في العِيَادَة..

0

د. مصطفى عبد الفتاح

طبيب وأديب سوري

أوراق 11

أوراق القصة

                                                                                                                                           

جلسة1..

ـ الطبيب لا يخطئ.

قلْتُها بنبرة واثقة لا يخفى ما فيها من امتعاض، وأنا أفحص الفم الصغير ردّاً على سؤال الأم الذي ملأني غيظاً: هل تضمن سلامة المعالجة دكتور؟

عندما التفتُ إليها لاحقاً كان وجهُها لا يحمل أيَّ تعبيرٍ كأنما تنظر في أفق صحراويٍّ بعيد.

كانتِ الأمُّ وطفلتها أوّلَ العابرين إلى رحبِ عيادتي الجديدة، وكنتُ أَرى أنّني أملك من المعرفة التي تزودتْ بها في الجامعة ما يكفي لسلامة أيّ معالجة.

الصغيرة تبدو في 12 من عمرها، وهذا ما أكّدته أسنانها.. ثمّة نخرٌ عميقٌ في ضرسٍ سبّبَ مراجعتها العيادة.. التشخيصُ سهلٌ للغاية؛ حالةُ التهاب عصب.

ملأني الحماس حين تمكّنتُ من حقنِ المُخدّر دون مقاومة أو بكاء، بدا الألم على الطفلة لكنها اكتفت ببعض التشنج، قلت ممازحاً: أنتِ شاطرة يا عمو، تستحقين مكافأة عندما ننتهي.

كانت ردة فعل الصغيرة غريبة، ابتسمتْ وهي تشيحُ بنظرِها عني، أمّا الأم فقد بدت نظراتها متجمدةً كأنها في مهبّ عاصفة قطبية.

جلسة 2..

شعرتُ كأنني تلقيتُ صفعةً يابسة حين اكتشفت في الجلسة الثانية أنّ العصب لم يُستأصلْ تماماً، كان تأوّه الصغيرة مكتوماً، سألتها: هل هناكَ ألمٌ يا عمّو؟

احمرت وجنتاها لسؤالي وأطرقتْ مشيرة بهزةٍ من رأسها بالإيجاب، أعدتُ حقنَ المُخدّر للمرة الثانية، وحرصتُ على العمل المتقَنِ حتّى لا تتهالك كبريائي أمام الأمّ، وحين انتهيتُ قلت للطفلة: لن تشعري بالألم مُجدداً، وسأفي بوعدي بهدية جميلة يا عمو.

تبسمت الطفلة بخجلٍ شديد، أمّا الأم فكانت نظرتها المتجمدة ما تزال تقبع في عمق عينيها.

جلسة 3..

كمن فقَـدَ شيئاً رحتُ أنظر بين الفينة والأخرى نحو الأم لأعرف ما تخبئه نظرتها الجامدة، هل شعرتْ بالخَجل منّي حين أجبْتُها بامتعاضٍ في الجلسة الأولى؟  هل ندمتْ على دخول عيادتي؟  هل سأخسر سمعتي منذ بداية الطريق؛ حين تُحدّث الأمُّ نساءَ القرية عن جفائي؟

تتابعتِ الوساوسُ كسحابِ يومٍ شتوي، ثم نشرتْ أشرعتها فوق سمائي، وأنا أقوم بوضع الحشوات، حاولت القيام بكافة الإجراءات التي تضمن سلامة المعالجة، وأعطيت المريضة موعداً أخيراً.

جلسة أخيرة..

بعد ترميم الضرس ناولتني الأم مستحقاتي المالية دون اعتراض، عندها وصلتُ للحظة التي أعددتُ نفسي لها، أخرجت من درج مكتبي لعبة صغيرة وقدّمتُها للطفلة، كنت أتمنى أن تمحوَ هذه الهدية تلك النظرة التي أرّقتني في عيون الأم، انتظرتُ لحظات كانت دهراً لأنّ الطفلة تبسمتْ بخجل وهي تنظر إلى أمها، أخيراً أشارت الأم للطفلة بأخذ اللعبة،

تناولتِ اللعبةَ وهي تشيح بوجهها عنّي، ثم خرجت الأم دون كلمة شكر واحدة، أصابني التيبس ساعة كاملة.

ـ لِمَ لَمْ تشكرني الأم؟

ـ هل ما زالت الأم غاضبة من جفاء جوابي في ذلك اليوم؟

وضاعت تساؤلاتي في هبوب حالات مرضية جديدة بدأت تتزايد في عيادتي الصغيرة.

جلسة بلا عنوان…

فوجئت بعد شهور بذلك الوجه الطفولي البريء يخطو داخلاً إلى العيادة بصحبة الأم ذات النظرات الجليدية، بادرتني الأم: أنت قلت يا دكتور إنّ    الطبيب لا يخطئ، انظر إلى ضرس ابنتي.

دققت النظر فرأيت انتفاخاً واضحاً في الخد، شعرت كأنني قبطان فقد دفة التوجيه وسط عاصفة هوجاء، اكتفيت بالصمت وأنا أشير للطفلة بالجلوس فوق كرسي المعالجة، اكتشفت أنها أسوأ لحظات يعيشها الطبيب حين يضطر لإعادة معالجة بسبب فشل يقع ضمن النسبة الطبيعية، لكنه فشل لا يغفره المريض، فكيف بمن أكدّ له الطبيب سلامة المعالجة، أحسستُ أنني أُعاقَب على امتعاضي من سؤال الأم في ذلك اليوم، لكن كبريائي الطبي دفعني لنشر جوٍّ من المرح على الموقف، قلت للطفلة: هل ما زلت تحتفظين باللعبة يا حلوة؟

تبسمت الطفلة بخجل شديد، وحانت مني التفاتة نحو الأم، فقالت وهي تُطْرِقُ بنظراتٍ مُتْعَبَة: إنها ليست طفلة يا دكتور، عمرها تسعة عشر عاماً.

عقدتِ المفاجأةُ لساني، تابعتِ الأمُّ: توقّفَ نموُّها بسببِ خطأٍ طبيٍّ وقع فيه طبيب قال إنه لا يخطئ.   

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here