قاسم حداد: صناعة الوهم وتقويضه

0

من المؤكد ان للأوهام لذة مكلفة، غير أن تقويض الأوهام أكثر كلفة. (نيتشة)

فطرة،
يظل الإنسان بحاجة لفكرة الحلم، في تاريخ البشرية، وسوف يتمثل هذا الحلم في أشكال ثقافية وروحية مختلفة، متفاوتة الصلة بالحياة والدلالات. وقد اعتبر العديد من المفكرين أن أحد أجمل تجليات هذا الحلم وأكثرها روحانية إنسانية، هي فكرة الأديان. وعبر تاريخ البشرية تتإلى على الإنسان عددٌ من الأديان والعقائد سماوية أحياناً وأرضية معظم الأحيان.

٭ ٭ ٭

فكرة المعتقدات والأديان هي المعادل الروحي الذي يوفر للإنسان توازنا نفسياً يعينه على تأمل حياته، في محاولة لإدراك الغوامض وتفسيرها في مسيرته الحياتية، بل إن هذه الأديان والمعتقدات، ساعدت الإنسان على معالجة الكثير من المشكلات التي يواجهها، من خلال ابتكار التفسيرات الفلسفية وصياغة البنى والحدود الأخلاقية، في سبيل جعل صعوبات الحياة ممكنة مهما كانت، لأجل السعي الحثيث المشروع لتحسين هذه الحياة وتطويرها.

٭ ٭ ٭

وليس من غير دلالة، أن كل هذه المعتقدات والأديان في شتى مذاهبها الفلسفية، اتفقت على جذر إنساني مشترك، ينشأ على سعادة البشر ومساواتهم وتحقيق العدل والسلام لهم جميعاً. والأرقى في كل ذلك أن الأديان جميعها، في ما جاءت بتتابع تاريخي واضح، لم تقم على فكرة نقض بعضها بعضا، ولم يأت الدين الجديد ليجب ما سبقه، ولا يدعو دين إلى مجابهة الدين الآخر، ولا يسعى لنقضه أو نفيه، فكل هذه الأديان والمذاهب، سماوية كانت أم أرضية، فإنها نشأت في شعوب ومراحل تاريخية وسياقات فلسفية وروحية مختلفة ومتنوعة، لكي تتناسب مع هذا التنوع المتنامي للبشرية عبر التاريخ. ولم تميز، هذه الأديان، في جوهرها، بين البشر في اللون أو الجنس أو العنصر.

٭ ٭ ٭

وأتاحت جميع الأديان، في جوهرها، للإنسان حرية الأخذ بها أو التعايش معها، أو تفاديها. وسيبقى هذا الشرط الآخر خياراً متاحاً كلما توقف الأمر على سماوية الدين أو بشريته. ففي الحلم العميق الذي تسعى إليه الأديان، تتجلى الفكرة الأخلاقية التي يبشر بها الدين، وتكمن الغايات والمذاهب التي يحتاجه الإنسان لسعادته الروحية واستقراره الحياتي وأمنه الاجتماعي، ونيله لحقوقه الكاملة بدرجة مميزة من العدل والكرامة. وسوف تأتي بعد ذلك الاجتهادات البشرية المشروعة لتوصيف كل هذه الغايات والأهداف وصياغة الوسائل والوسائط العملية لتحقيقها.

٭ ٭ ٭

بطبيعة الحال، سوف تجري الأمور بشكل سلس ومتوازن ومفهوم أيضاً، إذا تمكن الإنسان من إدراك الدروس المتعاقبة في تجاربه عبر التاريخ البشري الطويل، وإذا تيسر له أن يأخذ فكرة الدين مأخذ الجد، بوصفها فكرة تتصل بالروح الإنساني ومعادلاته الذاتية، باعتباره شأناً شخصياً يتوجب عليه أن يتحمل مسؤوليته، لكي يستطيع أن يحمي هذه الخصوصية من الاستغلال الذي يتهددها من قبل مؤسسات الحياة الأخرى.

٭ ٭ ٭

فطرة،
فكرة الدين للإنسان ملجأ أرواح، والروح الحرة غير قابلة للنقض، وليست عرضة للتقويض، حتى لو تصدّعت الفكرة، وصارت الأحلام وهماً.

*القدس العربي