خطيب بدلة
اسمحوا لي أن أتحدث عن صديقي صادق جلال العظم بشيء من التباهي. وإنه لَتَبَاهٍ مشروع أمارسُه على الذين لم تسنحْ لهم فرصة لمصادقة هذا الإنسان النبيل.
قد يظنُّ ظانٌّ أنني أستخدم كلمة “نبيل”، هنا، على سبيل المجاز فقط،… لا، بل إنها أمرٌ واقعي أيضاً، فصديقي صادق من “آل العظم” العائلة الأرستقراطية الشهيرة التي خرجَ منها خالد العظم (المليونير الأحمر)، رئيس حكومة الجمهورية السورية لأكثر من مرة في الخمسينات، وأما الجَدُّ “صادق” فله صورةٌ شهيرة مع إمبراطور ألمانيا “غليوم الثاني” خلال زيارته إلى دمشق في أواخر القرن التاسع عشر، لكونه من أبرز أعيان المدينة وقتذاك.
رُوِيَتْ عن صادق نادرة تقول إنه ذهب مرة، وهو يمتلك مرتبة البروفيسور في جامعة دمشق، بسيارته العتيقة، ليحضر مناسبة في مطعم “قصر النبلاء”… فاعترض حراسُ المطعم طريقه، لأن سيارته ليست سيارةَ نبلاء، كسيارات المدعوين الآخرين، فضحك، ولم يقل لهم إنه ضمن هذا المقياس – هو النبيل الوحيد بين المدعوين!
رابطة الكتاب
بداية صداقتي مع النبيل صادق كانت في سنة 2012، حينما تأسست رابطة الكتاب السوريين في المنفى، وجرى انتخاب أعضاء الأمانة العامة إلكترونياً، وحصلنا، نحن المرشحين على أعداد متفاوتة من الأصوات، وأما هو فقد فاز بكل الأصوات، دليل إجماع على محبته من قبل الكتاب والأدباء السوريين، وليس على طريقة الحكام الديكتاتوريين الذين يجبرون الناس على انتخابهم بنسبة 99.99%.
أثناء التفاوض مع صادق ليكون رئيساً للرابطة، أوضح لنا أنه لا يمتلك وقتاً لهذا العمل، فهو في سن الـ78، وما يزال يحاضر في إحدى الجامعات الأميركية، ويكتب، ويؤلف. قلنا له: بصراحة، نريد أن نجعلك رمزاً لنا ولرابطتنا، ونحن على استعداد للقيام بأي عمل، فوافق. ولكننا لم نتركه بحاله على الدوام، إذ كنا نطالبه بكتابة افتتاحية مجلة “أوراق” التي شرعنا بإصدارها بعد المؤتمر التأسيسي الذي عقد في القاهرة، وكان أعضاء المكتب التنفيذي يوكلون إلي أو إلى الصديق حسام الدين محمد مهمة (الإلحاح) عليه، والسيدة إيمان شاكر زوجته تساعدنا في الإلحاح عليه حتى يكتب، ومع هذا فأنت تلمس عنصر الفرح لدى صادق حينما يكتب عن الرابطة، بوصفها شيء من الإنجازات الحقيقية للشعب السوري في ظل الثورة.
إلى ضفة الفقراء
النبيل صادق جلال العظم، مع ذلك، ومن فرط نبله، انتقل إلى الضفة الأخرى، ضفة الفقراء و”المعترين”، فتبنى الماركسية، فكراً، وسلوكاً، ومنهجاً للبحث عن الحقيقة… فأصبح له أصدقاء ومحبون وقراء ومتابعون كثيرون، وأصبح له أيضاً، كما هي العادة في بلاد الشرق، خصومٌ كثيرون ينعتونه، على نحو يومي، بالكفر والإلحاد والزندقة. وفي أعقاب الضجة التي أثارها كتابه “نقد الفكر الديني” في بداية سبعينات القرن العشرين، أنجز الفنان بيار صادق له رسماً كاريكاتورياً نُشر في ملحق النهار وقد كتبت تحته، من باب المزاح، عبارة: الدمشقي الكافر.
في الستينيات والسبعينيات، وحتى ما قبل الاجتياح الإسرائيلي 1982 واتساع سيطرة حزب الله تدريجياً على لبنان، كانت بيروت رئة الحرية التي يتنفس منها الفنانون والمفكرون والمثقفون العرب بعامة، والسوريون بخاصة، وأكاد أجزم – الآن – أن صادق العظم، لولا وجودُ بيروت لما وجد مكاناً عربياً يقبل بنشر كتابه “نقد الفكر الديني”، حتى ولو كان مضمون الكتاب مختلفاً عن عنوانه، فرضاً.
ولكن، حتى في بيروت، لم تمر عملية إصدار الكتاب على خير، فدخل السجن لمدة قصيرة بناء على بلاغ من المفتي الذي بلغه أن الكتاب وجه ضد الإسلام (السني)… وقد أخبرني صادق، في حديث هاتفي، حينما سألته عن حكاية السجن، أن الكثير من الشخصيات الدينية دافعوا عنه، منهم الشيخ نديم الجسر، وأما الزعيم كمال جنبلاط فقد استقبله وجلسا ساعتين تحدثا خلالهما كمثقفين، وفي المحصلة لم تحكم المحكمة ببراءته وإنما اعتبرت أن الدعوة المقامة عليه ليست صحيحة أصلاً، بمعنى أنه لا توجد قضية تستوجب التوقيف والمحاكمة.
يقول صادق عن كمال جنبلاط، في حواره مع ميدل إيست أونلاين: هو واحد من الساسة العرب القلائل الذين انطلقوا من قاعدة طائفية، واستطاعوا أن يصبحوا زعماء وطنيين وشخصيات ذات طابع دولي.
العَلْمانية مقابل المذاهب الكثيرة
لم يضع صادق نفسه في مواجهة الأديان والمعتقدات قط، ولكنه يؤمن بالنقد الذاتي، والمراجعة. كل شيء في حياتنا يحتاج إلى مراجعة، وبضمن ذلك الأديان. ففي حوار طويل أجراه معه الصحافي حسن سلمان، ونشر في ميدل إيست أونلاين في التاسع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2007، يسهب صادق في الحديث عن هذا الموضوع.
يُعَرِّفُ صادق “العلمانية” بأنها الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع المعني بها، ويقول، بل يتنبأ بأنه، في مجتمع متعدد الطوائف والأديان، مثل سورية ولبنان والعراق ومصر، إذا لم تكن المواطنة هي الأساس فالبديل هو الخراب.
ورداً على سؤال حول إمكانية انسجام الإسلام في الوقت الحالي مع مصطلحات مثل العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث، يؤكد أن الإسلام التاريخي العملي والحياتي قادر على الانسجام معها، لأنه انسجم في وقت سابق مع مجتمعات البداوة والإمبراطورية، كما انسجم، في ما بعد، مع الدولة الصناعية الحديثة، لكن إذا أخذت الإسلام بمعنى نظام مثالي مغلق، يعني فقط مبادئ معينة، فهذا لا ينسجم إلا مع نفسه.
ولا يخفي صادق إعجابه بالنموذج التركي، إذ يقول إن تركيا هي البلد الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين أمرين: تاريخ طويل من العلمانية المتشددة، وفي الوقت نفسه أنتجت هذه العلمانية حزباً إسلامياً ديمقراطياً حقيقياً قادراً على استلام السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة لا غبار عليها.
صادق والثورة السورية
عنصر آخر يسوغ التباهيَ بصداقة صادق جلال العظم، وهو أنه لم يتردد لحظة في تأييد ثورة الشعب السوري، بل والانتماء إليها. كتب في افتتاحية العدد الأول من مجلة “أوراق” ما يلي:
صار لكُتّاب سورية رابطة حرة طليقة تجمعهم طوعياً ومهنياً وليس قسراً أو اضطراراً لتحقيق مصلحة ما. كما صار لرابطة الكُتّاب السوريين مجلة حرة طليقة بدورها، صدر عددها التجريبي في خريف سنة 2012 وجمع العددُ ما جمع من وثائق وأبحاث ومقالات وتعليقات تتناول ثورة الشعب السوري على حكم القهر والاستبداد والقمع العسكري – الأمني السلالي الأبدي.
واستُقبل العدد (صفر) باستحسان وقبول ملحوظين، وها هي رابطة الكُتّاب السوريين تصدر العدد الأول من مجلتها تحت اسم “أوراق” في خطوة على طريق تخليصنا مما اضطررنا إلى استبطانه، على مدى عقود، من قواعد وأصول للتعامل مع نظام القهر والاستبداد عبر التكتم والتقية والنفاق والتلاعب بالكلمات والتظاهر بالتصديق والقبول والاختباء وراء الرموز والتلميحات والإشارات المبهمة والقابلة لشتى التفسيرات.
رابطة الكُتّاب السوريين ومجلتها، كما الإنتلجنسيا السورية عموماً، مدينة بهذا كله إلى ثورة الشعب السوري المستمرة بتضحياتها الهائلة والتي ما كان لكُتّاب سورية أن يشرعوا في التخلص من هذه الإعاقات والعاهات وفي استرجاع حرياتهم لولاها.
اليسار السوري والثورة
في حواره المهم مع “مجموعة الجمهورية”، بتاريخ 10 كانون الثاني/ يناير 2013، قدم صادق تشريحاً بنيوياً عميقاً لطبيعة اليسار وعلاقته الإشكالية بالثورة، إذ قال إن اليسار كان يجمع ملتزمين ونشطاء وأنصاراً وكوادر ومؤيدين من الخلفيات والانتماءات الدينية والطائفية والمذهبية والجهوية والإثنية والعشائرية كلها، باتجاه مستقبل يتجاوزُ الانتماءات والولاءات الأولية شبه الطبيعية هذه، باتجاه حالة مدنية وعصرية أرقى. بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار اليسار وتشتته في كل مكان تقريباً، ارتدّ الكثير من هؤلاء اليساريين إلى ولاءاتهم الأولى والأولية والأكثر بدائية، وبخاصة الطائفية والمذهبية والدينية منها، وأخذوا يحددون مواقفهم من الثورة استناداً إلى الولاءات والالتزامات التي عادوا إليها واحتموا بها، وليس استناداً إلى يساريتهم المكتسبة والضائعة لاحقاً. وبعد انتهاء الحرب الباردة انقسم اليسار إلى كتلة كبيرة تبنت ما يمكن تسميته “ببرنامج المجتمع المدني” والدفاع عنه، وهو البرنامج الذي يؤكد مسائل مثل: احترام شرعة حقوق الإنسان، أولوية فكرة المواطنة وممارساتها، بالإضافة إلى الحقوق المدنية والحريات العامة، المساواة أمام القانون، فصل السلطات، علمانية الدولة وأجهزتها، القضاء المستقل، الديمقراطية وتداول السلطة والحكم فعلياً، وليس تداولهما بين الآباء والأبناء والأحفاد والأقرباء كما هو حاصل في سورية اليوم. بعبارة أخرى، الكتلة الأكبر من اليسار تراجعت إلى خط الدفاع الثاني المتمثل “ببرنامج المجتمع المدني” والدفاع عنه في وجه الاستبداد العسكري – الأمني – العائلي القائم من جهة أولى، والظلامية الدينية القروسطية الزاحفة من جهة ثانية. أعتقد أن هذه الكتلة من اليسار على العموم متعاطفة مع الثورة في سورية، وبالتأكيد ليس لها موقف عدائي منها أو حاد ضدها، علماً بأن لهذه الكتلة دوراً كبيراً في صناعة الربيع العربي عموماً. كما أن معظم اليساريين المؤيدين للثورة ينتمون إليها بصورة أو أخرى.
أما الكتلة الأصغر من اليسار فقد تعصّبت لمواقفها السابقة، وكأن شيئاً لم يكن مع انتهاء الحرب الباردة، وأخذت تميل مع الوقت إلى المواقف وأساليب العمل ذات الطابع (الطالباني – الجهادي) أو (الطائفي – المذهبي) المنغلق على نفسه. هذه الكتلة من اليسار، عربياً وعالمياً، هي الآن الأكثر عدائية للثورة السورية، والأقرب إلى دعم نظام الاستبداد العسكري والأمني والعائلي فيها، بحجج كثيرة ليس أقلها تآمر الكون بأسره، فيما يبدو، على هذا النظام المحب للسلام والاستقرار وإن كانت سلامته واستقراره هما من قبيل سلام القبور واستقرارها!
نقد الفكر الديني وثورة المساجد
ولكن المتابع الحيادي لمسيرة صادق العظم لا بد أن يجد تناقضاً بين نزوعه الماركسي، وعلمانيته، ووقوفه إلى جانب الدولة المدنية، والقوانين الوضعية… إلخ، وبين تأييده للثورة التي خرجت من المساجد. ولم تكن مشكلتها الوحيدة أنها خرجت من المساجد، بل إن التيارات الدينية التفت عليها، ولا سيما بعد التسلح، وأخذت تفرز ظواهر شاذة من التشدد والتطرف.
وقد كان السؤال الذي وجه إليه في “مجموعة الجمهورية” أكثر إثارة وهو: كيف يقف مؤلف “نقد الفكر الديني” مع ثورة خرجت من المساجد؟ فرد صادق:
مؤلف كتاب “نقد الفكر الديني” كان قد وقف مع ثورة الشعب الإيراني على الحكم الشاهنشاهي واستبداده وفساده وأجهزة مخابراته الشهيرة بشراستها هي الأخرى (السافاك)، على الرغم من أن الدور القيادي لرجال الدين وآيات الله كان جلياً فيها منذ البداية، وعلى ما أذكر فإن “اليسار”، في تلك الأيام، كان برمته تقريباً مؤيداً لثورة الشعب الإيراني، وداعماً لها، ومهلّلاً لخطابها، على الرغم من خروج المظاهرات يومها من المساجد والحوزات. الأمر المهم هنا هو الوقوف مع ثورة الشعب على الطغيان والعسف بغض النظر عن طبيعة الأماكن والمراكز التي ينطلق منها الحراك الشعبي الثوري أو يتجمع عندها.
مؤلف كتاب “نقد الفكر الديني” وقف كذلك مع لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وغيرها من مناطق العالم، لأن لاهوت التحرير دعم الحِراكات الشعبية التحررية في تلك البلدان ضد أشكال مثل طاغية مرذول على شاكلة سوموزا في نيكاراغوا، وانقلابي مجرم مثل بينوشيه (Pinochet) في التشيلي، وحكم الجنرالات الدموي في الأرجنتين. بعد هذا كله، هل يمكن لمؤلف الكتاب المذكور أن يتقاعس أو يتخاذل في مسألة الوقوف مع ثورة الشعب السوري على حكم تفوق في طغيانه وقتله وتدميره على سوموزا وبينوشيه وجنرالات الأرجنتين وشاه إيران مجتمعين كلهم معاً؟ التناقض هنا ليس عندي، بل عند الذين انتصروا في يوم ما لثورة الشعب الإيراني ولـ لاهوت التحرير وكنائسه ولحركات التحرر الوطني في كل مكان تقريباً، ولكنهم يرفضون الانتصار لثورة الشعب السوري بذريعة أن مظاهراتها واحتجاجاتها تخرج من الجامع وليس من دار الأوبرا أو المسرح الوطني على حد تبرير أدونيس.
نعم، أخشى الإسلام السياسي بعد سقوط النظام وقبله. أخشاه لأسباب أبعد من الوجه الإسلامي الزائد الذي أخذت تظهر به الثورة السورية أمام نفسها وأمام العالم كله. أخشى ذلك لأنه في ثقافتنا ومجتمعاتنا ما يكفي من العناصر السلطوية والتسلطية والسلبطجية والأبوية والأبوية المحدثة والثأرية، بما يجعل إعادة إنتاج نظام الاستبداد مجدداً، بصورة أو أخرى، احتمالاً وارداً ومخيفاً، مما يتطلب الحذر الشديد واليقظة التامة. في أحوالنا الراهنة لا يجوز الاستسهال باحتمالات نشوء استبداد عسكري ما، مثلاً، مغلفاً هذه المرة بالعقيدة الدينية والأحكام الشرعية والتعصب المذهبي. لذا أحاول أن أتابع جيداً ما يجري في مصر اليوم، إذ عندما أعطى الرئيس المنتخب هناك محمد مرسي نفسه، فجأة، سلطات وحصانات استبدادية من نوع “لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون” (وهذا هو تعريف الطاغية)، هبّ نصف المجتمع المصري تقريباً، هبة شعبية عارمة لمنع الرئيس من السير في طريق إعادة إنتاج الاستبداد في مصر حتى لو كان ذلك لفترة معلومة على حد زعمه، وحتى لو كان خطابه خطاباً إسلامياً وشرعياً، حتى مشايخ الأزهر وقفوا إلى جانب الهبة الشعبية، كما صوتت القاهرة بـ”لا” مدوية على دستور مرسي المسلوق سلقاً من جانب الإسلاميين (كما يقول المصريون). ولا أعتقد أن سورية ستكون أقل من مصر في هذا الشأن، أو أقل حرصاً على حماية نفسها من عودة الاستبداد بأي صفة كانت. طبعاً، تبقى خيارات المستقبل وأشكاله التاريخية القادمة مفتوحة، ولا توجد ضمانات مسبقة لأحد، خاصة عندما نكون أمام أحداث تاريخية كبرى مثل الثورات ونتائجها القريبة والبعيدة.
توقعاتي بالنسبة لهذه المسألة تتلخص في أنه بعد رحيل النظام، وعودة أهل حماة إلى حماة، وأهل حمص إلى حمص، وأهل حوران إلى ما تبقى من بيوتهم، وبعد تجاوز مرحلة قلقة محتملة من الفوضى والانتقامات الثأرية وتصفية الحسابات بين عدد من الأفراد والمجموعات، سيسود مجدداً في البلاد والمجتمع مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح والذي عرفت به سورية المعاصرة، وعرف به شعب سورية منذ عهد الملك فيصل.
ملاحظة: كتبت السيدة خالدة سعيد زوجة الأستاذ أدونيس رداً مستفيضاً على صادق العظم بسبب انتقاده لفكرة أدونيس حول رفض الثورة لكونها خرجت من المساجد، نشر في الحياة، 17 مايو/ أيار 2013، ورد صادق عليها بمقالة طويلة نشرت في الحياة أيضاً بتاريخ 22 يونيو/ حزيران 2013.
إشكالية العلوية السياسية
في مسيرة حياة صادق جلال العظم (الذي ولد في سنة 1934، وأمضى عمره في العلم والبحث والفلسفة) محطات إبداعية بارزة، منها: النقد الذاتي – مأساة إبليس – الحب العذري – العلوية السياسية. وهذا الالتماع الأخير، أعني “العلوية السياسية”، أثار بين أبناء الشعب، كما هي العادة، ردودَ فعل متباينة في الاتجاهات والحدة، من مؤيد عفوي، فطري، غير مطلع على الفكرة، وغير مهتم بقراءتها أصلاً، إلى رافض لها، حانق على مبتدعها لا يمتلك في مواجهتها سوى السباب.
وأما في أوساط المثقفين فهناك مَن يعترض على الفكرة، كالصديق الدكتور راتب شعبو، ويعتقد أن أهميتها تنحصر في كونها صادرة عن أكاديمي مرموق هو الدكتور صادق (العربي الجديد، 7 أغسطس/ آب 2015)، وهناك من شعر بـ “الصدمة”، كالسيد نبراس دلول، لأن هذا المصطلح، برأيه، صدر عن الأستاذ الكبير والبروفيسور اللامع صادق جلال العظم. وأوضح لنا دلول أن هذه (نكسة حقيقية) ليس فقط لشخص الدكتور صادق الكريم، بل ولمجمل المشهد الثقافي والتحرري! (موقع هيئة التنسيق الوطني في سورية، 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2013). وأما الباحث زياد ماجد، فتوصل إلى أن مفهوم العلوية السياسية يختلف عن مفهوم المارونية السياسية، ولكن هذا لا يغيّر في شيء صحّة تقديره لأولوية طيّ صفحة البربرية الطاغية في سورية منذ أكثر من أربعة عقود، ولا تؤثّر في صدقية انحيازه الشجاع كمثقّفٍ إلى الحرية والثورة التي أشاح مثّقفون كثر من أترابه أنظارهم عنها. (الحياة 30 إبريل/ نيسان 2014).
في لقاء أجرته ديمة ونوس معه، بتاريخ 7 أكتوبر 2015، على قناة أورينت، أزال صادق العظم الكثير من الغموض، وقلل من مسوغات سوء الفهم لدى منتقدي فكرته الأساسية التي تقول إن نجاح الثورة، أو نجاح المفاوضات في مؤتمر جنيف، لا تكون إلا بإزالة (العلوية السياسية). فبدا الاعتراض الأساسي لديه ليس منصبَّاً على الأشخاص، ولا على الطائفة العلوية، وإنما على المبدأ، و(الأبدية). وتساءل، على سبيل تقريب المعنى من الأذهان: هل يعقل أن يكون رئيس مصر قبطياً (وإلى الأبد)، وقائد الجيش قبطياً (وإلى الأبد)، والمستولون على قطاعات الأمن والاقتصاد والمال والإعلام أقباطاً وإلى الأبد؟ وهل يجوز أن يكون رئيس تركيا كردياً، وأن الأشخاص الذين يمسكون بمفاصل الأمن والاقتصاد والإعلام والمال، كلهم، أكراداً، وإلى الأبد؟ وقال: هذا الذي يبدو غريباً كنا نحن نعيشه كأمر واقع في سورية.
وسارع للتوضيح: المطلوب هو استبعاد الطغمة الحاكمة (المؤبدة) ولا يجوز لأحد أن يفسر هذا الكلام على أنه موجه ضد المواطنين العلويين.
العربي الجديد-2016