تؤدّي بعض مبالغات المفكّرين والصحافيين إلى زرع الأوهام في رؤوس الناس حول أنهم مستهدفون من حكوماتهم، والأغلب أنّ المقصود قادة ورؤساء، جاؤوا إلى السلطة بانتخابات نزيهة أو غير نزيهة، وربما بانقلاب، سواء كانوا إمبرياليين أو دكتاتوريين. وكي تكون قابلة للتصديق، تمنح الاتهامات طابعاً غامضاً، فيبدو وكأن هناك لجاناً مفوضة، ومستشارين من أجهزة الأمن، تعقد جلساتها في أقبية تحت الأرض، تختلق الأزمات في الدولة، وتديرها بغرض إلهاء الشعب عن مخططاتها. فتُوجّه أنظار الناس أينما شاءت، وتشغلهم بما شاءت، فيرزحون تحت ما ينجم عنها من تعليمات وإرشادات، بأسلوب عمل أشبه بما يروَّج عن الماسونية والمنظمات السرية التي تتحكم في العالم وتتلاعب به، من خلال قدراتها الرهيبة.
هذا التصور يجعل من الحكومات وكواليسها البوليسية عقلاً مفكراً يعمل حساباً للمستقبل، فلا يبتدع الأزمات فقط، بل الحلول الآتية في وقتها، كي يخدم مخططاتها، ويرتد عليها بسمعة طيبة تشبه سمعة ما يُدعى بالعناية الإلهية، فلا عجب أن أصبح بعض الرؤساء من الخالدين إلى الأبد.
ولقد أُشيع عن المفكر الأميركي تشومسكي أنه أحد مروجي زرع الأوهام، فقد اعتاد أن يقول إن أميركا الامبريالية تقف وراء كل ما يحدث في الكرة الأرضية، من أصغر الأشياء السيئة إلى أكبرها سوءاً، إلى حد أنه من فرط مبالغاته لم يعد يصدقه إلا رجل ساذج طيب القلب أو أحمق، وهؤلاء ما أكثرهم. أما ادعاءاته فلإثارة الضجيج، فتشومسكي، وأمثاله الذين يتمتعون بالذكاء، اعتادوا أن يكونوا تحت الأضواء، ما أوقع الذين يتابعونهم في الظلام.
لكن ماذا لو كان ما يقوله تشومسكي وأشباهه صحيحاً؟
إذا كان، فهذا يشير إلى أن الذين صدقوهم كانوا في النور، بينما الآخرون فكانوا يرتعون في الظلام. ما يحتم علينا إمعان النظر والتفكير، وهو أنّ الحاكم، سواء كان ملكاً أو رئيساً، أو قائدا ما، وحكومة مهما كان شكلها، هؤلاء في طرف، بينما يقبع الشعب في الطرف الآخر، أي في كل بلد هناك طرفان، وما ينبثق عنهما هو نتاج صراع هذين الطرفين، والمشهد الناجم عنه حصيلة التجاذب بينهما.
فالحكومة تريد أن تحكم شعباً صامتاً، صاغراً وحكيما يستمع إليها، ويصدقها ويتحمل شاكراً ما ينتج من مقرراتها، ويغض النظر عن تجاوزاتها، إلى حد أنه قد تبلغ الصفاقة بالحكومة ان تطلب من الشعب أن يحب الرئيس أو يعبده ويقدّم الأضاحي له. بدلاً من أن ينتقد أداء الحكومة أو يثور ضدها. بالمقابل ستوفر له حاجياته الأساسية، يدفع ثمنها ويسكت، ويصرف نظره عمّا لا يعنيه إلى ما يرفّه عنه.
لم تكن الحكومات تأتي بجديد، ثمة من سبقها إلى حل هذه المعضلة الشائكة، طالما على مدار التاريخ، سبقهم رعيل من أباطرة وطغاة، واجهوا على الطرف المقابل شعباً من العوام و”العبيد”، ولأنه لا تعادل بينهما، بالمقارنة بين أحجامهما، ينبغي استدراك ما قد يخطر للشعب، ماذا يكون سوى التفكير بالتمرد؟ حسناً، روما القديمة وجدت الحل، عبّرت عنه باختصار هذه العبارة اللاتينية التي اشتهرت: “أعطهم خبزاً وألعاباً”.
فأعطوا الشعب ما يسد رمقه، لئلا يشكو من الجوع. أمّا الألعاب فللترفيه عنه بمنافسات الفروسية ومباريات المجالدين وأعياد الحب ومساخره، هذا شعب سعيد. مع التقدم في الزمن، لم يعقل أن يكون شبع الشعب على حساب نزوات الإمبراطور، فمنح الشعب المزيد من الألعاب، والقليل من الخبز، أي المزيد من الرفاهية، والمزيد من الفقر… فاندلعت القلاقل والاحتجاجات، فجرت محاولات لقمعها، ما أدى إلى التمرد وقيام ثورات.
آخر هذه الثورات التي انتصرت في العصر الحديث، كان انتصار ثورة أكتوبر ونجاحها في التمدد خارج أراضيها، وأصبح لها تابعون في أوروبا وقارات العالم الأخرى، ما شكل تهديداً على الدول الرأسمالية، التي عزمت على منع الثورات في بلدانها، فقررت ألا تبخل على شعوبها، فأنعمت عليهم بالمزيد من الخبز مع الهامبرغر، بما يفيض عن حاجتها، فتقلّص هامش الفقر. أمّا دول الثورات، فلم تقصر بالخبز، وكان بما يسد الرمق لا أكثر، واستعاضت عن الألعاب، بالأيديولوجيا، وكانت تعج بالديالكتيك والاشتراكية العلمية والسيطرة على وسائل الإنتاج والمادية التاريخية… أي الرياضات الفكرية، كنوع من الترفيه الهادف…. لكن تناست، أو فاتتها قصة الحرية، أو غضّت النظر عنها، خشية أن يستغلها أعداء الشعب، مع أن الحرية كانت مثل الخبز، إن لم تزد الحاجة إليها أحياناً.
الخلاصة، أخطأ هؤلاء الذين يختلقون الأزمات ويديرونها، إذ أفلتت من حساباتهم، وسقطت دولة أكتوبر حتى بعد مضي سبعين عاما على قيامها. أمّا الدرس فيقول: مهما كانت الأفكار كبيرة فالتلاعب بها، لا يرفّه عن الشعب إذ تستحيل إلى أكاذيب.
(العربي الجديد)