في القرن الماضي، سُجلت سابقتان مشهورتان من محاولات السياسة محاكمة الفن والأدب، هما الجدانوفية والمكارثية، كانتا على تضاد مع حرية الفكر، تولتهما الدولتان الأعظم، وكانت لهما أياد سوداء على الثقافة والمثقفين، ففي روسيا عولجت بالإعدامات والمنافي، وفي أميركا بجلسات تحقيق واتهامات بالخيانة وطرد المشبوهين من العمل، والقضاء على مستقبلهم.
ما كان لافتًا في الدول ذات التوجه الاشتراكي، أدلجة الثقافة وجعلها في خدمة السياسة وبناء الدولة الشيوعية، إلى أن ابتكر الالتزام كصيغة مقبولة من اليسار، ثم جرى تصحيحها إلى الالتزام بالقضايا الإنسانية، كعنوان عريض، فلم يعد الكاتب أو الفنان يتحرك في فراغ من القيم.
في المجال نفسه، هل يحق للأديب إبداء آراء سياسية؟ نعم، بصفته مثقفًا، يهتم بالشأن العام، ويحاسب على آرائه، ولا يحق له التذرع بما يكتبه من أدب، ما دام أنه كرّس فكره لتناول سياسات واقعية. صادفنا هذا الموقف مع شعراء وأدباء، استنُكر ما صرّحوا به حول الثورة، وانتقادهم خروج المظاهرات من المساجد. رحّب الموالون برأيهم، واتخذوه ذريعة لأسلمة الثورة، واتهموها بالأصولية والإرهاب. تفاقم النقاش إلى حدود توجيه الاتهامات بالخيانة والطائفية، كانت إدانة للثورة في عز انطلاقتها الشعبية، ولم تكن أكثر من مظاهرات واعتصامات، تطورت إلى ثورة سلمية يقودها شبان عزل، شارك بها الأهالي، بينما كان النظام يرتكب المجازر.
طاولت الانتقادات النتاج الأدبي والفكري للأدباء الذين أظهروا عداءهم للثورة، عندما كانت لا تزيد عن احتجاجات بعد، وكان الرد عليها، التذرع بأدبهم وقاماتهم الفكرية، في الدفاع عن آرائهم السياسية، وكأنما يشفع لكليهما دعاواهم. بينما كان الخلاف سياسيًا، وفي الواقع انحياز إلى موقف سياسي له وقع على الأرض. وإذا كان يصح انتقاده، لكن لا يجوز التعرض إلى إنجازهم الأدبي واعتباره سندًا لهم، وليس هذا امتيازًا أو استثناء وإنما يجدر الفصل بينهما. ولا جديد في القول، إن العالم واجه الكثير من هذه الإشكالات، إبان صعود الاشتراكية، وخلال الحروب العالمية، آخذين بالاعتبار، عدم ضرورة تمتع الموسيقار أو الشاعر والروائي مهما بلغ من العظمة بالحكمة السياسية، فإذا كان على صواب في الأدب، فلا يعني أنه على صواب في السياسة، والتاريخ القريب حافل بسقطات ارتكبها أدباء مثل الشاعر عزرا باوند والروائيين كنوت هامسن وسيلين، وإلى حد ما الفيلسوف هايدغر بخصوص النازية، وسارتر أيضًا في انحيازه لستالين في فترة ما. وقد بلغ التعنت ضدهم حد المطالبة باستبعاد إنتاج الفنان. كما في مطالبة إسرائيليين استبعاد فاغنر من تاريخ الفن، على خلفية موقفه من السامية.
ولقد بذلت جهود كثيرة لإنقاذ باوند وسيلين وهامسن من عواقب تأييدهم للنازية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولم يحاسبوا كمجرمي حرب، وإذا كانت قد جرت محاكمتهم فمن الرأي العام، وكان للأدباء دور في إدانتهم، وأيضا في إنقاذهم، فالمحاكمة كانت أخلاقية، بسبب موقعهم الأدبي كمثقفين من حملة قيم الحرية والإنسانية والعدالة.
عدا ما تتميز به محاكمات السياسة للأدب من انحياز أعمى، وهو أمر لصيق بها، تودي بها إلى إصدار أحكام متعسفة قصيرة النظر، فمن الأحكام السياسية من قبل الشيوعيين واليساريين جرى تصنيف نجيب محفوظ على أنه روائي البرجوازية الصغيرة، والدلالة على ذلك، الموظف المصري بطله الدائم. أين الفلاح والعامل والثوري والمناضل في رواياته؟ ما يعني أنه يكتب أدبًا لا يمثل الطليعة الاشتراكية. ولم يقصّر الإسلام السياسي في الحكم على نتاج إحسان عبد القدوس، متهمًا رواياته بالانحلال الأخلاقي والعفن والدنس وانعدام الضمير والدعارة والمتاجرة بالأجساد… هل هذه مصر؟ أين مصر المتدينة؟
ذلك في مصر، أما في سورية، فقد ارتكب أيديولوجيو الأدب مساخر، لا سيما في توزيع الأدباء السوريين “الضالين” إلى خانات بورجوازي وبورجوازي صغير وليبرالي رأسمالي ورجعي وعشائري، تحت راية معاداة التقدم والتحول الاشتراكي، ولم ينج سوى القلة من خيانة الأدب والدولة والمجتمع. تجددت في هذا الزمن على نحو آخر، فاستعيد التاريخ نفسه كمهزلة للمرة الثانية، وكأن الأولى لا تكفي، فأدلجوا الأدب بما يتلاءم مع الأنظمة الشمولية في معركتها مع ثورات الشعوب، وذلك بتصنيف الأدباء إلى طائفيّ ووهابي وأصولي وإرهابي، وتوعّدوهم بزبانية الجحيم الأرضي.
بالعودة إلى علاقة الثقافة بالسياسة، إن لكل اتجاه سياسي دعواه في امتلاك الصوابية السياسية، يدافع عنها بكافة الوسائل، ولقد تنازع العالم في القرن الماضي صوابيتان، كانتا على طرفي نقيض… وبالنسبة للقرن الحالي فالصراعات لا تهدأ، ولن تزول، وفي هذا يمكن القول، لا يعول على الصوابية السياسية إلا بقدر توافقها مع قيم العدالة والحرية، وهي قيم الأدب الراسخة، وليس عن مصادفة.
(العربي الجديد)