فاض الدمُ على الناس، واعترض خطواتهم غرابٌ أسعف وضبع فاتك وانتفضتِ الأرواح في الأجساد. فقد عاثَ صاحب القلعة فساداً في البيت والبلاد. وعمَّتِ الجيف المنعطفات وأعيتِ النادبات المراث، دون أن يقوى أحد على كفِّ الأذى عن القوم.
فاضطربتِ الناس وهاجت لفرط العسف الذي يقع عليهم من صاحب القلعة وجلاوزته وذويه. فانتبذ أفرادٌ في خرابةٍ يتداولون في ما يتوجب عليهم فعله. وإذا بابن السقّاء يعلن أنه ذاهب لبيت الغريب، يعرض نفسه للعمل في الخدم، لقاء الحماية من أذى ذوي القربى. وفعلتْ هذه الفكرة فعل النار في الهشيم، فاهتبل الجمع فكرةَ ابن السقاء، واستحسنوا أن تكون فَرَجَهم الوحيد المتاح لإنقاذ حالهم. فانتفض (حامد الحَلَي) قائلاً وماذا عن أهلنا اللائذين في حبسة الدور. التفت الجمع ثانية إلى فكرةٍ، حسبوا أنهم قد غفلوا عنها. فربما استفرد أهل القلعة بأهالينا، فيما نحن ننقذ أنفسنا حسب. لكن ابن السقاء استدرك بأننا من بيت الغريب علينا أن نتدبّر أمر الآخرين، فليس لنا أن نعمل دون أن تكون ظهورنا محميةً في مكان. وافق الجميع. ونهضوا، على أن يذهب كل منهم بمفرده، كلما سنحت له الفرصة المواتية. وكان ابن السقاء قد أفلت من اجتماع الخرابة متوجهاً ناحية بيت الغريب. وبعد أيام خلت الطرق من المارة، وتوقفت الأعمال وتعطلت المصالح. واكتشف صاحب القلعة أن الأهالي قد لجأت لبيت الغريب. فذهب يريد من الغريب أن يترك المدينة ويرحل إلى الضفة الأخرى من الماء، ويترك أهل بيته أمانةً في القلعة. لكن الغريب رفض ذلك الأمر، مدعياً بأن بيته في ملك دولة الغريب، حسب قانون البيع والشراء، وهو لا يرغب في المغادرة، لأن هواء هذه المدينة يناسب صحته التي تعتل من الأمكنة الرطبة في الضفة الثانية من الماء.
لم يقبل أهل القلعة هذا التدخل السافر في شأن لا علاقة للغريب به. فصرخ به صاحب القلعة: (يا غريب كن أديب). لكن الغريب لم يكترث بصرخة القلعة.
مثل أمرٍ دُبِّرَ في ليل، بدأ جلاوزة القلعة في اعتراض سبل الناس في سبلهم، واستشرى القصف ضربَ عشواء على كل من يصادفه، وصار الجلاوزة في كل مكان في المدينة. وما كان من الغريب، إلا أن سارع في الاستزادة من حدود أرضه، يشتري المساحات ويكتري من يبنيها ويوسّع في حماية مَنْ ينفع ناحيته للجوء، فراراً مما يحدث لهم من أصحاب القلعة وبطشها. فلما تفاقم الأمر على أهل القلعة، وهم ينظرون إلى الناس تفرُّ من دورها لاجئةً إلى بيت الغريب، طلبوا منه أن يسلّم لهم الناسَ، بزعم أن بعضهم مطلوب في جريمة وجناية أو مقتلة.
وحين رفض الغريب، مكابراً، بأنهم في حمايته، هدد صاحب القلعة بهدم بيت الغريب على مَنْ فيه. تكالب أهلُ القلعة على الغريب ولاجئيه. في ليل أسود، لم يشعر الكائنات المذعورة بمن يأخذهم على حين غرة، ويقذف بهم من سطح بيت الغريب واحداَ وراء الآخر، حتى دُقت أعناقهم جميعاً، ثم أمر صاحب القلعة بدفنهم بلا غسل ولا كفن.
٭ ٭ ٭
من أين تذهب والجآذر حول نصّك تحفر الرمل الطريّ وتقتفي ضوءاً على قدميك.
من أين المفر وجوقة مسعورة الماضي تؤرّخ للصليب،
تشدّ مسماراً على كفّيك.
يذهب من ورائك أخوةٌ،
أخدوعةٌ،
وذئابكُ الأصحابُ يبتكرون كي يئدوك في بئرٍ قديمٍ.
سوف تكرز في متاهتك.
انتبه،
ستنالك الرؤيا وتنتابُ الكتابَ خديعة.
ليستْ سماء عند سعيك،
لا الملائكة احتفوا بقميصك الأعمى ولا الماءُ الثقيل علامةٌ للمعجز النبويّ.
من أين الفرار وقيصرٌ في البيت،
والجند احتموا بنصوصهم ولصوصهم،
ستفُرُّ،
لكن أين، من أي الجهات طريقة الفتوى وخيطٌ للنجاة من الصليب.
فيا تَرِيْكَ الأبّ،
يخذلك الطُهاة،
الليلُ خانك قبل رفقتك التي أكلتْ عشاءَك
واستدارتْ نحو هيكلها الجديد،
وتسعةٌ من عسكرٍ يتدربون على عظامك.
خذْ أَمامَك،
واطلقْ الطيرَ الحبيس لكي يقودك نحو حتفك في الحريق.
نفوكَ واحتالوا على ورقٍ ستكتب فيه ما يملى عليك.
خُذِ الأمان من الخطيئة واكتبِ المستقبلَ الدامي. تَفُرُّ،
ويستعان بنصك المهدور كي يئدونَ صوتك.
أين تذهب.
أنت وحدك،
والمدى قيدٌ يُسَوِّركَ.
انتبه.
ستزورك الحُمّى ويسري في عروقك من رمادٍ باردِ،
ويؤرخونك بالضغينة.
فانتبه.
ما مِنْ يدٍ مغسولةٍ بالدمّ إلا وانتهتْ تحت الصليب،
تكزّ أسناناً مهشمة على ساقيك.
فاصعدْ،
لا مفرّ سوى السماء،
فكل أرضٍ سوف ترصدك.
الصديقُ هو العدوّ.
ففي الطريق إلى العدوِّ ملامحُ الموتى.
انتبه.
واصعدْ،
سماؤك وحدها، والموت وحدك.
*القدس العربي