شكلت المقاهي نقطة بارزة في كونها المكان الذي يشغل الناس في المشهد الفكري والثقافي، من ذلك مقهى القصر الذي يقع في شارع بارون. ومن المعروف أن الشارع يضم الفندق الذي ذكرته أغاثا كريستي في مغامراتها، عندما جاءت إلى حلب.
يقع مقهى القصر في وسط مدينة حلب، أمام سينما أوغاريت إلا قليلًا، ويتقاطع معه شارع العبارة الذي يصل إلى مركز الباصات في المنشية القديمة، ويضم طاولات عديدة، وكراس، وطاولة صغيرة للحساب، يجلس وراءها رجل بلغ من العمر عتيًا، وأمامه جهاز هاتف، وآلة الحساب، في المقهى طاولات تطل على الواجهة، وأخرى في الوسط، وهنالك طاولات في الخلف. ويجلس على الواجهة الأديب جورج سالم، الذي اشتهر بأنه يكتب عن الموتى، وطرق دفنهم، ويجلس معه الأستاذ ميشيل أزرق، المترجم الذي لا يشق له غبار، والذي يحمل ترجماته في جيبه، وإن كنت لا تعرف ما يترجم، فاستمع إليه وهو يخرج إليك القطع التي ترجمها، والتي غالبًا ما تكون للمجموعة المحيطة به، كذلك يجلس على الطاولة الأخرى مجموعة الأديب وليد إخلاصي، مالئ الدنيا من دون أن يشغل الناس، الذي طبع أكثر من خمسة وثلاثين كتابًا ولم يهتز له إصبع، إنه الآن يجمع حول طاولته الأنبياء الصغار من الشعراء الشبان، الذين تفرقت بهم السبل، وضاعت بهم الأوطان، إنه يحكي لهم الحكايات التي لا تنتهي، وهم، أي الأدباء الصغار يجلسون أمامه ويفتحون أفواههم ويرخون أرجلهم، وكل يسرح بخياله ويذهب إلى هناك، إلى أمَه التي تطعم الدجاجات الآن، ويفكر لماذا لم يرسلوا له المعلوم هذا الشهر.
على الطاولة الأخرى، يجلس الشاعران بشير البكر، ورياض الصالح الحسين، وقد انضاف إليهما الناقد، جمال باروت، يتناقشون في الشعر الحديث، وقصيدة النثر، والثلاثة سيذهبون بعد قليل إلى مطعم الشباب يتابعون جلستهم هذه، وبكري عامل المقهى يضع لهم فناجين الإكسبريس على الطاولة، هو يعمل في النهار، ونمر في الليل، ونمر هذا يعتبر أن الشاعر محمود درويش ابن خالته، إنه يفتح أبواب المقهى كي يبرد الشعراء المساكين، أثناء ورديته كي يتركوا المقهى لأنهم يجلسون فيها منذ الصباح.
يزورنا الروائي والناقد، نبيل سليمان، الذي امتلأت برواياته واجهات المكتبات، من دون أن يرف له جفن، يعطي شابًا يكتب في الصحف، أن يكتب له عن الرواية، يعني تعريف بها لا أكثر.
الفنانون ونقاد الفن التشكيلي يجلسون في صدر المقهى، هاهو أنور محمد، الصحفي البارع، يشرح لصلاح الدين محمد نظرية الفن للشعب، بينما يعارضه الآخر بأن الفن يجب أن يكون للفن، ولا شيء غيره. والفنان لؤي كيالي يجلس بينهما صامتًا لا يتكلم، وكأنما على رأسه الطير، وقد علق فوق رأسه فوق الجدار لوحة ماسح الأحذية، وتبرز صبيًا أشقر يمسح حذاء، وأمامه صندوقه. كان لؤي الفنان قد مرض مرضًا عصبيًا، ورفض أن يأخذ حبوبه التي وصفها الطبيب له، فمرت أخته وترجت النادل أبو الخير أن يضع له حبة في فنجان القهوة، فقال لها: سمعًا وطاعة. وعندما حضر الفنان لؤي وتم الأمر، واحتسى الفنان، شاهد في قعره الحبة لم تذب بعد، نهض ومشى إلى النادل وسطا عليه بصفعة اهتزت لها أركان المقهى وغادر، لكنه عاد بعد قليل، وقام بإهداء اللوحة إليه، وقد باعها بمئة ليرة بأسعار ذلك الزمان.
يأتي الفنان سعد يكن، ولم يكن قد أصبح فنانًا يشار إليه بالبنان، ويجلس بينهم. إنه يشعر بعظمة لؤي كيالي، ويسألهم أين ستكون السهرة اليوم، فيتفقون على ملهى الطاحونة الحمراء. يحتسون القهوة ويمضون. يمر حسين درويش، ولقمان ديركي، وهما شاعران في أول عمرهما، ويجلسان إلى طاولة الدكتور فؤاد المرعي، الذي يرعى جموع الشعراء الشبان، ويأخذ بيدهم من كلية الآداب إلى المقهى، حيث يقيم لهم الملتقيات الأدبية التي يديرها مع جمال باروت، وينضم عبداللطيف خطاب شاعر الرقة، وبقية الركب، فيتفاعلون مع الشعر والقصة بين تقدمية الشعر ورجعيته.
مجموعة عبدالرزاق عيد تجلس مع نفسها، لا تخالط أحدًا، وقد تسلحت بالماركسية سلاحًا يقيها من عثرات الزمان، بينما الدكتور مسلم الزيبق يقفز من طاولة إلى أخرى، بعكس نجم الدين سمان الذي يجلس مع الدكتور فؤاد المرعي لا يفارقه أبدًا، وأبو الخير يتكلم بصوت مرتفع ليبلغنا أنهم أصبحوا ثمانية عشر مجنونًا هم روَاد المقهى، بالإضافة إلى الأدباء.
لقد زار المقهى أدباء ومفكرون كثر جلَهم جلس تحت المروحة، فقد مرَ عليها كل من: علي الجندي، ومنذر مصري، وصادق جلال العظم، وحنا مينة، ومحمد كامل الخطيب، وفيصل دراج، وشوقي بغدادي، وحسين العودات، وعبدالسلام العجيلي، وفاتح المدرس، ونذير نبعة. وحين زارنا الشاعر محمود درويش أخذه الشعراء الفلسطينيون إلى مقهى الفندق السياحي، لأنه كان ينزل فيه.
قد مرَ زمن على هذا المقهى، وحين مات صاحبه باعه الورثة لمستثمر جعله محلًا لبيع الأحذية، وتفرق الأدباء والمثقفون كل في طريق، لكنهم أبدًا كانوا يحنون إلى مقهى القصر كلما مروا به.
*ضفة ثالثة