فوزي غزلان: رواية “الجسد” لحنيف قريشي

0

حنيف قريشي روائي ولد في العام / 1954 / في إنكلترا لأب باكستاني وأم إنكليزية ، ولقد عانى الكثير من التمييز العنصري في بداية حياته بسبب لون بشرته الأسمر. هو اليوم من الروائيين الكبار والمبدعين المتميزين. له: ” بوذا الضواحي “، وله ” الحميمية “.

الجسد، رواية تعتمد فكرة بنيت على الخيال المتداخل بالنسيج السينمائي في حدود….

وهي من الروايات التي تعتمد أسلوب التشويق العالي الفنية، الذي يعتمد كثيراً على المفارقات المتولّدة من الحدث، ثم من الحالة، أو الأسئلة العديدة التي يسألها القارئ ويضيفها بنفسه إلى تلك الأسئلة التي يطرحها الكاتب في كلّ خطوة من خطوات الحدث المتولدة.

يضاف إلى ذلك الأسلوب الأدبي الجميل الذي يبرز لنا جلياً في الوصف الدقيق للتفاصيل، ثم في اللجوء إلى تقاطعات المونولوج الداخلي الذي يستوفيه الكاتب حقه، وهو إنما يقترب به كثيراً من أسلوب ( ماركيز )، وبخاصة في المقطع الأول من الرواية، حيث قسِّـمت الرواية إلى ثمانية مقاطع، اعتمد في ذلك على ( زمكان ) الأحداث/ إذا جاز لنا التوصيف، أي على مكان وزمان الحدث. وهذا ما سهّل عملية المتابعة للسردية من قبل القارئ.

وإن القارئ المطلع سيجد هذه المقاربة بين أسلوب الكاتب وأسلوب ( ماركيز ) جليّةً جداً وبخاصة في المقطع الأول كما قلنا. ويبتعد بعد ذلك قليلاً حيث نجده يقترب من أسلوب الحركة السينمائية، واللقطات السينمائية. وذلك في رسمه للمكان والأجواء وإضاءة المكان، ذات الدلالة المرتبطة بما يدور فيه من حدث. وتساعده هذه على إدخال القارئ إلى جوّه المتخيّل، ثمّ إلى طبيعة الفعل أو الحدث الجزئي الذي يدور فيه. أي المكان.

أكثر من كلّ ذلك، هي الفكرة التي بنى عليها الروائي روايته. فهي أهمّ عناصر التشويق التي تستحوذ على قارئ الرواية. فهي غريبة من حيث استحالتها، وعميقة من حيث الأسئلة التي تطرحها أو يمكن لنا – جميعنا – أن نطرحها، وهذه قد لا تحصى.

إنه لا يطرح فكرتها من أرضية قد تتعلق أو تتعارض مع الثوابت الدينية، أو المفاهيم الدينية. كذلك لا يطرحها من زاويةٍ علميةٍ صرفة، من حيث هي قابلة للتحقيق أو غير قابلة، فهو لا يناقش هذا الأمر. إنما يطرحها كقضية تنعكس على المفهوم الإنساني/ بمستوييه: الفردي أو الشخصي والمستوى العام الجمعي. ثم يناقشها من خلال عرضه للأحداث والحوارات ومستويات هذه الحوارات، وتعدّد الشخوص، وتنوع الأدوار الحياتية الاجتماعية لهذه الشخوص ونماذجها. كذلك من خلال طرح الأسئلة بالأسلوب السردي الروائي عالي الفنية، والسهولة في التعبير والتصوير. يعتمد في كلّ ذلك على دراية بعلم النفس. لكننا نرى كلّ ذلك بعيداً عن المباشرة وبعيداً حتى عن المفردات ذات الصلة بعلم النفس، إنما من خلال وصف تلك الشخصيات والرسم الدّقيق لتفاصيل حياتها/ على الصعيدين، المفهومي والممارسة أو السلوك. ولقد برع في كلّ ذلك بأسلوبٍ أدبيٍّ رائعٍ ودقيق.

” الجسـد ” رواية تتحدّث عن أديب وكاتب مسرحي في الستينيات من عمره، يعيش حياته ضمن تفاصيل هذا المستوى العمري وهواجسه. ثم يلتقي بمن يغريه بالقيام بعملية جراحية – لمّا تزل غير مشروعة قانونياً – لتغيير حياته بالرجوع شاباً يبدأ حياته جديدة. هذه العملية هي عبارة عن زرع دماغه – الذي سيعيش به – في جسد شاب ينتقيه. جسد غير جسده/ هو من بين الأجساد الموجودة في ثلاجة المشفى النائي عن الرقابة، حيث يحتفظون بالموتى من الشباب أو الشابات الذين ماتوا حديثاً. حتى إن بإمكان الراغب أن يختار جسد امرأة ليعيش حياة امرأة، ولكن بعقله الأساس، أي عقله هو.

وتقوم هذه الشخصية في الرواية بإجراء تلك العملية فيختار جسد شاب بمواصفات العصر، ومواصفات مثالية.. وكان قبوله خوض تلك التجربة مشروطاً: لمدة ستة أشهر يمكنه بعدها العودة إلى جسده الأول أو التغيير. فقبل العملية قال لزوجته بأنه مسافر لمدة ستة أشهر. وعليه، لن يكون قادراً على الرجوع إليهم بدون الجسد الأول…….

وهنا تبدأ الأحداث والمشكلات والأسئلة – التي تتبعها – بتشكيل سياق الرواية.

فإن تعرّف عليه أحدٌ ما مثلاً قد  يعيش كثيراً من الإحراجات والمشاكل التابعة، بالرغم من أنه قد تمكن من الحصول على هويّة جديدة واسمٍ جديد.

وتبدأ الأسئلة تطرح نفسها، من مثل:

هل صاحب ذلك الجسد الجديد من الأسوياء، أم من الشاذين مثلاً؟ هل له حياة عائلية سابقة؟ هل يمكنه العيش خارج المستوى والمسار العقلي الذي اعتاده؟ كيف سيعتاش، وماذا سيعمل باعتبار أنه – وهذا هو الأهم – لن يمكنه متابعة حياته: الكاتب المعروف. لكنه سيكون شاباً بكلّ المقاييس من جديد!!!؟

وباعتباره سيكون له كلّ شيء جديد، أيضاً سيعيش صراعاتٍ ومشاكل جديدة. وبخاصة أنّه قد يعيش تبدّلاً ( فزيولوجياً )، فهل هذا التغير ( الفيزيولوجي ) سيؤثّر على نمط الحياة الفكرية أو القدرات العقلية والميول والرغائب التي عاشها ما يربو على ستين سنة؟ فهل سيدفع ذلك إلى الحنين إلى الهويّة. إلى الشخصيّة التي اعتادها؟:

” لقد اشتقتُ إلى نفسي. واشتقتُ أيضاً إلى سروري ومتعتي ” ص145.

مع أنّ الأمرَ في المتخيّل إلاّ أنّ العودة إلى الشباب أمرٌ مغرٍ جداً، حيث سيعيش المرء حياة الشباب المليئة بالعنفوان والرغائب. إلا أنه قد يضعنا أمام استحقاقات واستحالاتٍ كثيرةٍ أيضاً. فمثلاً: لو تمكن من العودة إلى زوجته، كيف سيمكنه معاشرتها بجسدٍ غير جسده؟ وكيف سينظر إلى الأمر؟!؟  

كذلك سنرى استحقاقاتٍ واستحالاتٍ كثيرة وعديدة، ومن منظوراتٍ أخرى للحياة، يطرحا الكاتب على امتداد العمل الروائي. فمنها ما له خصوصيات مجتمعية وإنسانية. من أبرزها ربما، حين نقف أمام فكرة الموت.

ولكن بلا شكّ، إنْ خرجَ المرء من جلده سيخسر هويّته، وحتى سيخسر نفسه. فالعالمُ مليءٌ بالأوبئة خارجنا. فقط، الذي بلا مُثلٍ ولا تاريخ إنساني محترم هو الذي يمكنه أن يعيش خارج ذاتهِ بلا مبالاة. والبشر أصناف. ولهذا – باعتقادنا – اختار الروائي شخصيته ( بطل الرواية ) ليكون من النخبة الواعية والمثقفة، فاختاره كاتباً أديباً. ليضعنا أمام استحقاقات المنطقِ وازدحام الأبعاد والرّؤى والإشكالات حين تُطرحُ الأسئلة، وتتأكّد الأفخاخ….

وأوّل الاستحقاقات التي قد تزيد عن المشكلة الإنسانية حين وقف العالم أمام شرعية وقانونية الاستنساخ وأبعاده الإنسانية. أوّل الاستحقاقات التي سيطرحها القارئ لأن الكاتب لم يطرحها بشكلها المباشر، لكنه تعرّض إلى ذكر حادث حملٍ فقط: إذا حملت امرأته – أو امرأةٌ أخرى جديدة – من هذا الجسد الجديد، فهل يكون المولودُ ابناً للجسدِ، أم لصاحب الدّماغ؟ أم هو ابنٌ للاثنين معاً؟؟؟؟

” هذا أشبه بالحصولِ على طفلٍ من الشيطان ” ص141.

ثم تتابع الأحداث المليئة بالمفاجآت. وتتوالى معها الأسئلة التي قد لا يجد لها ( بطل الرواية) حلولاً غير التنقّل من مكان إلى آخر، أو الهرب….

يصادف كثيرين ممن سلكوا مسلكه ويتعرفون على بعضهم. فتزداد معها الأحداث والمشاكل مستحيلة الحلّ. فيقرّر العودةَ إلى جسده الأول. جسده الحقيقي، بعد انقضاء فترة التجربة مع الجسد الجديد. وحين يعثر على المكان الغامض للمشفى هارباً ممن كانوا يريدون سلبه جسده المثالي، يدخل فلا يجد شيئاً! كان مهجوراً وقد نُهب منه كلّ شيء. حتى الأجساد.

وهنا، لم يعد بمقدوره العودة إلى حياته السابقة:

” كنت غريباً على الأرضِ، نكرة، لا شيء، لا أنتمي إلى أيّ مكان، جسدٌ وحيد، محكوم عليه أن يبدأ من جديد في كابوس الحياة الأبدية”.

*ترجم هذه الرواية  ( خالد الجبيلي )، وصدرت عن دار ( ورد للطباعة والنشر والتوزيع )- سوريا – دمشق، عام 2006 . في 159 ورقة من القطع المتوسط.