آخر، ينتظر القمرَ مثلك، يومٌ عليك اجتيازه والبقاء بعده، بعد أن يزول صابراً تحت حمولته الثقيلة. صفيرُ السنونو الكثيف “سْريْ يِيْ يِيْ” ينتظرك مع غناء الببّغاوات الحنون. استرح الآن في جروحك، حتّى يمرق ضوء توقّعاتك وينتهي، وكي يلتقيك أخيراً هذا الوصول المريّش في ظهورهِ الليليّ المتفرّد.
4
أشجار روزنتال ولكنّي سأقبّلكِ قبل أي زهرة أخرى، أيّتها الفراشة المحرّمة، فالأشجار في روزنتال(14) تقطر ماءً، والمطر حائرٌ في انسحابه، وقد أجبرنا على البحث عن مخبأ: لم تكن حجّتي السخيفة أكثر من خديعة نزلت عليّ فجأةً مع المطر. لستِ المرأة، التي كُتبَ لها أن تحبّني، وأنا لستُ الرجلَ، الذي سُمح له بأن تشتهيه النّساء؛ فيوم وخزتنا رطوبة بركة الماء مثل إبرة قثطرة – وسألنا لا أحدَ عن هذا الذي يفكّر به الكون حولنا، هذا الهمجيّ الذي سال لعابه، فكّرتُ: ما دمتِ تنظرين إليّ، مكلّلة بضباب عطرك، فلن أبقى عاقلاً، فأنا لا أريد أن أهدي العدمَ جسدَك، أعني: ضياءَكِ حين أنظرُ إليك، منتظراً هبوطَ الخوف بعد ذلك. بعض الكوابيس تتحقّق، وحيدو قرن خطيرون يَعْدون في سافانا تقطرُ ندىً، ومعارك تلوح راياتُها في آفاق المدن، و أنا جالسٌ أنتظر آخر اللّيل، لأحلم بغيوم شفاهكِ المشحونة بالقبل.
5
الزيزفونة البيتيّة تنتصبين في زغبِك، كأنّكِ بين يديّ، امرأة، لم يسرح أحد من قبلُ بيده فوق دوائر جسدها. تصمتين متسلّقة هواءَ الغرفة، وتراقبين حبّنا: هذا الضوء العذريّ الذي أقرؤه فوق أوراق جسدك، هذا الكتاب الذي قرأت منه في رانيس – في غونترزبيرغه(15) و في برلين؛ كنتِ محاطةً بالنّسور، وكانت إيقاعاتٌ شعريّةٌ تلهثُ صوبك، شبقةً تجرّ خلفها شهواتٍ فضيّة البشرة: حلّقي الآن بأجنحة العمر على إيقاعات احتكاك جسدينا. وقتَ يصوم جسدُك عن الملامسة، يجذب إليه فئراناً تسحقها عقبانٌ تحتفل بها، وكأنّكِ جزّار يعيش على عتبات القلاع والجروف الصخريّة، و فوق تلال الدَّبشِ البشري؛ – حيث يذري بحنان زغبه الأنثويّ، ويترك شفاهنا تصطرع فوق شفاه الغرفة/ماسحة ورق جدران هذه الزنزانة، – إلى أن نبكي ونأتي.
6
الحبّار، VII أحبّكِ، أقول … لكنّك ما عدت تسمعين؛ فأنا أعرف طبعاً، أنّك في الظلمة، وأنّ النهار آتٍ، وأنّك ستتجرّئين على الرّحيل مغامرةً باتّجاهي من غير أن تخافي البحر: – ورغم استحالة تقدير النّهايات. الآن تحطّمين المرايا أيضاً وتنحين جانب الصّمت الشّافي في كثبان الرّمل على الشّاطئ، وهذا الضّوء الخفيض لحيوانات الكلمار(16) الذي يخترق ذابحاً فضاءات رأسينا، ضوء خافت بلا نهاية، لكنّه يجعل وجهك أكثر رقّة وصفاراً في ذّاكرةٍ تحملُك. هذا كلّ ما أحتفظ به منكِ: لمعاناتُ صغار الحبّار في نشوتها، وفي نقيقها المزلزل، تلك الأسراب اللانهائيّة في برك الماء الوحليّة؛ فحين ينتهي غطيط الافتراس المستلذّ، وينحني ضوء الديوادات إلى وحله: تكونين بعيدةً، وأنا ينخرُني الشّكّ، و الحبّارات الصغيرة متّحدة في صويّ معداتها، التي تطبخ كلّ ما تملكه من قوّة فوق نيران شهوتها.
7
قمر أزرق مستلقية أمامي، لحمك المتلألئ يكويه ضوء القمر، فينكمش بجنون، وينطوي موجٌ أبحرَ في الدّواخل وتمتلئ النّهود وتنتفض، ومثل جمر أحمر تضيء حلماتُها، مثل “ماغما” بركان تبترد بالضوء. كان اسمك “ألونا”، وكنت متدليّة الأعناب، وكانت حدقتا عينيك مبللّتين كأنّهما ضباب: – صرختُ حين لامستكِ. وَ انتزع النّهر شهقاتك بأصابع ضفافه المتكسّرة وأيدي سدوده وأعطاها للماء ليأخذها ويبتعد بها. كنت أندفق – عبر زجاج أنبوبيّ في بحرٍ من الرحيق، وحين راح القارب الصّغير ينبض في قيعان جسدك، فركتُ جلد بشرتك تحت عجلات البرق المتدحرجة، وتركت ريشك يرتبك، حين بدأ بومُ الطّمع ينطفئ على حيطان مرقّعة على طول الدلتا – كنت أستلقي على سفوح نبعك المتدفّق … قمراً ينعس فيغرب، نمت في عشّ فخذيك المطويّين – وتركت الليل الحديديّ اللّون ينسحب فوق مائنا بصمت ويمضي.
8
إلى سيدلي(17) انظري إليّ، حين تتكلّمين وحين تصمتين، أيّتها الفراشة المغزل، كي نعبد حبّنا، فقط كما تواعدنا، فنحن تواعدنا على الشّوق والحميميّة – يعني أنّ بعضنا قبّل بعضه الآخر وملؤه شكّ، ضجّت به خطوات أحلامنا الصامتة. لا أحد سيفهمنا، لو رأى كيف ينظر واحدنا إلى الآخر، نظراتنا التي كانت تنفصل عن كلماتنا وتطير مثل فراشات، فراشاتُنا التي لا يفهمها أحد سوانا رغم اصفرارها وسرعتها، رغم هدوئها ورصانتها. كان نحلٌ يطنّ وهو يحوم حول تلك النّظرات، وكانت حيوانات ” التابير” تدبكُ في ضوء القمر، وكأنّها معلقة بمظلاّت النّور الخارجة من المصابيح – كأنّها سراجات جَمرٍ في رطوبة تتدلّى في الهواء، لأنّها لمعان. تنفّسي أيّتها النسمة، يا ابنة أوقيانوس النبيلة، أو لنتنفّس سويّة! تعالي إليّ بجفون زائغة وكلام يدور في جملٍ مثل طيور تحوم حولي حين أكون مقيّداً بي … صبّي فيّ الجرأة، التي وجدتيها في طريقك وأنت تبحثين عنّي! أقول أحياناً: هل سنقف مرّة في جبال الهواء كي نصطدم بقبلاتنا، فنذوب ونهوي في أمواج السعادة؟
9
قبلاتُكِ كمْ أحبّ عنقكِ مائلاً إلى الوراء، وأنت تسندينه على راحة الهواء خلف رأسك، ذلك العنق الطيّب المنطوي في اللامُدرَكِ، كمّ أحبّه حين يرنو هكذا إلى شفتيّ، فتهطل القبل وتطوف مثل ظلال، ويحاصرني جسدك بمسكِ إبطيك. بعد أن تلعثم لسانانا بتلك القبلات المطعّمة بالنّفس اللّين لضفيرة أعصابك، وقلتِ بأنّ ذلك قد يكلّفني عقلي، وهو “أمر ليس محبّباً”، كما يقولون، لكنّ “الثّمن ليس مهمّاً، مادام الأمر ممتعاً!” والقمر، الذي أحبّه أيضاً، حين يضحك أو يتكلّم الآن، أعماه وجع اشتهاء القبلة، فماذا نفعل؟ نتبادلُ القبل! ففي تلك اللّحظة يسيل العالم في مزاريب المطر الماهرة، ويرسل الزمن فينا ويروي أعمق لحظات تأمّلنا: وكأنّها بلا قعر. الأهمّ الآن … وأنا أسقط في نظرات عينيك التي تفيض بالطّاعة، أنّني أنا من لا يجد قاعاً للوقوع فيه! آخ أيها المحيط، كم اشتاقَ أحدُنا إلى الآخر، وكم حاولتُ وصف ذلك الشّوق الذي كان يحاول قطافي، وكم كان يعني لي ولكِ، أن يطلع الشّوق فوقنا مثل سماء، أن يطلع منذ زمن طويل ويتفشّى، مثل سرّ في شرايين على دراية بما يحدثُ، وهذا ما أدهشنا، لذلك تمنّينا، تمنّى كلّ واحد منّا بمفرده: لو نتبادل القبل! فنحن لم نلاحظ ذلك حين حصل، لأنّ نظراتك كانت قد اختلست معجزة الجمال، وغرقت فيها الأماني، فمعكِ وفيكِ تغرقُ أحاديثنا حول هذا العالم، وكأنّنا نحن من هدم بحيرات الحبّ وأفلت ماءها، أو كأنّ الأمر كان هامشيّاً لحظتذاك. أنا أحبّك، هذا هو اللّغز و حلُّه. وحين أتحسّس جسدك، ألصقُ وجهي على نعومة عنقك المائل، التي لا أستطيع استيعابها، فينتابك الضحك، و تعودين إلى اختلاس النظرات المعجزات، وتنفلتين فوقي مثل الضوء بشفاه لا تحصى.
10
نظراتيترتاح على جسدك وعلى ظلّك – فكلاهما يشبهانك في هذه الأحلام التي أراها قادمة منك عبر نوافذ التّرامواي المسافر الآن بي؛ أرى عمود ساقك وهو ينطوي بنعومة، وشحنات الأصابع وهي تفرغ في الماء … بينما تسند يدك كوع الأخرى، لأنّ نبات الحلفاء طلع فوقنا، وأراد أن يحمينا أخيراً. ثمّ أراك هنا، بالقرب منّي، على الجهة الأخرى من الطاولة، أقصد الطّاولة التي أمامي، وأنا في ليل القطار المسافر صوبك، قطار لن يصل إليك قبل وصول القمر إلى أوّل الشهر. هذه الأقمار، التي تهيم كأنّها تسير في أنابيب، وكأنّها تشرّق وتغرّب من أجلك: مثل أقمار كلاب الرّعيان المصنوعة من الإيمان والحبّ ومن الأمنيات أيضاً؛ فهذا كوكب سيريس القزم، يحضّر نفسه للطّلوع، بينما أنت أمام عينيّ المغمضتين تنحنين فوق الماء، تمسحين بيدك على سطحه، ثمّ تغرقين تلك اليد هناك، أما الزّينة التي تصلّ، مثل كلّ الأشياء هنا، مطوّقة أعلى ذراعك المبروم مثل أفعى، فتهبط مثل جرس يهرب مع صوته في الماء. الابتسام والحزن، وهذا السّقوط في النّفس، كلّها تثير الحبّ: وهو ما ينقصنا الآن، هذا هو اللانهائيّ خلف حواف الصورة. اتركيها و تعالي!
11
اليوم في المِضيَفِ، وفي خفوت ضوء مصباح غرفة النوم، حبَتْ على جسدي دعسوقة سهرانة، قاست أبعاد جسدي، ثمّ انتقلت إلى زهر المنديل الذي أهديتينيه. أعتقد أنّكِ أنت من أرسل هذه الحشرة المَرِحة إليّ، لقد بعثتِ في احمرار لونها تحيّتك المسائيّة، ومع التحيّة تأكيدك الطيّب، أنّنا سنستطيع اجتياز أيّام فراقنا القادمة. أفكّر في بعد ظهر ذلك اليوم الغريب، الذي تجرّأ على المجيء، رغم كلّ ما سبقه من أيّام نشرت الرّعب في أوقات ما بعد ظهيرتها، يوم رحت أتحسّس “ركبة ساق النّملة” التي جلبتها معي من البحيرة هذه المرّة. أفكّر بالجُمل التي تبادلتها معكِ في حديثنا، بعد أن أكلنا ومارسنا الحبّ. أنا أشكر تلك الدعسوقة لأنّها وصلت إليّ، وأهدتني ذلك الإحساس الذي انتابني وأحببته، وتنفّست فيه نشوة نظراتنا لحظة كانت الطّيور فوقنا تسكر وإلى جانبنا تصفُرُ نباتات الحلفاء، و دجاجتا غرّ أوراسي تودّعاننا في طريقهما صوب الأعلى. ثمّ رأيتك، حين صرصرت الضّفاف حولنا – كيف قفزت عارية في الموج، وكيف عدّت بجسدك الجميل تقطر منك البحير ويتلألأ ماؤها ثمّ يتناثر طائراً مثل فراش في النّسيم. “أنّك عدّت”، كان أجمل ما أوحته الفكرة التي أثخنتني تلك اللحظة. كم أنا ممتنّ لتلك الفكرة، التي نشّفتِ جسدك من بلله كي تبدئي قطف قبلاتي وتذوّق تفّاحها، لتري إن كانت هي نفس القبلات التي تعرفينها من قبل. حين تابعنا حديثنا ثانية، كانت نظراتنا تتمايل متعانقة فوق ماء البحيرة.
12
يذبُلُ السهلُ: وكأنّ المكانَ هنا كلّه برونيكل(18)، كأنّ المكان سقط مع السّماء حين سقطت، أقول أنا، فوقنا رعد الكون يضرب، وكأنّه ضباب أرسل كي يبتعد. وأنتَ تأتي إلى هنا، تقولين أنتِ، كي ترى الأثر المُخبّأ، المطمور في هذه الوديان وتختبر تلك المنخفضات الدائريةّ الفم كأنّها أقماع – تموج بضوء ثقيل وتصرخ فوقها النّسور وحوّامات الهليكوبتر! سياجات زرائب الغنم تتداخل مع أدغال البؤس، مثلما كانت عبر عقود وقرون تحبو وتُنقذُ نفسها ساهمةً في دروب الوقت و تدخل بحذاقة ناعمة الزّمن الحالي. تعلن صواعدُ الكهوف البيتونيّة عن قدومنا، قدوم هيئات من ذئاب لافَرَويَّة ترصد حركة القطيع، الذي لا يطلب أكثر من بعض كرامة و راحة. أن نقف هنا … – بين أغصان الشّجيرات وهذي العطور وتلك الجنان: هذه الاسطوانات العملاقة من ضوء التّاريخ، أقول أنا، لن يمنحنا المكان مساعدةً كي نبقى متماسكين على حواف دائرة، أقول مظلمة، نقف الآن في وسطها، غير الحبّ في الأمل، وغير هذي الرّيح التي تقرقع ذابلة في شَعْرِ الأشجار. لن يمنحنا المكان سوانا، أنتِ وأنا، الذّاهبَين في هذا الهناك، ألا تبصرينهما؟ انظري، من فضلِ فضولك! أنا أقف على الحافّة، وتيّار نظرات أسطوانيّ ينتشلكِ ثمّ يقودكِ إلى السّهل، تماماً مثلما تقودينني الآن بعصا تلمع كأنّها تشقّ البحر في ضوء عينيك القادم من أزمنة مجتمعات الصّيد وجمع الثمار – يوم امتلكتِ الأشياء معانٍ و حين كان للأشياء قوانينها. دعينا نتابع مسيرنا وننجو، الآنَ، عبر هذه الفكرة الأخيرة.
13
انظري إليّ في ضوء الشّمعة، التي يعيش فيها نفَسُ الحبّ – تفحّصي دمي واسألي قلبك، حيث يحيكُ شوقي ثوبَ عرسه. لأجلِ ذلك ومن أجله تندلعُ عاشقةً ألسنةُ اللّهب في الفتيل والشّمع، وتجد عيونُنا البعيدَ، هناكَ، حيث يفرقعُ قلبُ الجمر. ما أطيبَ وجودُك معي، حين أتمكّنُ من السّفر خارجاً فوق سعادة الضّوء – ثمّ أعودُ بعد سنواتٍ كي أطوفَ معكِ هنا، فوق قوارب الظّلال التي تموج حولَ بيتنا، حيث نهرب، ونقرّر البقاءَ في ضوء سنوات مظلمة مضت – حيث نجد فائدة في توضيح أفكارنا عبر النصوص التي كتبها النّور على الظلّ. مادمنا سويّة، ومادام واحدنا يسند الآخر، ولو برفق كبير – فلن تسقط نظرة واحدة من عيوننا على انفراد، حتّى لو أصبحت دموع الشّمعة ضحلة. في الضّوء ينتظر الجميع شيئاً واحداً، أن يستعيد اللّهبُ جنون اندفاعاتِه من جديد – فتضيء الوجوه، ويندلع الجمال على وجهك الناعم فوق أمشاط النور. سوف تتدحرج صور حبّنا رائحة غادية في مصابيح المرايا – فنضحكُ، تضحك نظراتنا حتّى تصبح رطبة، وتسأل: هل العالم خالٍ من الهموم؟ بعيدةٌ أنت وملفوفة في وجع الرّقيق من الحروف، منسوجة في الآن نفسه بخيوط الضّوء السّاخنة – بَحلِقي فيّ على ضوء الشّمعة، حيث يعيش شوقنا في ذوباننا.
14
الأسماء والرموز والمصطلحات
مختارات من الشّعر الألمانيّ الحديث: أنجزت هذه الترجمة في إطار منحة قدمتها ولاية ساكسونيا أنهالت عام 2020 من أجل ترجمة الشاعر أندريه شينكل وتقديمه إلى القارئ العربيّ عبر شبكة الأنترنت. وكان المترجم قد ترجم قصائد للشاعر أندريه شينكل إلى العربيّة في حلقتين عن الشعر الألماني المعاصر نشرت الأولى في مجلّة “نزوى” العمانية العدد 60 عام 2009 وصدرت الثانية في مجلة الآداب العالمية في دمشق شتاء 2012.
آيلِن بورغ Eilenburg: مدينة صغيرة تقع في شمال غرب ولاية ساكسونيا بين مدينتي هالّه ولايبزغ، عدد سكانها حوالي 17 ألف نسمة.
هالّه على نهر زالِه Halle an der Saale: ثاني أكبر مدن ولاية ساكسونيا أنهالت الألمانية، تعتبر العاصمة الثقافية للولاية، جامعتها من كبرى جامعات ألمانيا وأقدمها. تقع على نهر زالِه.
فيرنِه جيرودِه Wernigerode: مدينة تاريخية في جبال الهارتز الجميلة تتربّع على أقدام جبل بروكِن العالي. تابعة لولاية ساكسونيا أنهالت وتسمى بالمدينة الملونة.
جورج ك ايزرGeorg Kaiser: كاتب دراما ألماني عاش في ماجديبورغ حتى منتصف القرن العشرين. تمنح جائزة أدبية باسمه للأدباء الشباب المتميزين.
موطن الأعين Ort der Augen: مجلة أدبية فصلية تصدر بدعم من ولاية ساكسونيا أنهالت عن دار نشر دكتور تسيتِن Dr. Ziethen Verlag.
يواخيم رينجِل ناتسJoachim Ringelnatz: كاتب ألماني عاش في برلين بين 1883-1934. وهو ممثل كوميدي ورسام أيضاً.
فالتر باور Walter Bauer: كاتب وشاعر ألماني، ولد1904 في /ولاية ساكسونيا أنهالت في ألمانيا، وتوفي 1976 في تورونتو في كندا. منذ 1994 تمنح باسمه جائزة أدبية لتخليد ذكراه.
هارالد غيرلاخ Harald Gerlach (1940 – 2001): شاعر وكاتب مسرحي ألماني. باسمه تمنح ولاية تورينغن جائزة لتشجيع المشاريع الأدبية داخل وخارج الولاية.
رانيس Ranis: قلعة في مقاطعة تورينغِن Thüringenالألمانية.
ثيفا أو (طيبة Theben) باليونانية: مدينة يونانية تقع في وسط البلاد ضمن مقاطعة فيوتيا التي تتبع إدارياً لإقليم “ستيريا إلاذا” الإداري. ترتبط طيبة بقوّة بالتاريخ والأدب والأسطورة الإغريقية: فهي موطن الإله ديونيسوس، ومكان ولادة البطل الأسطوري هرقل، أمّا مؤسّسها الأسطوري فهو المهاجر الـفينيقي قدموس، أخ أوروبة، الشخصية الفينيقية التي منحت القارّة الأوروبية اسمها.
آتون(Aton) هو إله الشمس الذي أعلن عنه الملك إخناتون واحداً أحداً لا شريك له. يمثل قرص الشمس الإله آتون، الذي يمنح الحياة والرخاء لفرعون مصر وللبشرية جمعاء.
الحصان المجنح أو بيغاسوسPegasus : حصان أسطوريّ مجنّح في الميثولوجيا الإغريقية، خلقه بوزيدون. وقد ذكرته أسطورة هرقل بن زيوس، على أنّه خلق من جسد ميدوزا بعد أن قطع بيرسيوس رأسها. وما أن ولد حتّى طار واعتلى السماء. أصبح بيغاسوس في الروايات المتأخرة مطيّة للشعراء، بعد أن ضرب الأرض بحافره فانبثقت مياه هيبوكريني أو نافورة الحصان، وأصبحت نبعاً للوحي الشّعري لكلّ من يشرب منها.
روزنتال Rosental: حديقة كبيرة ومتنزّه مساحته 118 هكتاراً يقع في شمال مدينة لايبزغ على نهر بارتِه Parthe غرب حديقة الحيوان الشهيرة.
غونترزبيرغِه Güntersberege: مصيف تابع لمدينة هارتزغيرودِه في جبال الهارتز Harz وسط شرق ألمانيا.
السّبيدج أو الحبار أو الكلمار Kalmar: حيوان بحري من نوع الرأسقدميات وهو أشهرها (له عشرة أذرع موجودة على الرأس تساعده في القبض على فريسته). يمتاز الكلمار بمهارته في السباحة، يساعده في ذلك شكله الإنسيابي، لذلك يطلق عليه أيضاً سهم البحار.
سيدلي Cidli: اسم يعرفه الأدب الألماني من خلال “ملحمة سيدلي” للشاعر الألماني فريدرش غوتليب كلوبشتوك، التي خلّد فيها الكاتبة الألمانية مارغاريتا موللر. وقد تزوّج كلوبشتوك الكاتبة موللر عام 1754 بعد تبادلهما رسائل شهيرة وهامّة، بل وليس لها مثيل في وصف مرحلة فنّ الروكوكو وروح ذلك الفنّ المنعش.
برونيكلBruniquel: برونيكل، هي أجمل قرية فرنسية. مشهورة بمغارتها وصواعدها الكهفية، وتقع شمال تولوز عاصمة مقاطعة أوسيتاني جنوب فرنسا.