حين يدور نقاشٌ ما حول أصل الرواية العربية في أوقات ومراحل مختلفة، نجد أنّ من يديرون النقاش لا يقاربون في أغلب الأحيان أعمالًا روائية نسائية. وهذا الموقف لا ينحصر بطرفٍ دون الآخر، إذ يصدر عن أديباتٍ وكاتباتٍ لدوافع مختلفة، فعندما سُئل “محمّد دكروب” الذي كتب دراسةً مطوّلةً ناقش فيها ولادة الرواية العربيّة ومراحل تطوّرها عن السبب الذي جعله لا يذكر روائيّة واحدة، أجاب: “إنّ السبب الوحيد الذي يمكن لي أن أفكّر به هو أنّ الكتّاب ـ بمن فيهم أنا طبعًاـ يعتقدون بشكلٍ لا شعوريّ أنّ الأدب الذي كتبته النساء غير هام”.
هكذا عبّر دكروب بأمانةٍ كاملة عمّا تشكّ النساء دائمًا في أنّه السبب الكامن خلف تجاهل إبداعهنّ وتهميشه، فقط لأن كاتباته من النساء.
وفي الوقت الذي تمّ التوافق فيه من قِبل النقّاد على أنّ رواية (زينب) لـ محمد حسين هيكل هي أوّل روايةٍ عربيّة؛ سعت المهتمّات بالأدب النسائيّ إلى البحث عن أوّل رواية عربيّة كتبتها امرأة، لتتوافق تلك الباحثات مع الرأي النقديّ السائد أنّ رواية وداد سكاكيني (أروى بنت الخطوب، القاهرة 1949) هي أوّل رواية عربيّة كتبتها امرأة، وقد يبدو هذا غير مستغربٍ وفق نسق التفكير السائد الذي يتوقّع تفوّق الرجال وأسبقيّتهم في كل مضمار.
وعندما انصرف بعض النقّاد المنصفين ـرجالًا ونساءـ إلى اقتفاء أثر الكاتبات العربيّات إلى أبعد تاريخٍ ممكن، وجدوا أنّ هناك ثلاث عشرة رواية مكتوبة من قِبل النساء ظهرت قبل رواية زينب، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ حجم المساهمة النسائيّة في ولادة الرواية العربية لم يكن بقليل حتّى يتمّ إسقاطه وتجاهله من قِبل النقاد والمؤرّخين لنشأة الرواية؛ طبعًا لسنا بصدد ذكرها وتعدادها في هذا المقام الضيّق، وإنّما سنرّكز على رواية (حسن العواقب، منشورات الدار الهندية، القاهرة 1899) لزينب فوّاز التي توافق كثيرٌ من النقّاد على أنّها أوّل رواية عربيّة خلافًا للاعتقاد السائد والراسخ في تاريخ الأدب العربيّ الذي يعدّ رواية (زينب) لهيكل هي أوّل رواية عربيّة ناضجة فنيًا.
وتعبّر المقدّمة التي افتتحت بها الكاتبة روايتها عن فهمٍ عميقٍ ومبكّر لعناصر الرواية ومهمّتها؛ حيث قالت: “بما أنّ الروايات تعيد إنتاج صورة للواقع، وليس الواقع بحالته الفجّة، فقد قرّرت أن أكتب هذه الرواية آملةً أن تفيد وتمتع”.
وامتدح أدباء كثيرون في ذلك الوقت مزايا روايتها تلك ناصحين القرّاء بقراءتها؛ إذ عمد رئيس تحرير جريدة النيل في ذلك الوقت إلى تقريظ الرواية قائلًا عنها: “قرأتُ رواية حسن العواقب للكاتبة الشهيرة التي لا توازي شهرتها شهرة، وذلك لفكرها النيّر وقلمها المبدع، فوجدت الرواية تتمتّع ببنيةٍ جيّدةٍ ومواضيع بعيدة المنال، ومزايا أدبيّة جيّدة، نأمل أن تستمرّ كاتبتنا بمنح عصرنا الحاضر مثل هذه الكتابات الأدبيّة القيّمة”.
ربّما تكمن أهميّة رواية زينب فوّاز المبكّرة في موضوعها الذي يُعدّ أفضل ردّ على أولئك الذين تجاهلوا الأدب النسائيّ معتبرين إيّاه أدباً من الدرجة الثانية، بسبب هموم واهتمامات النساء السطحيّة والنظرة العاطفيّة الضيّقة للعالم؛ ورواية (حسن العواقب) رواية سياسيّة ـ اجتماعيّة تكشف عن المناخ السياسي في ذلك الوقت وانعكاساته الاجتماعية، إذ احتوت الرواية على نسيجٍ من العلاقات الاجتماعية التي تنعكس تداخلاتها في التنافسات والأحقاد والتسابق إلى حيازة السلطة، كما تتداخل في الرواية شبكة معقّدة من العلاقات العائليّة المرتبطة مباشرةً بالنظام السياسي؛ ممّا يدلّ على امتلاك النساء في ذلك الزمن المبكّر لوعيٍ سياسيّ يدفعهنّ لاتّخاذ مواقف حازمة كما أنهنّ يظهرن قادراتٍ على التعبير عن مشاعرهنّ بصراحة وحزم.
ويظهر عنوان الرواية أنّها أخلاقيّة تتناول نسيج العلاقات السياسيّة والاجتماعية وتعلّم درسًا غير مباشر عن أهميّة النوايا الطيّبة والتصرّف الحسن، وتتمتّع الشخصيات بمصداقيّة وهي منسجمة مع ذاتها وأعمالها، وهي شخصيّات ثابتة تفصح عن مشاعرها التي غالبًا ما تنعكس في حركة الطبيعة ومظهرها.
إنّ رسالة الكاتبة في روايتها تلك أخلاقيّة تهدف إلى تثقيف الأجيال الشّابة وتنويرها؛ لكنّ الرسالة ليست مباشرة ولا تعليميّة، بل تنبثق بشكلٍ طبيعيّ من تعاقب الأحداث الممتعة والمقنعة، وتظهر النساء بشكلٍ متميّز في هذه الرواية، ويتّخذن المواقف السياسيّة الصحيحة ويُبرهِنّ على أنهنّ مقاتلاتٌ عنيداتٌ من أجل ما يقنعن به ويشعرن أنّه لصالحهنّ.
يُظهر إنتاج زينب فوّاز الأدبي أنّها كانت مدركةً للفروق بين الأصناف الأدبيّة، وأنّها كتبت كلّ عملٍ من أعمالها وفي ذهنها خصائص أدبيّة معيّنة وجمهور معيّنٌ أيضًا، وقد نشرت مع هذه الرواية مسرحيّةً لها بعنوان (الهوى والوفا) والتي تتألّف من أربعة فصول، ويُظهر وصف الشخصيات والمسرح وتطوّر الأحداث أنّ الكاتبة امتلكت مهارة الكتابة للمسرح، واللافت للنظر هو أنّ فوّاز قد استهدفت في هذه المسرحيّة جمهورًا نسائيًّا، كما أنّ موضوع روايتها كذلك يُظهر أنّ القارئات النساء كنّ في ذهنها وهي تكتب الرواية، وفي هذا برهانٌ ليس فقط على موهبتها ورسالتها؛ بل إنّه مؤشّرٌ أيضًا على وجود النساء المهتمّات بالقضايا المثارة في زمنهنّ، وهذا يدحض تلك الذريعة التي ينطلق منها مهمّشو الأدب النسائي بوصفه يتناول اهتمامات النساء الفارغة، ودوافعهنّ للكتابة.
لقد كتبت فوّاز الشعر والرواية والمسرح، كما كتبت رسائل مهمة عالجت من خلالها معظم القضايا السياسية والاجتماعية التي كانت تشغل بال النساء والرجال على حدّ سواءٍ في ذلك الوقت، وتظهر الرسائل ثقافتها الأدبيّة والاجتماعيّة العميقة والتزامها بإصلاح الإنسان بشكل عام، وليس النساء فقط.
لكن المؤسف حقيقة أنّ أعمالها التي يجب أن تُصنّف بين الأعمال الرائدة في الأدب ما تزال صعبة المنال، ولا تتوفّر منها سوى بعض النسخ في المكتبات الوطنيّة الكبرى في سوريا ولبنان ومصر.
كما يُعدّ عملها (الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدور) علامة فارقة أساسيّة في تاريخ الأدب بشكل عام، وتاريخ الأدب النسائي بشكل خاصّ؛ وهو كتابٌ في فنّ التراجم؛ إذ ترجمت الكاتبة فيه لعدد كبيرٍ من الشخصيّات النسائية، مرتّبة ذلك ترتيبًا ألفبائيَّا لأربعمئةٍ وستّ وخمسين امرأة من الشرق والغرب من التاريخ القديم والحديث، وهي تقدّم سيرةً ذاتيّة للمرأة ومن ثمّ تقدّم أعمالها ومساهمتها في الحركة الأدبية أو السياسيّة أو الاجتماعيّة، وقد بيّنت أنّ دافعها إلى كتابة هذا العمل الضّخم هو خدمة النساء وقضيّتهنّ من خلال كتابتها تاريخ النساء وتعريفها بمساهماتهنّ في مختلف المجالات تقول: “ظهر كتابي كجنّةٍ في قصورهنّ ليقدّم أفضل النساء المفكّرات من الشّرق والغرب، وقد قمتُ بذلك كخدمةٍ لبنات جنسي، وأعتقد أنّ هذه هي أفضل هديّةٍ للسيّدات الفاضلات”.
إنّ هذا الكتاب هو نتاج باحثةٍ ملتزمةٍ ذات رؤيةٍ تحرّرية لا توجد منه إلّا بعض النسخ النادرة في مكتبتين أو ثلاث في العالم العربيّ، في الوقت الذي يٌفترض أن يُحتفى به ويكون بمتناول يد طلّاب الأدب العربيّ والتاريخ العربيّ، ويحتفى به كبقيّة الكتب التي صنّفها الرجال والتي تتناول النتاج الأدبيّ للنساء في كلّ العصور.
وقد عمدت إحدى قريبات زينب وتُدعى فوزية فواز؛ إلى إلقاء الضوء على جانبٍ مهم من فكر زينب فواز وعملها، كما ذكرت أسبقيّة زينب على قاسم أمين في المطالبة بتحرير المرأة في العالم العربيّ؛ إذ إنّ رسائلها الزينبيّة في موضوعات المرأة كانت تُنشر في الصّحف المصريّة قبل سنة 1892، بينما لم ينشر قاسم أمين كتاب (تحرير المرأة) إلّا سنة 1898، تقول فوزية فوّاز في مقدّمتها لإحدى طبعات رواية (حسن العواقب): “طالبت زينب فوّاز بإصدار تشريعات لتنظيم حياة النساء وضمان حقوقهنّ في التعليم والعمل، وبهذا كانت أوّل امرأةٍ تتحمّل تلك المسؤوليّة لقضيّتها وتناقشها في المحافل الدوليّة؛ مؤكّدة أن الدور الذي تلعبه النساء يكتسب أهميّة بالغةً في خلقِ مجتمعٍ مدنيٍّ متحضّر”.
*تلفزيون سوريا