الدرس المبكر وراءٌ بعيدٌ، ليس على الذاكرة فحسب، لكن خصوصاً إذا رأيت إليه من شرفة التجربة فنياً وثقافياً. بالطبع لم يعد ممكناً الكلام عن قصيدة أولى مثلاً. ربما لم تكن هناك قصيدة أولى، بالنسبة لي على الأقل. إنما يمكن تذكر أنني كنتُ، في ما أستغرق في قراءة شعر ذلك الوقت (أوائل الستينيات خصوصاً) أشعرُ، بغموض، مقدرتي على كتابة ما يشبه ذلك. ربما لم يكن غموضاً خالصاً، بل هو شيء من غرور داخلي، علماً بأن شعر ذلك الوقت كان أكثر تطلباً تقنياً وثقافياً مما (يبدو) عليه شعر هذا الوقت، وكنا نأخذ الأمر بجدية وصرامة كبيرتين. لذلك كتبتُ، قبل أن أبدأ نشر محاولاتي الأولى، عدداً كافياً من النصوص يمكن أن يملأ تسعين سلة مهملات. ما زال بعض تلك النصوص مكنوزاً في عتمة الأوراق القديمة.
٭ ٭ ٭
ربما ذهبت إلى الكتابة لأنني كنتُ أريد أن (أرى) نفسي بوضوح أكثر في هذا الكون. الآن أفهم بعض ما كانت تشي به تلك المحاولات المبكرة. أقول: (أرى نفسي) بمعنى أن ثمة هاجساً غامضاً يتصل بتغيير الكون برمته عن طريق الكتابة يتملكني، وقد يبدأ التغيير من القميص الوحيد المهلهل، حتى نظام المجرة. وأظن أن مثل هذه الشهوة مفهومة ومشروعة لدى الشاعر في كل وقت. بقي علينا أن نتفاهم لاحقاً على قدرة وجدارة وجمال أدوات تحقيق تلك الرغبة لدى هذا الشاعر أو ذاك: الموهبة الشعرية والأسلوب والمعرفة أيضاً.
٭ ٭ ٭
قرأت للرواد جميعهم آنذاك، أبرزهم بدر شاكر السياب، الذي استحوذ على تجاربي الباكرة. لكنني بعد أن قرأت أدونيس شعرت بأنه التجربة التي تعلمني الشعر بالمعنى الكوني. والأرجح أن تعبير الأب الشعري سيكون مناسباً جداً لأدونيس. فجميع ما تأسس لديّ من نزوع إلى حريات الرؤيا والرؤية الفنيتين سيكون متصلاً بمعرفتي بتجربة أدونيس.
لقد كان درس أدونيس الشعري أكثر تأثيراً وعمقاً، مما تجلى في ارتباكات التقليد في المرحلة الأولى من تجربتي، لقد أخذت منه، وما أزال، إن الشعر لابد أن يتوفر على عنصرين جوهريين: حرية وجرأة المخيلة، وجمال الأسلوب واللغة، ومن ثم عدم الثقة في الدرس خارج التجربة. وهذا ما جعلني أقول، في ما بعد، إنه في الفن: القناعة كنزٌ لا ينفع.
٭ ٭ ٭
إلى ذلك كله يتوجب أن أشير إلى أن هناك شعراء كثيرون أحببتهم وتأثرت بهم، وتعلمتُ منهم بدرجات مختلفة. لكن الأهم من هذا أدركت بأن المرء لا يحتاج لأبٍ شعريّ فقط، لكي يتعلم منه ويأخذ عنه، بالنسبة لي ثمة أبناء شعريين أتعلم منهم ما أزال. هذه هي الحقيقة التي تمنحني الطاقة الغامضة على الإحساس بالطيف الشفاف الذي يسمونه الزمن، يعبر بي إلى المستقبل المستمر. فلولا ما تجترحه لنا هذه التجارب الشعرية الشابة لما تمكنا من كتابة نصوصنا الجديدة.
إن جرأة الشباب هي ما يجعل النبيذ القديم فتياُ وقادرأً على دفق الانتشاء في الأرواح، والجسارة على المشاركة في سهرة تبادل الأنخاب البالغة الغنى والتنوع، بالدرجة نفسها من اللذة والثقة بأن الشعر هو دائماً في المتناول، عندما تكون مستعداً لذلك، متحرراً من الجذور، مدججاً بما لا يقاس من الأجنحة.
*القدس العربي