ابتسام تريسي
“كتابُ الظِّل” عمل جديد للروائية السورية ابتسام تريسي تضيفه إلى قائمة رواياتها، حيث صدرت هذه الرواية عن سلسلة الإبداع العربي في الهيئة المصرية العامة للكتاب. ههنا فصل من الرواية خصت به الروائية ابتسام تريسي موقع رابطة الكتاب السوريين
التقينا قبل الآن في عيد الرّبيع، كانت ترتدي ثوبًا أحمر ناريًّا، قدّمتْ لأريس باقة من الورد الجوري الأحمر، اقتربت منّي وصافحتني، كان جسدها يتضوّع برائحة الورد الجوريّ المسكرة.
اختارت ركنًا بجانب النّافذة وأشعلت سيجارتها، سحبت نفسًا عميقًا وراحت تحدّق بالغبش المتكاثف على النّافذة، مدّت يدها ونقشت فوقه شيئًا غامضًا، اقتربتُ منها.. نظرت إليّ بمودة وضحكت: “يبدو أنّك لا تتضايقين من الدّخان”. ابتسمتُ، وجذبت كرسيًّا وجلست قربها: “لا، كنت أعيش مع رجل مدخن لا يتخلّى عن سيجارته حتّى في الفراش”.
قهقهت، وضربت فخذي، وناولتني سيجارة: “حين تجالسين مدخنة مثلي لا بدّ لكِ من التّدخين ذلك أفضل من التّدخين السلبي”. أخذتها من يدها وسحبت نفسًا وأغمضت عينيّ على صوته كان يقول لي الكلام نفسه بصياغة أخرى: “المرأة التي لا تدخن ناقصة الأنوثة، أنتِ أجمل حين تدخنين”.
كنت آخذها من يده وأسحب نفسًا عميقًا يحرق صدري ويخنقني حتّى اعتدت على تلك اللذعة التي يُخلّفها في حلقي وأدمنتها.
سمعتها تقول: “لماذا تغلقين عينيك؟ الأفضل لكِ أن تبعديه عن ناظريك، إن لم تفعليالآن لن تستطيعي التخلّص منه”. أرغمت نفسي على فتح عينيّ، رأيتها تبتسم ابتسامة التبس عليّ معناها، سألتها لأخرج من حالة الاختناق التي شعرت بها: “كيف تستطيعين التّدخين في مثل هذا الجوّ النقي؟”.
سحبت نفسًا عميقًا من سيجارتها: “تقصدين كيف أجرؤ؟ كان شرطي الأساسي لأبقى هنا أن لا أُمنع من التّدخين بحجة الحفاظعلى البيئة.. لم أتوقع أن توافق تيلا، لكن على ما يبدو كانت تراهن على إرادتي في ترك التّدخين بعد أن أتخلّص من ذاكرتي، لكن أيّ ذاكرة تلك التي تريدني أن أتخلّص منها؟ ماضيّ مع أزواجي أم مع الرّجال الذين عشقتهم؟ طفولتي أم شبابي؟ لا أتوقع أن أنسى، أحيانًا أقول لنفسي إنّ وجودي هنا لن يدوم، هل يمكن أن تقوم الحياة على طرف واحد؟”.
قلت: “يبدو لي أنّ تيلا مجنونة أو لديها نقص في أنوثتها.. لا تكتمل الأنثى إلا بوجود ذكر، وإلا لماذا خلق الله البشر جنسين؟ كان بإمكانه أن يوحد النّوع ويريحنا.”.
ضحكت روز حتّى انقلبت على قفاها وشرقت بريقها، فأسرعتُ إليها بكأس ماء الورد.. شربته على دفعات ومسحت دموعها وهي تقول: “لا تدققي كثيرًا في أقوالي ولا تأخذيها على محمل الجد، لو سمعت تيلا ما أقول ستطردني من المحمية”.
: “المفروض أنّها قبلت وجودك كما أنتِ، ليس من حقّها أن تفرض عليكِ قناعتها، قد تكون هي المخطئة”. توقفنا عن الكلام وتصاعد الدّخان.
أكثر من مرّة نجحتُ في منع أذنيّ من سماع أصوات الكون من حولي. أحيانًا تتلاشى الأصوات وأشكّ أنّي فقدت السّمع نهائيًا! لكن كلّما وصلت إلى تلك المرحلة توقظ الموسيقا الليلية حواسّي وتثقب سمعي، قمت بسدّ أذنيّ بقطعة قطن قبل النّوم لكنّ ذلك لم يفلح في إبعاد الصّوت! ليست الموسيقا الغريبة وحدها بل أضواء تيلا أيضًا، هذه الليلة ظهرت متوهجة عند منتصف الليل على شكل يد امرأة قالت روز: “إنّها يد تيلا!”. ثمّ تشكّلت يد أخرى وظهر الجسد تدريجيًّا، ثمّ الرّأس.. وأصبحت امرأة الضّوء كاملة، أضواؤها تنوس عند الجذع والعنق وتبدو أكثر وضوحًا في اليدين والوجه.. ضحكت روز وقالت: “إنّها خدعة صغيرة تقوم بها تيلا للتأثير على عقول الفتيات وأوّلهن ابنتي”. قلت بجدية: “لكنّها غريبة حقًّا يا روز، أنا أيضًا أبحث عن تفسير منطقي لها، فهي ليست أضواء بالتّأكيد ولا أستطيع أن أصدّق أنّها إحدى معجزات تيلا كما يقولون”.
ما زالت روز متوهجة كما كانت منذ لقائنا في شهر شباط حينها نصحتني باستخدام ماء الورد لعمل “ماسك” لبشرتي المتعبة، وكان وجهها النّضر أكبر دليل على صدق نصيحتها.. تتمتع روز بمزاج ناريّ حين تهاجم أحدًا، سرعان ما يزول أثره في اللحظة التي تهدأ فيها الزّوبعة ويتلاشى الغبار.. تمتلك مرونة تمنحها المقدرة على احتساء القهوة والتّدخين والثّرثرة بأمور تافهة بعيدًا عمّا عكّر صفوها قبل لحظات. وضعَ اللون الأحمر روز في ورطة حقيقية من التباس المشاعر وتناقضها، أحيانًا يشعرها بالغبطة ويجعلها تتدفق بالحبّ، وأحيانًا يرميها على حافة اليأس؛ لذا تضع كلّ طاقتها في الأشياء التي تصنعها، لكنّها تفشل في ضبط نفسها تجاه الطّعام. سألتها ما الذي يجعلها تقبل على الطّعام بهذا الشكل. ابتسمت باستخفاف وقالت: “اكتسبت تلك العادة الكريهة أثناء زواجي الأوّل، كنت أفرغ طاقتي كلّها في الطّعام حتّى أنّي أحيانًا آكل من الثّلاجة مباشرة ولا أنتظر حتّى أرتب المائدة.. كثيرًا ما أنهض من النّوم ليلًا وأذهب إلى المطبخ وأفتح الثّلاجة وأتناول أيّ شيء موجود.. أطعمة باردة تزيدني اكتئابًا.. تمامًا كعلاقتي به.. جمّدت حواسي وغذّت الرّغبة الوحيدة التي أودت بي إلى إهمال نفسي على جميع الأصعدة.. تدريجيًّا صرت أرى الشّكل الفظيع لجسدي في المرآة يخيفني ويزيد اكتئابي، فحطمت كلّ المرايا، حتّى شعري لم أعد أمشّطه صار أشبه بليفة الحمّام..
هكذا كانت علاقتي به، اكتسبتُ بعض طباعه مع أنّي كنت أكرهها كثيرًا، لكن ليس من السّهل أن تعيشي مع رجل قرابة ربع قرن دون أن تتأثري به. لقد كنّا متوازيين في كلّ شيء لهذا انجذب كلانا إلى أناس جدد يمتلكون صفات مميزة ورفض كلٌ منّا الآخر”.
قلت: “الأكل بهذه الطريقة تعويض عن حرمان عاطفي”. ضحكت روز: “لا تنقصك المعرفة والحكمة”. سألتها: “ألم يشعر زوجك بأنّكِ على علاقة برجل آخر؟”. تأملتني مليًّا قبل أن تجيب: “ليس شرطًا أن تكون المرأة ذكية لتستطيع خداع الرّجل، المرأة تمتلك المقدرة على إقناع الرّجل أنّه الوحيد في حياتها وأنّها تموت فيه عشقًا في الوقت الذي تنام فيه مع آخر.. مع هذا كلانا لم يكن يحبُّ شريكه وعلى علم بخيانته.. هذا في حال قبلتُ تسميتها خيانة، أنا أراها إخلاصًا لمشاعري لا أكثر”.
أعلى التّل وراء بيت روز نبتت شجيرات باللّونين الوردي والأبيض من زهور النّسرين، كنت أعرف أنّ النّسرين من فصيلة العُلَّيق لكنّ روز أخبرتني إنّه من نباتات الفصيلة الورديّة، وأضافت ضاحكة من جهلي: “هذا من ذاك”. قلت بخبث لأسترد ماء وجهي: “ما الذي جعلك تخفينه خلف البيت ولا تزرعينه بين الورود الجورية؟”.
امتقع وجهها وشحبت بشرتها.. أخرجت من جيبها علبة السّجائر، أشعلت واحدة بعصبية ونفثت دخانها، وأوضحت: “لأنّه ثمرة إثم… تعالي”. شدّتني من يدي ودارت حول المنزل. هناك غرفة منفصلة مفتوحة النّوافذ لكنّ داخلها محجوب بالسّتائر، أزاحت السّتارة برفق، فرأيتُ فتاة شابة لم تتجاوز الثلاثين كما يبدو تقرأ في كتاب وهي مستلقية على السّرير.. أفلتت السّتارة من يدها وهمست: “إنّها نسرين ابنتي، أكثر من أربعين عامًا مرّت وهي على هذه الحال”.
لم أرَ نسرين قبل الآن لا في عيد الرّبيع ولا في القرية.. قلت بدهشة: “لماذا تحبسينها هنا؟”. تحسرت: “لستُ أنا بل المرض”. حينها انتبهت إلى كرسيٍّ متحرّك قرب السّرير! دام الصّمت بيننا زمنًا طويلًا لم أجرؤ على خدشه بسؤال.
تنقّلنا بين الحقول، كنت في تلك الأثناء أقطف الورود كما علّمتني بمقصّ كبير، ناديتها: “جورية، تعالي وانظري هنا”. اقتربت مني ونظرت حيث أشرت إلى الفراشات المختبئة بين بتلات الورد.. ابتسمت وقالت:
“عندما تنادينني جورية أشعر بقشعريرة تهزُّ جسدي، يتغيّر ملمس جلدي وتتفتح فيه مسامات العطر وأشعر أنّي ذهبت بعيدًا في عمق التّاريخ..
قلت وقد أسعدني تورّد وجهها من جديد: “جورية ما قصة نسرين؟ لقد خطفت قلبي، أشعر أنّ فيها شيئًا منّي”. ابتسمتْ بمرارة: “تلك قصة خاصة لم أشأ أن أخبرك بها، لدى المرأة دائمًا ما تخفيه، حتّى الثّرثارات من النّساء والحمقاوات، كلّ امرأة تحتفظ لنفسها بأسرار لا يمكنها البوح بها، أحيانا تخجل منها أو تتحاشى المشاكل. زهرة النّسرين مرتبطة بقصة حبّ لم تدم سوى أيام، كان ذلك في نيسان بعد أن مرَّ على زواجي سنة ولم أنجب خلالها، سمعت عن عطّار في البزورية[1] يبيع أعشابًا تعالج العقم.. حين دخلت الدّكان رأيته، كان جالسًا في الزّاوية على كرسيّ خيزران عتيق وقد مدّ ساقيه على كرسيّ خشبي واطئ، أنزلهما بحركة سريعة حين رآني، واعتذر عن قلة ذوقه في حضرة الجمال.. في الحقيقة شعرت أن تصرّفه المهذّب مبالغ فيه فلم أردّ، والتفتّ إلى صاحب الدّكان أسأله عن الأعشاب التي وصفتها جارة لي وقالت إنّ مفعولها أكيد.. العطّار سألني إن كانت الأعشاب لي أم لزوجي.. ثمّ أوضح: “من منكما العقيم؟”.
قلت بارتباك: “أنا”. سمعت صوته العميق كأنّه قادم من داخل جلدي يقول: “أيعقل أن تكون جورية مثلك عقيمًا، من الواضح أنّك مخطئة”. لم ألتفت، أحسست بمشاعر التبست عليّ ولم أعرف ماهي بالضبط، غيظ أم خجل أم؟
قال للعطّار: “أعطها زهور النّسرين، تستحمّ بمائها فتوقظ ما نام في زوجها”. لم يكن ارتباكًا ما شعرت به، انتفض جسدي بقوة وهو يلتفت إليّ ويمدُّ يده بحفنة من زهور النّسرين ويقول: “ربّما تحتاجين لشجيرة غاردينيا في المنزل، صحيح أنّ تربيتها صعبة وحسّاسة ولا تنجح حتّى مع خبراء الورد في المنازل، لكن إذا عرفتِ كيف تتعاملين معها وتجعلين زوجك يشمّ رائحتها يوميًّا فهي تنشط المراكز التي تتحكم في العواطف والرّغبة الجنسية في المخ”. ما صعقني في كلامه هو كيف عرف المشكلة الأساسية بيننا؟
سيطرتُ على خجلي ونظرت في وجهه، عندها حدث زلزال حقيقيّ في جسدي.. جعلني أهرب بنظراتي إلى محتويات الأواني الزّجاجية، تعثرت ببلاطة بارزة في أرض الدّكان وكدت أقع، ارتعشت يدي وأنا أحمل آنية تحوي زهورًا مجففة فتناثرت على الأرض.. قلت دون أن أدري: “لديك كمية أخرى من الزّهور؟”. قال بجديّة: “نعم، أحضرتها معي من تونس من جبل زغوان المشهور بزراعة النّسرين، هي في الفندق، أقيم هنا قريبًا، إن شئت رافقيني لأعطيك إياها”. نظر العطّار إلينا وابتسم.. خرجت من الدكّان دون أن أردّ.. سمعت العطّار يقول له: “لا تبع الماء بحارة السقايين، النّسرين أصله دمشقي أخذه الأمويون معهم إلى الأندلس وجاء به الأندلسيون إلى تونس.. وأنت تأتي لتزايد علينا؟”. سمعته يضحك ويقول للعطّار: “العاشق يعرف متى يقطف الوردة والنّسرين يحتاج إلى أن تستيقظ باكرًا لتحصل على روحه الكثيفة المعتقة بالزّيوت العطريّة.. لا يهم من أين جاء، المهمّ من يجلبه”.
انتظرته في الصّالة مرتبكة، فتح باب المصعد ونظر إليّ وأغلقه.. حفظت الرّقم ونهضت بعد دقائق وتبعته… وجدته وراء باب الغرفة المفتوح.. دخلت وكأنّي أسير في نومي، جلست على حافة السّرير.. فتح حقيبة صغيرة وأخرج منها علبة خشبية ملفوفة بشريط حريريّ.. فتحها وقدّم لي كعكًا يشبه من حيث الشكل “الغريّبة”، تناولت واحدة كانت رائحتها مدوّخة.. قال: “هذا كعك النّسرين يخبزه أهل زغوان بطريقة خاصة يعجنون اللوز بماء النّسرين ويقال إنّ الأندلسيين هم من صنعه أولًا.”.
أكلت الكعكة ووجدت يده تمتدّ بفنجان قهوة سريعة التّحضير.. تناولته ومع أوّل رشفة شعرت بأمان مفاجئ.. رغبت في تلك اللحظة أن أخلع حذائي وأتمدّد وأنام… أغمضت عينيّ وتمددت على السّرير فخلع حذائي! شعرت أنّي أودّ أن أتخفف من ملابسي وهذا ما فعله.. غفوت للحظات.. نعم غفوت، لم أعد أشعر بالقلق، استسلم جسدي تمامًا، ماذا يوجد داخل الكعك والقهوة؟ سألت نفسي ولم أجد إجابة!
سافر بعد شهر من دون أن يودّعني ولم يعرف أنّي حملت بابنته في تلك الفترة.. ولم يعرف زوجي أنّ البنت ليست ابنته، تعلمين أنّي أزرع النّسرين ليس من أجل العطر ولا من أجل ذكراه الجميلة بل لأجل معاقبة نفسي على ذلك الإثم الذي اقترفته.. كيف تعتقد العرّافة تيلا أنّ الاندماج في أرواح الزّهور يخلّصنا من الآثام؟ ليتها تفهم أنّها ليست خلاصًا بل هي عقابٌ قاسٍ”.
سألتها: “من يتابع علاج نسرين؟”. قالت: “جميع الوصيفات لكنّ العرّافة هي من يهتم بها شخصيًّا، لا أعرف سبب تعلّق تيلا بنسرين ربّما إن علمت السّبب أفهم لماذا رفضت ابنتي العودة معي إلى دمشق، ربّما يكون لتلك اللوحة التي أهدتها إياها تيلا ذلك الأثر السّحري في انجذاب الفتاة لها، أكاد أجزم أنّها إحدى تعاويذ تيلا التي تستخدمها للسيطرة على فتيات المحمية.”. سألتها إن كان بإمكاني أن أرى اللوحة، قالت إنّها سترافقني مساء بعد انتهائنا من العمل لتريني إياها.
كنّا أنا وجورية في تلك الأثناء ننقل الأكياس الصّغيرة التي زرعتُ فيها بذور الورد المهجّنة ونغرسها في الأرض المحاذية للمنزل.. فات أوان زراعة الجوري منذ نهاية شهر شباط، لكنّ روز احتفظت بالشتلات في جوّ بارد ثمّ أخرجتها بعد أنّ اشتدّ عودها لتغرسها في الأرض.. حين انتهينا من العمل رافقت روز إلى غرفة نسرين، كانت نائمة، همست أمّها في أذني: “لن نستطيع الدّخول، لا أظنّ الأمر بهذه الأهمية، أذكر أنّ اللوحة تمسّني بشكلٍ مّا، فأنا أنثى لا أهرب من أحد، مثل تلك الموصوفة في التّرتيلة، والتي تقصّى عاشقها آثار قدميها في مقابر الفراعنة، وجبال الصّين، ودمشق.. وتفنّن في ذكر ألوانها وأطيافها، وطلب منها الغفران؛ لأنّه مثقل بالذّنب والوجد! مثلي تمامًا تلك الوردة التي لا تطيق الحرارة ولا الرّطوبة وتحتاج لقلب تسكنه وتنام”.
خلال الفترة التي ساعدت فيها روز بغرس الورد علّمتني طرق زراعته عن طريق “العُقل” و “التّطعيم” وأخبرتني عن الأزمنة المناسبة لذلك ودرجات الحرارة والظلّ وطريقة الرّيّ. وحموضة التّربة وقلويتها.. ونسب السّماد فيها.. والتّقليم الأخضر الذي يساعد الجوري على النّموّ في بداية الخريف، والتّقليم الجاف في نهاية الشّتاء..
كنّا نقلّم شجيرات الورد حين دخلت شوكة في إصبعي ونزفت بشدّة وسال الدّم فوق الأوراق الخضر.. أسرعت روز إلى المنزل وأحضرت لي شاشًا ربطته على يدي وقالت: “الورد لا يجرح سوى الورد”. ابتسمتُ لدعابتها: “في حضورك يتحوّل الشّوك وردًا”.. ضحكت بقوة وضربت كتفي وقالت: “من أين تعلّمتِ هذا؟ ذكّرتِني بشخص منافق كنت أظنّه المنقذ الذي سينتشلني من هوّة اليأس التي وقعت فيها خلال ربع قرن من زواجي.. انجذبت إليه واستمرت علاقتنا السّرية أشهرًا! الغريب أنّ تلك العلاقة عمّقت علاقتي بزوجي، صرت أشعر بانسجام كبير معه، ستضحكين لو عرفتِ أنّي بدأت أتراجع عن فكرة الانفصال وأنّ ذلك الشّخص كان الشّرارة التي أجّجت نار علاقتنا من جديد، كان يمطرني بعبارات شعرية، يتغزّل بي كيفما تحركت ويشعرني أنّي ملكة جمال.. فآتي زوجي مكتنزة بالثقة ومتدفقة بالعاطفة وجاهزة لاستقبال مائه… لكنّه في تلك الآونة كان قد أنهى إجراءات الطلاق!”.
لا تشبه روز – روحيًّا- الجوري الشّهري الأبيض والزّهري وحتّى البرتقالي والأصفر، يناسبها اللون الأحمر الخمري والأسود، تلك الألوان هي الأقرب إلى شخصيتها الزّئبقية.
هذا الصّباح جاءتني ووجهها مكفهر وشعرها لم يسرّح، أخبرتني أنّها: أضاعت أيقونتيها، لم أفهم مباشرة أنّها تقصد مشبك شعرها ودبوس ثوبها.. جلستْ على عتبة الباب وأشعلت سيجارة وتمتمت بغيظ: “فأل سيئ، لن أبقى هنا إن لم أجدهما”. قلت: “ابحثي جيدًا، أحيانًا يكون الشّيء قريبًا منا ولا نراه”. حدّقت فيّ باستغراب وكأنّي قلت لغزًا.. ثمّ ضحكت، ونهضت، نفضت ثوبها من الغبار ودعتني لشرب القهوة معها، في الطّريق أخبرتني أنّ جدتها لأبيها أورثتها الاعتقاد بأنّ الجان يستعيرون أغراض البشر، لكنّ جدتها لأمّها وهي إنكليزية نسفت ذلك الاعتقاد حين فقدت مشبكها ودبوسها أثناء وجودها في بيتهم. قالت للبنات: “الجنية التي سرقت منكنّ المشبك والدبوس تخرجه حالًا فأنا أعرفها وسأعاقبها إن لم تفعل”. فأسقطتهما شقيقتها وردة في البحرة[2] كي تتجنب العقاب لكنّ الجدّة الذّكية قرأت وجوههنّ، شدّت وردة من شعرها وأجبرتها على الغوص في الماء وإخراج الدّبوس والمشبك، وردة كانت تعتقد أنّ جدّتها ستفسّر اختفاءهما الآني باستعارة الجان لهما ولم يخطر ببالها أنّ اختلاف البيئة والمعتقدات سيوقعانها في الفخ.
أهدت الجدّة المشبك والدّبوس لروز قبل سفرها، كان إرثاً غالياً لم تفرط به طيلة حياتها.
حين بحثنا في المنزل وجدناهما في الفراش المنفوش، لم تكن روز قد رتّبته بعد استيقاظها وكان من عادتها أن تضعهما على الكمودينة بجانب السّرير قبل أن تنام وحين لم تجدهما ظنّت أنّهما ضاعا.. كثيراً ما تمنّت روز لو سافرت وعاشت مع جدتها في إنكلترا كي تكتسب منها تلك القوّة الرّوحية التي تتمتّع بها وطريقتها في التّفكير، لكنّها تركت لها وردة تيودور بما تحمله من دلالات ومعانٍ.. ليست قيمتها المادية فقط ما جعلها تتمسك بها بل المعنوية أيضًا.
سألت روز وأنا أتأمل الوردتين المتعانقتين في مشبكها الذهبي، إحداهما من الألماس المضيء والثانية من العقيق الأحمر: “ما سبب تسميتهما بهذا الاسم؟”. قالت: ألم تقرئي عن حرب الوردتين؟ لقد دامت ثلاثة عقود بسبب السّيطرة على عرش إنكلترا بين عائلة يورك التي كان شعارها الوردة البيضاء وأسرة لانكاستر التي كان شعارها الوردة الحمراء، إلى أن وحّد الأسرتين القائد هنري تيودور بعد انتصاره في معركة بوسوورث وتشكّل شعارٌ جديد جمع الشّعارين السّابقين وسُمي وردة تيودور”. قلت: “ليس عبثًا أن تقوم حرب من أجل الورد، أمّا تسمية الحرب بهذا الاسم فقط لأجل الشّعار فهو العبث بعينه”.
شكسبير هو من أطلق هذه التّسمية على الحرب في مسرحيته (هنري السّادس)، الرّجال يتقنون المزاوجة بين الأضداد، أمّا النّساء فيعرفن كيف يدلّلن الورد ويرفعنه فوق العرش. جدتي كانت مغرمة بزراعة الورد الجوري، حديقتها كانت تحتوي على أنواع كثيرة وألوان فذة لم أرها سوى عند روز، أحتفظ بذكرى منها، كانت ورودها كثيفة البتلات وقصيرة وعريضة قياسًا لحجم الورد الذي أعرفه.. وضّحت روز السّبب بأنّ زهور جدتي كانت مصابة بما يُسمى “الرّأس الكثيف” وهو مرض فيزيولوجي يصيب الورد في شهر كانون وتكون الحرارة حينها تحت الخمس درجات.
لم أكن أهتم، فقد أحببت شكلها هكذا! هناك ذكرى أخرى مزعجة بالنّسبة لي جعلتني أشكّ لفترة طويلة أنّي أملك طاقة سلبيّة لا يحبّها الورد فقد كانت أعناقه تنحني نحو الأسفل بعد أن أقطفه بوقت قليل. علّقت جورية: “لا علاقة لطاقتك بالأمر، هذا أيضًا مرض نسميه مرض “العنق المنحني” لا شكّ أنّكِ قطفت الورد قبل اكتمال نموه، وحامل الزّهرة ضعيف لا يستطيع حمل البرعم، كنتُ مصابة به حين انفصلت عن زوجي الأوّل”.
قلت: “ربّما ابتعادك عنه ومقارنته بالآخر جعلا الطّاقة الإيجابية عندك تنمو على نحو أقوى خاصة في لحظاتكما الحميمة”.
قالت: “نعم، لكن الانفصال بيننا تمّ، وارتبطت بالآخر، لم تمرّ سنة حتّى اكتشفت الفخّ الذي وقعت فيه، ربّما كان زواجي الثّاني ردّة فعل لا أكثر، باختصار كان اختيارًا أحمق. بعدها اقتحم حياتي شاب أصغر مني بعشر سنوات، أقنعني أنّه منقذي من كلِّ الانكسارات والخيبات! لكنّه كان طمّاعًا وتافهًا وكسولًا لا يحبّ العمل، حاول استغلالي على الرّغم من أنّه لم يكن بحاجة لذلك، يكفيه أن يتمنّى ليحصل مني على ما يريد!
ستضحكين لو عرفتِ أنّي تزوجت الثّالث لأداوي جرح الثّاني.. الثّالث كان مستبدًّا ومستعدًا لعمل أيّ شيء في سبيل الحصول على ما يريد. غالبًا ما كان يفقد السّيطرة على نفسه ويتملّكه الغضب والحماقة والجنون.. لم أعرف أنّه يعمل في التّهريب وحين واجهته، قال إنّه عملٌ طبيعي وهو يقوم به من باب حبّ المغامرة، كان غرامه بالأحمر يصل حدًّا خطرًا إلى درجة مخيفة. ربّما كان ذلك بسبب عمله السّابق فقد كان ضابط أمن قبل أن ألتقي به.. في بداية علاقتنا ظننت أنّ اللون الأحمر سينقذني من الخطر.. لكنّ المؤشر الدّموي كان فوق العادي.. لم يكن من هؤلاء الذين يحبّون المغامرة فقط بل من الذين يسفكون الدّماء في سبيلها!
سألتُها باستغراب: “كيف عرفتِ ذلك؟”.
قالت: “كلّ شيء في تصرفاته كان ينطق بالحقيقة، كان يتمتع بالرّسوم العارية وبالنّساء ذوات الصّدور الكبيرة، ويجنّ حين يمارس الجنس معي، كان يشعرني دائمًا بالنّقص وأنّي لا أستطيع أن أحتويه.. لم أفهم في البداية أنّها حالة ارتكاس إلى تجربة الرّحم حيث الأمان.. رغبته بالتكوّر والعودة إلى هناك مرعبة! كان يزعجني بارتدائه الثّياب الزّاهية ذات الألوان المتوهجة، أشعر بالخجل عندما أرافقه في الأماكن العامة.. دلالة تلك الألوان كانت تربكني.. خاصة حين يترك العنان لجسده ليعبّر عمّا بداخله من جنون وشهوة وحماقة من خلال الرّقص أو إغواء الأخريات ذوات الأجساد المكتنزة.. كثيرًا ما فكّرت في تدخّل جراحي لتكبير صدري ونفخ خدودي وشفاهي.. لكنّي استطعت التّخلّص من حصار تلك الأفكار السّخيفة حين وقعت في الحبّ للمرة الرّابعة.. لماذا لا تضحكين؟ الرّابع عشت معه علاقة خارج إطار الزّواج يأتيني ساعة أشاء وأتخلّص منه ساعة أشاء.. لكنّي وصلت معه إلى مرحلة لم أعد أطيق جسدي، كان ماديًّا وساذجًا لا يفكر في احتياجاتي وعواطفي، يأتيني وأنا في مزاج سيئ ولا يقدّر أنّي لا أستطيع التّواصل معه وأنا على تلك الحال ويتصرّف كالأطفال، كلّما اعتذرت عن مشاركته السّرير يتهمني بأنّي لم أعد أحبّه، كان من الصّعب أن يفهم أنّ المرأة لا تستطيع الفصل بين عاطفتها ورغبتها في الجنس، وأنّها في حاجة للملامسة والتّهيئة، في حاجة للحبّ أولًا قبل أن تشتعل بالرّغبة.
قلت: “الرّجال معذورون فهم يفكّرون من خلالهم ولا يعرفون أنّ الجهاز الحوفي المسؤول عن العاطفة يسيطر على جزء كبير من الدّماغ لدى النّساء”. ضحكت روز وقالت: “بصراحة أنتِ تدهشينني بطريقة تفكيرك العلمية والحيادية وأكاد أشكّ أنّ العاطفة يمكنها أن تسيطر على تصرفاتك بالشّكل الذي حدث معي، لقد أحسست أنّ شقوقًا في قلبي تنزف، تلاشى الأخضر داخلي، لون أحمر غامق احتلّ كلّ أحاسيسي”.
أنا أيضًا كنت أنزف كالمسيح على الصليب حين أفقت من غيبوبتي ورأيت وجه ريكا وهي تبتسم تلك الابتسامة التي يلتبس فيها الخبث بالشّعور العارم بالتّفوق والنّصر مع الحنان الزائف، كانت النّوافذ مغلقة والسّتائر مسدلة، وعتمة خفيفة تشحن جوّ الغرفة بالكآبة.. حين سألتها أين أنا، أين خوان؟ قالت: “اطمئني كلّ شيء على ما يرام، سيعود بعد قليل”. لم أفهم شيئًا فقد دخلت ثانية في الغيبوبة!
****
أجمل ما علّمتني إياه جورية صناعة مُربَّى الورد.. تلك الثّقافة الرّاقية التي برع فيها سكّان سوريا.
اشتريته من الأسواق ولم يعجبني طعمه ولا رائحته. قالت روز: “إنّ الخطوة الأولى في صناعة مربّى الورد اختيار نوع الورد ولونه.. السّوريون يزرعون نوعًا من الجوري خاصًّا بالمربى لا تعرفه باقي الدّول حتّى المجاورة لهم؛ لذلك ترين لونه في الأسواق غامقًا أقرب إلى البني ورائحته خفيفة وأيضًا كمية السّكر فيه كثيرة.. حتّى الذي يصنعونه من الجوري الوردي اللون لا يحتوي على الرّائحة والطّعم نفسه، فالجوري الوردي اللون أنواعه كثيرة ودرجات اللون فيه مختلفة؛ الأقرب إلى الجوري الخاص بالسّوريين هو الجوري الوردي الشّهري لونه أزهى قليلًا وبتلاته أكبر وأعرض وأقلّ كثافة، مربى الورد السّوري يتميّز بلونه ورائحته النّفاذة وطعمه ويكاد يصدر موسيقى تحت الأسنان أثناء المضغ.. ذوقيه وقولي لي رأيك”.
قلت لروز وأنا أودّعها: “كان من المفروض أن تكون هديتي لنسرين لكنّها الآن غير مستعدة لتخوض تجارب من أيّ نوع في المحمية.. لعلّك ترضين بأن تقبلي هديتي بالنّيابة عنها”. قالت: “بالتّأكيد يا فتاة، لم أشعر في حياتي كلّها بمثل هذه الحميمية مع أيّ إنسان، أكاد أشمّ فيكِ رائحة لا تفارقني.. بيتي لن يكون بعيدًا ستزورينني كلّما وجدتِ وقتًا، وسنتابع أحاديثنا.. لقد أحببتك يكفي أن تعلمي ذلك”.
****
كتبت تيلا في “كتاب الظّلّ” عن روز:
لا نستطيع أن نقضي حياتنا كلّها ونحن نعوّض عن أخطائنا؛ لذا يجب أن تكون غايتنا محصورة في تحمل مسؤوليتنا والعمل على تحقيق توازننا الخاص، واكتشاف الجوهر النّقي لذواتنا، وكلّما توازنا باتّجاه النّور صارت أنفسنا أصفى وأقلّ ارتباكًا وأصبحت علاقتنا بالآخر في مستوى أفضل. كانت روز في حاجة إلى شريك أكثر روحانية كي تكتشف جوهر أعماقها، امتلكت ذلك الإحساس بأنّ هناك شخصًا يستطيع أن يحتويها ويقترب من الكمال في علاقته الحميمة معها، لكنّها وصلت إلى قناعة مغايرة – بعد العلاقات الفاشلة التي خاضت غمارها- بأنّ الشّخص الملائم لها والخاص بها غير موجود على الأرض. كان بإمكانها أن تستمر في التّفاهم مع الآخرين عن طريق التّسوية، لكنّها كرهت ذلك الأسلوب الذي يضطرها في كلّ مرّة إلى مزيد من التّنازل وإلى تعميق موضع الجرح.
فاختارت أن تضع قدمًا في المحمية وأخرى خارجها.. لا أراهن على بقائها هنا؛ فروز لا يناسبها هذا العالم ولا تستطيع الاستغناء عن الرّجال.. ما يربطها بالمحمية الأمل في شفاء ابنتها فقط، بعد ذلك ستغادر بكلّ تأكيد، ستغادر تاركة ابنتها إن اختارت نسرين البقاء.
****
لم أتوقع حين أنهيت الفصل الخاص بروز أن أجد في كتاب تيلا مفاجأة مذهلة.
قطعت تيلا حديثها عن الوصيفات، وكتبت بحبر مختلف فصلًا صادمًا بمجرد أن قرأت العنوان دار رأسي وهبط الدّم في القلب وخذلني جسدي فاستقبلته الأريكة وغبت عن الوعي لدقائق.
[1] البزورية: سوق العطّارين في دمشق.
[2] بركة ماء صغيرة وسط أرض الدّار تمتاز بها البيوت العربية في سوريا.