ركّز الكثير من المحلّلين على فكرة أساسية تتمثّل في افتقاد المنطق في الحروب، وهو أمر صحيح من الناحية النظرية البحتة، فالحرب أصلاً ضدّ المنطق الإنساني والاجتماع البشري؛ إذْ ما الجدوى في قتل البشر بعضهم بعضاً؟ أليس في إيغال البشرية في الحروب تهديد بإفناء هذا الجنس العاقل، خاصة في الحرب الحديثة مع تطوُّر تكنولوجيا السلاح، وتعدُّد وسائل التدمير الشامل؟ وهذا قد يحصل، نتيجة خطأ بشري غير محسوب، فلا يعود هناك بشر ولا كوكب حافل بالحياة، فقط أرض يباب، وربما رماد أشلاء وعظام، لِما كان إنساناً وحيواناً؛ سوى كوكب حافل بالموت.
ببساطة، إذا كان ثمّةَ خلاف بين الدول، مهما كان تعقيده يمكن حلُّه بالمنطق، مع بعض التنازلات والمساومات. هذا في حال توافُر إرادة دولية عادلة وملزمة تأخذ بمصالح الأطراف المتنازعة؛ فالحرب لا تحلّ خلافاً، بل تُراكِم نزاعات، تؤجّلها، وتدرُّجها في دورات، فتغيب وتحضر، وفي الفترة الفاصلة بينهما، يجري التحضير للحرب التالية، من دون أن يُعمل حسابٌ للضحايا.
على الضدّ ممّا سبق، نشهد في الحروب أنّ أكثر العناصر استعمالاً واستهلاكاً هو المنطق، بحيث أصبح يسبق السلاح أو يعقبه، ويدير الحرب بالوعيد والتهديد والمفاوضات والهدن والدموع…في الوقت نفسه، جاهزيته في عمليات الإبادة والاستئصال؛ فالمنطق ليس لإحقاق الحقّ فقط، إنه لإحقاق الباطل أيضاً. وما يجري في الواقع، ليس غيابه بل تجييره من الأطراف في اختلاق حجج تساعد على الحرب واستمرارها، فالمنطق لا يجرد الأكاذيب من ادعاءاتها، بل يدعمها ويسوغها.
دائماً، كان هناك بشر يشجبون الحروب، ويدينون بأقسى العبارات أهوالها وفظاعاتها، ويطالبون بإيقافها، لكنهم تحت ضغط المنطق نفسه، لا يجدون مفرّاً من التصريح بأنه من الطبيعي أن يتقاتل البشر، طالما العدالة لا تجد أُذناً صاغية عند جميع الأطراف؛ فالحرب العادلة هي حرب لا بُدّ منها، بينما تكون القناعة الغالبة لدى المتنازعين قد انتقلت إلى مرحلة متقدّمة، يحكمها هدف نهائي لا رجعة عنه، وهو الانتصار بأي ثمن، كما حدث في حربين عالميتين، خُرقت فيهما جميع المواثيق والاتفاقيات الإنسانية الدولية؛ بالهجوم على سفن تجارية، استخدام الغازات السامّة الممنوعة، قصف المدن، قتل المدنيّين الأبرياء. أصبح كلُّ عمل، مهما بلغت درجة وحشيته يمكن تبريره باسم الضرورات العسكرية، أي لا ممنوعات، كل شيء مسموح به.
هذا درس من تاريخ القرن الماضي، أمّا النقلة الحاصلة في هذا القرن نحو استبعاد هذه الحروب العبثية، فلم تحدث تطوّراً إلّا في الأسلحة الأشد فتكاً. أصبحت الحروب مجالاً لتجربة الأسلحة على الأرض، من ناحية إيقاع أكبر قدر من الدمار، وإحداث عاهات وإصابات مميتة. النقلة المؤثّرة، كانت في مستويات التدمير والقتل، مردودها الفعّال كان في رفع مبيعات السلاح، واحتدام التنافس بين صانعيه.
المثال الحاضر، الأكثر تعبيراً عن التسيُّب في المنطق، يتجلّى في الحرب السورية، فالروس كانوا المدافع عن نظام مجرم وحلفائه، فقصفوا المناطق المحرّرة، ولم يستثنوا بيوت المدنيّين العزّل والمستشفيات والأسواق، واستخدموا الفيتو لمنع الممرّات الآمنة، ودخول المساعدات الإنسانية إلى البلدات المحاصرة. هذا حصل في قلب مجلس الأمن، الجزء الفاعل من “المجتمع الدولي”، مستعملين المنطق المراوغ وتصديره إلى الرأي العام العالمي، فكان تدمير المستشفيات وقتل الأطبّاء والجرحى والمسعفين على أنهم إرهابيّون، ومنع الأدوية والغذاء باعتبار المناطق المحاصرة حاضنة للإرهاب.
هل العلّة في المنطق؟ لا، دائماً ما يستند المنطق المراوغ إلى حقائق زائفة، تبرّر للقوّة همجيتها. المشكلة أنّ ليس هناك “منطق” محصّن، لا يستجيب لتلفيق الأكاذيب. وإذا كان هناك ما تنبغي علينا معرفته فهو ألّا منطق في الحرب، إلّا إذا كانت الأسلحة هي المنطق.
*المصدر: العربي الجديد