ليس الجدلُ حول هذا السؤال بهذه المباشرة الفجة، لكنْ يُشار إليه مواربةً. الجواب سلبيّ عموماً، وينحو في جوهره إلى فصل الأدب عن السياسة ــ وهو أمر يبدو جيّداً ــ وإلى أنّ القسمة نظيفة: يحتكر الأدباء الأدب، والسياسيّون السياسة. لكن، قبل ذلك، يجب إخراج، إن لم يكن طرد، الأدباء من عداد المثقفين، حسب فكرة وجيهة، لأنّ المثقف يتدخّل بالشأن العام، ما يشمل السياسة وتوابعها ولواحقها، وما ينزع عن الأديب صفة الأدب، لو خالطت أعماله شُبهةً سياسية. بمعنى أدقّ: الأديب ليس مثقّفاً.
هذه النظرة تتضمّن تحذيراً للأدباء من التطفّل على المجال السياسي، أو منازعة السياسيين على اختصاصاتهم، لئلا يطمحوا إلى الحلول محلّهم في مسائل، ولو كانت تعنيهم، لكنّها ليست شأنهم. وهو أمر صحيحٌ أيضاً من ناحية الأمن القومي. لم يكن هذا التحذير في محلّه لولا السوابق الكثيرة التي نلاحظها في تاريخ السياسة والأدب، لا سيما العقود الأخيرة من القرن العشرين، بحيث يمكن القول إن الأدباء سطوا على مناصب هامّة في الدولة، تزيد عن وزارات الثقافة، وهي عادةً من نصيب كبار المثقّفين.
ولنا في الأديب أندرية مالرو، وزير الثقافة الفرنسي في ما مضى، أسوةٌ حسَنة، مع أنّه لا يمكن التغاضي عن مشاركته في الحرب الإسبانية، وكتابته رواية “الأمل”، وتعاطفه مع الثورة الصينية في روايته الشهيرة “الوضع البشري”، التي حازت على جائزة “غونكور” عام 1933، ومشاركته في المقاومة الفرنسية خلال الاحتلال. فإذا اعتقدنا أنّ مالرو استثناء، بسبب علاقته المتينة مع الرئيس ديغول، تبقى الشواهد كثيرة على هذا التعدّي، بل وبلغت أعلى المناصب.
لم يحدث هذا الخلط إلّا بعدما اعتبر مسرحيّون وروائيّون أنفسهم في عداد المثقفين، ولم يفرّقوا بين كتابة الأدب والدخول إلى عرين السياسة والتنطّح لمناصبها. وكانت لهم اسهامات مؤثّرة، حتّى أن الكاتب المسرحي التشيكي فاكلاف هافيل كان أحد مهندسي انهيار الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا، وأوّل رئيس للدولة بعد تحرّرها. ومثله الكاتب المسرحي أرباد كونز، الذي انتُخب ديمقراطياً، وكان أوّل رئيس لجمهورية المجر. ولا ننسى العلاقة الوطيدة التي جمعت الكاتب الكولومبي الشهير، غابرييل غارثيا ماركيز، مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو. وبالوسع إيراد الكثير من الشعراء والروائيين الذين لعبوا أدواراً سياسية، كبابلو نيرودا، وغراهام غرين، وماريو فارغاس يوسا، والعشرات غيرهم. ولئلّا نقتصر على العصر الحديث، فلنعدْ إلى أفلاطون وكتابه “الجمهورية”: هل كان كتاباً في الأدب؟
خلاصة القول؛ المخاوف من الأدباء في محلّها، ولقد تنبّهت السلطات في منطقتنا، بعدما فوجئت بالربيع العربي، إلى التمييز بين الأديب والمثقّف. واستدراكاً لنشوء طموحات سياسية لا شأن للأدباء فيها إلا بالتحريض عليها، جرى الفصل بينهما، لئلّا يكون نصيبهم السجن أو التعذيب أو التغييب، وربما السمّ، كابتكار روسي.
بيت القصيد أنّ الأديب ليس مثقّفاً. الأدب عالم مختلف. المثقّف يهتمّ بالشأن العام، وينخرط فيه. بينما الأديب يهوم في العلالي أو في المستنقعات، لكنْ لا أكثر من تهويم. المعنى أنّ الكتابة تذهب إلى الهموم الإنسانية الفردية والعاطفية والروحية، أو ما يحدث في القاع من جرائم وتعدّيات وفقر ودعارة.
هذا التمييز، عملت على إحيائه مؤسساتُنا الثقافية. فالأدب الذي يتطرّق إلى السياسة يُعتبر في حكم الممنوع. وأبسط دليلٍ منْعُ الكتب من الدخول إلى المعارض، وإذا حاولت التسلل، فمصادرتها، وكل دولة حسب اجتهادات رقابتها حول أخطارها. وقد نشط المنع خلال الفترة التي اندلعت فيها الثورات العربية، التي اعتبرت نوعاً من الفوضى الملهِمة للكتّاب ورواد وسائل التواصل، فطافت الكتب في الفضاء الافتراضي، لكنّها مُنعت على الأرض. هكذا تمكّن الإلكتروني من اختراق الحدود، بينما لم يسمح للورقيّ بتخطّيها، وكأنّه الأخطر، ما نبّه السلطات إلى مطاردة المارق الإلكتروني.
لم يكن المنع فاعلاً إلا بحرمان الأدب “المسيّس” من الجوائز، تقيّداً ربما بدعوى الفنّ للفنّ، وهي حجّة إبداعية مرموقة. وعلى هذا الأساس سيتصاعد المنع، مع موجة التطبيع القادمة على عجل؛ فإذا لم يأتِ الأدباء إلى الجوائز مطبّعين، فلن ينالوا حصّتهم منها.
ولئلّا يظن الأدب أنّه غُبن، نُذكّر بالقسمة العادلة، طالما يتقيّد السياسيون بعدم الاقتراب من الأدب، وفي حال كتبوا، فلا يكتبون سوى مذكراتهم، ولأغراض غير أدبيّة، بل سياسيّة بحتة، لتبرئة الذمّة عن أخطاء، وربّما جرائم، ارتكبوها أو لم يرتكبوها. بالتالي، على الأدب، إذا أراد أن يلتزم حدوده، أن يعمل بمقوله الفن للفن.
(العربي الجديد)